كلود أبو شقرا
“آيا صوفيا” كاتدرائية كانت الأضخم في زمانها وتعد نموذجاً للعمارة البيزنطية، ومسجد يعدّ نموذجاً للزخرفة العثمانية ومتحف يشهد على روائع الحقبات التي توالت على هذا البناء، الذي يعتبر من أكثر المتاحف في العالم استقطاباً للسياح وإحدى عجائب الدنيا. إلا أن هذه التحفة التي تشهد على عظمة العقل البشري
تصدّرت الأخبار السياسيّة في الفترة الأحيرة، على أثر ارتفاع أصوات بإعادة وجهها الديني إليها.
بعد حظر دام عقوداً، أدى آلاف المسلمين الصلاة أمام متحف أيا صوفيا التاريخي في تركيا احتجاجا على قانون سنه كمال أتاتورك العام 1934 يمنع إقامة شعائر دينية في هذا المسجد، وبتحويله إلى متحف، وهتفوا: “اكسروا السلاسل وافتحوا مسجد أيا صوفيا” و”الله أكبر” قبل أن يؤدوا الصلاة.
احتجاج سياسي
تمنع قوانين تركيا العلمانية المسلمين والمسيحيين أداء الصلاة بشكل رسمي داخل المتحف، وقال صالح تورهان، رئيس جمعية شبان الأناضول التي نظمت الاحتجاج: “الإبقاء على مسجد أيا صوفيا مغلقا يمثل إهانة لسكاننا البالغ عددهم 75 مليون نسمة ومعظمهم من المسلمين، ويرمز إلى سوء معاملة الغرب لنا”. وقد رفضت الحكومة طلبات من المسيحيين والمسلمين لإقامة الصلاة بشكل رسمي في ذلك المكان المهم لكلا الديانتين من الناحيتين التاريخية والروحية.
آيا صوفيا كانت أكبر كاتدرائية في العالم لنحو ألف عام قبل فتح القسطنطينية في القرن الخامس عشر، عندما اشتراها السلطان محمد الفاتح من المسيحيين بأموال المسلمين وحولها إلى مسجد، وسرعان ما قبل سكان القسطنطينية القديمة (اسطنبول حاليا) الولاية الإسلامية على المدينة واعتنقوا الإسلام تدريجاً، وأطلق السلطان محمد الفاتح على المدينة اسم “إسلام بول” أي مدينة الإسلام، وقد حرّف على مر الزمان ليصبح اسطنبول.
يبدو أن حكم حزب العدالة والتنمية الذي يستند إلى خلفية إسلامية، قد شجع إسلاميي تركيا على مثل هذا الاحتجاج الذي كان ضربا من الأحلام في فترة حكم العلمانيين وسيطرة الجيش على الحياة السياسية على مدار العقود الماضية.
تحفة فنية تاريخية
على أنقاض كنيسة شيدها الإمبراطور قسطنطين العظيم واحترقت في أعمال شغب، بنى الإمبراطور جوستنيان كنيسة آيا صوفيا على الطراز البازيليكي المقبب أو domed Basilica ، ويبلغ طول هذا البناء الضخم 100 متر وارتفاع القبة 55 متراً أي أعلى من قبة معبد الپانثيون وقطرها 30 متراً .
كلف جوستنيان المهندسين المعماريين ميلتوس من إزيدوروس Miletus of Isidoros وأثميوس من تراقييس Athemius of Tracies (هما من آسيا الصغرى) بناء هذا الصرح الدينى الضخم في النصف الثاني من عام 532 وانتهى العمل فيه عام 537. جلب جوستينيان أحجار فناء الكنيسة والأعمدة والرخام والبازلت والغرانيت من مصر وبعلبك وأوبْوا وأثينا وروما، وأنفق عليها 360 مليون فرنك ذهبي واستخدم في بنائها 10 آلاف عامل، حتى قيل: ” لم يشهد التاريخ مثل هذا البناء منذ آدم، ولا يمكن تشييد أي بناء مثيل له”.
كان الإهتمام موجهاً نحو تجميل البناء وزخرفته من الداخل، وقد سخّر جوستنيان إمكانات الإمبراطورية لذلك، فجزء كبير من الجدران مغطى بألواح من الرخام بأنواع وألوان متعددة، وزينت السقوف بالفسيفاء، على الرغم من أن معظم الرسوم غطيت في عصر الدولة العثمانية بطبقات من الجبس ورسمت فوقها زخارف هندسية وخط عربي، إلا أن هذه الطبقات سقطت في ما بعد وظهرت الرسوم الأصيلة.
بعد حوالي عشر سنوات من تشييدها تصدع الجزء الشرقى نتيجة هزة أرضية وسقط جزء كبير من القبة الضخمة، فأمر جوستنيان بإعادة بنائها أكثر أرتفاعا من السابقة، ودعم الأساسات التي ترسو عليها القبة، فصمدت أمام عوامل الطبيعة والأحداث والحروب…
استمرت الكنيسة كمركز للمسيحية فترة طويلة حتى دخول الدين الإسلامي القسطنطينية (1453) فصودرت وحولها السلطان محمد (ابن السلطان عثمان مؤسس الدولة العثمانية ولقب بالفاتح لأنه أكمل حلم والدة وفتح القسطنطينية، أسطنبول حاليا) إلى مسجد، في ما بعد بنى المآذن الأربع حولها في شكل إسطواني وقمة مخروطية، إلا أنها لم تؤثر على الهندسة البيزنطية، وظلت أيا صوفيا مسجداً حتى بداية القرن العشرين عندما حوّل أتاتورك المبنى إلى متحف.
ثمة حكايات نسجت حول بناء هذا الأثر الضخم، منها أنَّ الإمبراطور جوستينان حلم ذات ليلة بأنَّ رجلاً عجوزاً وقف في موضع المسجد الحالي، وحمل بيديه صينية عليها خريطة البناء، وأمره بتشييد كنيسة حسب مواصفات الخريطة، وعندما أستفاق من نومه استدعى مهندسه المعماري الذي أخبره بأنه حلم بالرجل العجوز نفسه…
يروى أن السلطان محمد الفاتح دخل المدينة عند الظهر وتوجه إلى كنيسة آيا صوفيا، وقد اجتمع فيها سكان المدينة ومعهم كهنة ورهبان كانوا يتلون صلوات، وعندما اقترب من أبوابها خاف المسيحيون خوفاً عظيماً، ففتح أحد الرهبان الأبواب للسلطان الذي طلب منه تهدئة الناس وطمأنتهم والعودة إلى بيوتهم بأمان، وأمر الفاتح بعد ذلك بأن يؤذن في الكنيسة بالصلاة إعلانًا بتحويلها إلى مسجد وأدى أول صلاة فيها وهي ركعتين شكر لله.
آيا صوفيا مسجدًا
الحاجة إلى أداء صلاة جماعية لدى المسلمين الفاتحين في منطقة مسيحية تخلو من المساجد، الأخذ في الاعتبار الظروف الطبيعية للمدينة من حيث الطقس البارد والممطر طوال السنة، وثلوج موسم الشتاء… كل هذه العوامل كانت وراء صدور فتوى تحويل الكنيسة إلى جامع والاستفادة منها بدلا من تركها على حالها المهجور.
أصدر السلطان الفاتح أوامره بإزالة الصليب من أعلى القبة وفي أماكن بارزة، وبنيت مئذنة في جدار الكنيسة من الخارج، ووضع منبر خشبي في الجانب الأيمن من رواق الصلاة، وتركت الزخارف والنقوش والرموز المسيحية وصور المسيح ومريم على الجدران والسقف. وكان الأتراك وضعوا غطاءً فوق هذه الصور، لكنهم كشفوا عنها عندما أصبح المبنى متحفاً، كذلك أضاف إلى الجدران آيات قرآنية وأربع لوحات كتابية ضخمة دائرية الشكل في أعلى الأعمدة الأربعة الرئيسة وفي قلب القبة من جهة المحراب، كتبت عليها كلمات : “الله، محمد، أبو بكر، عمر، عثمان، علي”.
تستند القبة المركزية على أربعة أعمدة غرانيتية ضخمة ومستديرة قطرها ثلاثة أمتار عالية الارتفاع. وللجامع باب واحد كبير مفتوح لجهة الغرب، ولا يؤدي مباشرة إلى صحن الجامع الداخلي، إنما يمر الزائر في ساحة مستطيلة الشكل قبل انتقاله إلى الداخل.
في نهاية هذه الساحة المستطيلة من جهة الشمال، يقع باب يؤدي إلى السلّم الداخلي المؤدي إلى الطابق العلوي، وهو فريد من نوعه، إذ لا يشتمل على درجات تصاعدية، بل سلم حلزوني واسع يرفع المرء إلى أعلى بطريقة بسيطة وتدريجية تعتمد على السير في دهاليز حلزونية.
داخل آيا صوفيا يطالع المرء نوافذ زجاجية ملونة على الجدار المتجه ناحية القبلة، وقد اعتمد العثمانيون هذه الهندسة في معظم الجوامع والمساجد التي بنيت بعد فتح اسطنبول. تحتل صور المسيح والعذراء مريم بطن القبة والجدران الداخلية العليا للجامع من دون تغيّر أو إزالة.
كان الشيخ آق شمس الدين أول من ألقى خطبة الجمعة في مسجد آيا صوفيا، وكان السلطان محمد الفاتح يحبه وله مكانة كبيرة في نفسه، وقد ردد السلطان أمام حاشيته بعد الفتح: ” فرحي ليس لفتح هذه القلعة فقط بل لوجود شيخ عزيز الجانب في عهدي، هو الشيخ آق شمس الدين الذي أشعر وأنا إلى جانبه بالانفعال والرهبة”.
تراث عريق
تعتبر آيا صوفيا قمة المعمار البيزنطي، فالكنيسة مستطيلة الشكل على الطراز البازيليكى بالإضافة إلى وجود القبة في المنتصف على جزء مربع. ترسو فوق الصالة الرئيسة للمتحف قبة ضخمة مغطاة بطبقة من الرصاص لحمايتها من العوامل الجوية، وتفتح في أسفلها النوافذ للإضاءة، وتستند من الشرق والغرب على أنصاف قباب ضخمة ترسو بدورها على عقود ودعامات سفلية تخفف الضغط على الجدران.
قبة مسجد آيا صوفيا رائعة الجمال والتطور لا مثيل لها وتبدو كأنها معلقة في الهواء. يصف پروكوپيوسProcopius ، أحد مؤرخى عصر جوستنيان انه من شدة أعجاب الإمبراطور بالبناء لم يطلق عليه اسم أحد القديسين بل اسم الحكمة الالهية St . Sophia.
بين الأشجار الكثيفة في اسطنبول، تطل قبة آيا صوفيا شامخة مشرفة على نقطة التقاء مضيق البوسفور بمضيق القرن الذهبي في القطاع الأوروبي من مدينة اسطنبول التركية. وآيا صوفيا التي تعد من أهم متاحف تركيا تضم بين جدرانها تراثاً عريقاً لحقبات تاريخية مرت، تبدل فيها دور الصرح من كنيسة ظلت 921 سنة تقوم بمهام الكنيسة الشرقية في العالم القديم وترعى المذهب الأرثوذكسي، ونالت الاهتمام والرعاية من مسيحيي الشرق ومناطق شمال شرق أوروبا وهضبة البلقان علاوة على روسيا القيصرية، إلى مسجد مدة 481 سنة فكان محط اهتمام المسلمين.
اليوم تتعالى النداءات لتعود أيا صوفيا مسجداً لمسلمي تركيا الذين يشكلون الغالبية العظمى فيها، فعلى الرغم من كثرة المساجد، خصوصاً في اسطنبول، يتوق المسلمون إلى إعادة الصلاة في مسجد آيا صوفيا، الرمز الأهم في تاريخ المدينة، لكن المحكمة الإدارية العليا رفضت طلباً بتحويل المتحف إلى جامع مفتوح للعبادة كما كان لفترة طويلة.
يرمز العدد الكبير للمحتجين ومكان الاحتجاج إلى مزيد من التسامح لصالح التعبير عن المعتقدات الدينية، في ظل حكومة رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، التي سمحت بممارسة العبادات للمسيحيين في أماكن كانت محظورة لعقود.
نظمت الاحتجاجات قبيل الاحتفالات بمناسبة الذكرى السنوية الـ559 لانتصار السلطان محمد الفاتح وفتحه القسطنطينية التي كانت تابعة للإمبراطورية البيزنطية، وارتفعت أصوات تؤكد أن السعي إلى إعادة فتح مسجد أيا صوفيا من ضمن حقوق أحفاد محمد الفاتح الشرعية. إلا أن المصلين امتنعوا عن دخول المتحف.
يبدو أن معظم الأتراك مرتاحون لبقاء المتحف كما هو كنوع من الملاءمة بين أدوار تركيا التاريخية المتناقضة. لكن ثمة متشددين يعتقدون أن منع الصلاة في المسجد إهانة للسلطان محمد الفاتح الذي حول كنيسة أيا صوفيا إلى مسجد وكان خليفة للمسلمين في العالم، وراحوا يعبرون عن رفضهم للإصلاحات العلمانية الغربية التي أعقبت سقوط آخر الخلفاء العثمانيين علم 1923. يتزامن هذا التحول مع تأجيل الاتحاد الأوروبي طلب تركيا بالإنضمام إليه وانخفاض التوقعات التركية
اللهم رد الحق لاصحابه
يجب أن ترجع للمسيحين حق كل انسان حرية ممارسة ديانته دون اعتداء على الاخر باي شكل من الاشكال
انا مسلمة و لا يحق لاحد تحويل مكة او المدينة او بيت المقدس الى ديانة اخرى اذا لماذا نقبل بتحول اعظم كنيسة لها تاريخ عريق الى مسجد