توطئة:
هناك موسيقى مسيئة تضعها قردة لسعادين، وأخرى يضعها بشر لآدميين، ولكن هناك موسيقى يضعها للبشر والآلهة عباقرة مبدعون، ومن هذه الأخيرة موسيقى باخ وهاندل وهايدن وموتسارت وبيتهوفن وفاجنر وتشايكوفسكى وريمسكي/ كورساكوف وآخرين.
إلا أن الموسيقى التي وضعها بتهوفن تحمل في تضاعيف عبقريتها ظلالاً لثقافات وأفكار وفلسفات قليلاً ما توجد عند موسيقيين غيره، ولعلّ مأساته الشّخصيّة جرّاء صلف والده، وخشونة معاملته، ونكبته في سمعه جرّاء الصّمم الذي أصابه فيما بعد أثّرت على مضامين موسيقاه كما أثّر اغتراب المتنبيّ وطموحه وخيبة أمله وعدم رضاه وثقافته على نزعة الحكمة في شعره ، وأثّر عمى المعريّ وثقافته في شعره الفلسفيّ ونظرته العقليّة العميقة غير المنخدعة بالنّاس والنّفوس ,. والموسيقى كالأدب كلاهما تأليف إبداعي، لُحمته مادّة من واقع وخيال وسَداه التّعبير عن مشاعر الإنسان في تعامله مع النّاس والحياة والوجود بما فيه من فرح وترح، ومعاناة، وقلق، وخوف جميعها تلحّ دائما لطرح أسئلة: من أين؟! وإلى أين؟! وفيمَ؟! ولِمَ؟! وعلامَ؟! وجميع هذه التّساؤلات طرحتها الفلسفة قديماً، ولم تأخذعليهاأجوبة شافية إلى الآن، وستظلّ تطرحها في جميع الأنظمة السياسيّة والاجتماعيّة والعصور إلى الأبد!!
الجانب الشّخصيّ في موسيقى بيتهوفن
هناك موسيقى موضوعيّة مجرّدة (مطلقة) لا تظهر مشاعر صاحبها فيها، فهي لا تعكس حالته، ولا تضيء جانباً من جوانب ذاته، وهناك موسيقى ذاتيّة يظهر فيها الجانب الشّخصيّ فتتجسّد فيها مشاعر صاحبها وأفكاره ورؤاه.. وإنّ معظم تآليف بيتهوفن من هذا النّوع الأخير، فهي لا تعدم هاتفاً يصيح فيها: ها أنا ذا !! وهي إلى حد بعيد تشبه قصائد المتنبي في إظهار “الأنا الشّخصيّ بكلّ قوّة” طاغياً على ما عداه، برغم ما في شعر المتنبي من تبسيط خلاصات في الفلسفة والأفكار والنّظر إلى الوجود، ولكن ببيان مكثّف مضغوط كانضغاط النّور في حبّة الألماس، وما في موسيقى بيتهوفن من تركيب وتعقيد لا شبه لهما إلا ما يوجد عند شكسبير في شعره المسرحيّ متعدّد المناحي الاتّجاهات، ومتشعّب الجوانب في البحث عن أنماط السّلوك المتعدّدة والنماذج البشريّة المختلفة كنتاج لعصره الفكريّ والفلسفيّ والسّياسيّ والاجتماعيّ، فقد شهد عصر بيتهوفن صراعاً مريرًا وداميًا بين الإقطاع والبرجوازيّة وسط عواصف اجتماعيّة وسياسيّة كانت ذروتها الثّورة الفرنسيّة، وما حملته من أفكار في الحريّة والعدالة والمساواة..
وجميعها تركت أثرها البالغ على ثقافة بيتهوفن وتفكيره، لأنه بالرّغم من عزلته الرّوحيّة ويأسه الإنسانيّ وانطوائه الوجدانيّ لم يكن في عزلة عمّا يدور حوله، ولم يكن غافلاً عن أحداث عصره بل على العكس كان منصهرًاً فيها بكل وعيه، ومشاركًاً فيها بكل إدراكه وتفكيره، وفي النّهاية عاملاً على تشكيلها فنيًاً وإخراجها موسيقيّاً إذ كان له من الصّراع الدائر موقف، وهو صراع بين قوى التقدّم، وقوى التخلّف.. بين طبقة النّبلاء والإقطاعيين القديمة وبين تلك القوى البرجوازيّة والشعبيّة والديمقراطيّة الجديدة التي أطلقتها الثّورة الفرنسيّة من قمقمها تحت شعار حرّية عدالة مساواة، والتي جعلت الشّعوب تشعر ولأوّل مرّة بانّ لها دورها الحاسم في توجيه دفّة التّاريخ . وجميع مواقف بيتهوفن تدلّ على أنّه قد انحاز بكل قواه إلى الجانب الثّوريّ الجديد في هذا الصّراع لأنه أدرك بسليقته ووعيه وثقافته ضرورة مساندة الأفكار التّقدمية المستقبليّة، وأنّ عليه أن يبذل ما في وسعه في سبيل تغليب هذا الاتّـجاه الجديد .
نابليون ينحرف عن مبادىء الثّورة الفرنسيّة
إجتهد المؤرّخون وعلماء الاجتماع وغيرهم منذ القدم في تحديد القوى التي تحرّك عجلة التّاريخ ، فتحدّثوا عن مختلف العوامل، ولكنّهم لم يغفلوا من جهتهم أيضًا الجانب الشّخصيّ في الذين يمسكون بالدفّة في توجيه الأحداث في ظروف تاريخيّة حاسمة، ونابليون هو أعظم شخصيّة تاريخيّة عالجها الكتّاب والمؤرّخون، وألّفوا فيها مكتبة كبيرة لا يضاهيها إلا ما كتبوه في بيتهوفن.. لأنّ كليهما عظيم وما كتب عنهما في المكتبة الأوروبيّة بلغ الرّقم القياسيّ حتى إنّه ليفوق ما كتب عن يوليوس قيصر ومارك أنطوني وكليوبترا والإسكندر وأرسطو مجتمعين
ومن المعروف أن بيتهوفن كان متحمّسًا شديدًا للديمقراطيّة، وما كان إعجابه بنابليون في باديء الأمر إلا لتعلّق الأخير بالأفكار الديمقراطيّة، إذ كان نابليون في نظر بيتهوفن شخصًا ارتفع إلى القمّة من نقطة بداية متواضعة، ولم يكن ملكاً وراثيّاً جاءه المجد من أهله على البارد المستريح دون أن يبذل في سبيله جهدًا، ونابليون كان برأي بيتهوفن حاكمًاعادلاً يختلف أساسًا عن الملوك والأمراء الوراثيّين الذين لم تكن أوروبا تعرف غيرهم حتى ذلك الحين.. كان رمزًا لقوّة جديدة تصعد بكفاحها وتسحق كلّ القوى الرّجعيّة القديمة.. على أنّ نابليون عندما بسط نفوذه على معظم دول أوروبا دفعه طمعه وجنون عظمته إلى أن ينصّب نفسه إمبراطورًا، وأن يعيّن أشقاءه ملوكًا على عروش الأقطار الأوروبية، وهكذا أصبح كمن سبقوه ملكاً استبداديّاً، وذا سلطة مطلقة فانحرف عن مباديء الثّورة الفرنسيّة والمبادئ والمثل التي آمن بها، ولذا فإن بيتهوفن انقلب إعجابه بنابليون، وحبّه له إلى سخط عليه وإلى ميل عنه إلى معسكر أعدائه ومناوئيه، وخير شاهد على تحوّل بيتهوفن عن موالاة نابليون والتخلّي عن تأييده السّيمفونية الثالثة وهي [البطوليّة] التي كان ينوي أن يهديه اياها باعتباره بطل اوروبا لذا نراه يلغي إهدائها الى نابليون باسمه بجرّة قلم ويكتب:لذكرى رجل عظيم.
لبيتهوفن تسع سيمفونيات منها الثانية “الرّيفيّة” والثالثة “البطوليّة” والخامسة “صراع مع القدر” والتاسعة “نشيد الفرح” للشّاعر الألمانيّ فردريك شيللر ابتهاجاً بالمساواة التي بشّرت بها الثورة الفرنسيّة، وكانت القصيدة تجاوبًا مع ما في نفس بيتهوفن ومنذ صباه الأوّل من مشاعر بوحدة الأخوّة البشريّة العالميّة.
وإذا كان هناك دافع وراء كلّ عمل سيمفونيّ كتبه بيتهوفن فإن الدافع لكتابة السيمفونيّة الثالثّة سنة 1803، هو للاحتفال بذكرى رجل عظيم ! وهي برغم نموذجها الكلاسيكيّ كسيمفونيّة فقد استهجنها معظم النقّاد الموسيقيّين وغالبيّة الذين سمعوها عندما عُزفت لأول مرّة، والسّبب على ما ذكره المحلّلون أنّ هذه السيمفونيّة حملت من التّجديد الشيء الكثير، وهو ما لم تكن الأسماع تألفه لتعوّدها على سماع الأسلوب السيمفوني التقليدي عند هايدن مثلاً. وهذه مسألة معروفة في الفنون (خاصة في الشعر والرسم والنحت)، فعندما يُستعبد النّاس لأنماط تقليدية ويرتاحون إليها، ثم يأتي مبدعون ويكسرون القالب ترى النّاس تثور ثائرتهم ويعتبرون التّجديد بدعة منكرة، أو صرعة منفّرة،حتى يعتادوه ويأنسوا به ويألفوه، ثم يصبح هذا الجديد مع مرور الزمن كلاسيكياً قديماً يفرز أكثر جدّة وهكذا دواليك.
ويتجلّى التجديد الموسيقي عند بيتهوفن في السيمفونية الثالثة “البطولية” في زخم الجيشان العاطفيّ والبنية الدراميّة والانفجارات المفاجئة، وفي التقلّب المذهل والتّنوع في الأنسجة اللحنيْة المتداخلة ضمن هارمونيّة بليفونيّة في تعدد الألحان وتعقيدات فنيّة أخرى جعلت موسيقيّاً بارعًا هو ” فاجنر” يتنازل عن بعض تلك التّعقيدات عندما قاد فرقته السيمفونية ليعزفها على المسرح..
إذا كان الكاتب والمفكر الانجليزي توماس كارليل قد رأى أنّ الأبطال الأفذاذ هم الصانعون الحقيقيون للتّاريخ فإنّ بيتهوفن من هذا المنطلق كان قد نظر إلى نابليون واعتبره بطلاً، وكان في نيّته أن يهدي سيمفونيته الثالثة إليه (كنموذج للبطل)، وكان نابليون قد انتزع إعجاب النّاس به في عصره، ولكنّه عندما استبدّ به الطمع، وكشّر عن أنيابه لافتراس أوروبا جمعاء ثم لبس التاج وأمسك بالصولجان وأعلن عن نفسه أنّه الامبراطور، وعيّن من أشقائه من ينوب عنه في حكم ممالك أوروبية أصابت بيتهوفن خيبة أمل كبيرة منه، ثمّ إنه وهو في سَوْرة من سورات غضبة عليه أمسك بقلمه وشحّط على عبارة الإهداء التي كان اسم نابليون يزيّنها واستبدلها بعبارة (لذكرى رجل عظيم)! ويبقى السّؤال من هو ذلك الرجل العظيم أو البطل الذي أهداه بيتهوفن سيمفونيته أو جعلها لذكراه؟! هل هو نابليون؟ أو هو بيتهوفن نفسه؟ أو أي إنسان وهميّ آخر؟…
لقد ترك بيتهوفن الأمر غامضًا، وترك النَاس يسهرون الليل جرّاءه ويختصمون فيما بينهم ( كما فعل المتنبي من قبل في قرّاء شعره ونقّاده). وهم متحيّرون بين البطل الخارجيّ الذي تخيّله والبطل الداخليّ الذي أحسّ به بين جوانحه، ولا ينفكّون معجبين بأحد هذين البطلين أو بالاثنين معا. وقد جاء في رسالة كتبها بيتهوفن إلى صديق وهو يعالج كتابة السيمفونية الخامسة: إنني في صراع مع القدر، وبانتهائي من تأليفها أكون قد أحكمت قبضتي على زُمّارة رقبته، فليفلت مني إذا استطاع.
درس لقّنه لجميع المبدعين
وسواء كانت سيمفونيّة “البطولة” مستوحاة من سيرة نابليون أو من تجربة بيتهوفن نفسه وصراعه مع القدر والصمم فإن بيتهوفن في تمرّده على نابليون يوم أن أصبح ديكتاتورًا، وترفّعه عن إهدائه إليه سيمفونيّته البطوليّة هو درس جادّ أوّل وأخير لكل المبدعين الذين يتملّقون أو يتزلّفون إلى الملوك والرؤساء والأتظمة ورجال السّلطة العليا في كل زمان ومكان
شيء من التحليل
إنّ تحليل السيمفونيّة الثالثة وفقاً للمصطلحات الموسيقية قد يثقل على القارىء وأنا لست “حشوة هذه الكبّة” كما يقال في لغتنا الفلسطينيّة الدّارجة لذا أتحاشى ذلك، وأكتفي بالإشارة إلى أن تضمين مارش جنائزي حزين جدًا في سيمفونيّة “البطولة” هو أمر نادر وغير عادي، وأن قفلة التنويعات في الحركة الأخيرة منها هي أحسن ما عرفته الموسيقى كما يقول النقّاد، وكان بيتهوفن قد سبق وعالج مثل هذه التّنويعات في متتابعة “بروميثيوس” سارق النّار للبشر.. ولعل شخصيّة بروميثيوس وروحه البطلة هي التي سكنت نفس بيتهوفن، وظلّت تلحّ عليه حتى عبّر عنها في ختام السيمفونيّة الثالثة، وهو الذي لم يكفّ عن إعجابه أيضاً بالبطل الإنجليزي الدوق ولينجتون، فقد كتب له مقطوعة موسيقية تصويريّة تدوّي فيها المدافع عندما انتصر على نابليون في معركة “واترلو”، ولكن هذه المقطوعة غير شهيرة، برغم مما فيها من أزيز رصاص ودويّ مدافع ومفرقعات كتصوير لمعركة طاحنة
اكتمال الشّكل والمضمون عند بيتهوفن
يظلّ بيتهوفن أحبّ المؤلّفين وأقربهم إلى أعلام المدرسة الرّومانتيكية في الموسيقى وذلك بسبب من جرأته في تغيير الأشكال المالوفة والمعروفة المألوفة والموروثة، وسار على دربه كل من برامز ومندلسون بعده وكان برليوز في “السيمفونية الخيالية” واضع حجر الزاوية في الموسيقى الرومانسية واضحة المعالم والميزات والاتجاه.
ولقد اكتملت السّيمفونية عند بيتهوفن، وحقّقت بناءها الشّامخ لأول مرّة في السيمفونيّة التاسعة باعتبارها تمثّل نداء الفرد إلى المجموع ، أو المجموع إلى الفرد، بيد أنّ الحركة الأولى من السيمفونيّة الثّالثة لا تزال منذ أن كانت تعتبر من معجزات الموسيقى، فهي عامرة بالحياة في كل دقائقها مع تميّزها باكتمال في وحدة الشّكل والموضوع، وقد بلغت الذروة في اندفاعها العاطفيّ، وما قيل عن هذه الحركة يصحّ أن يقال عن السيمفونية كلّها.. إنّ كمال الموسيقى عند بيتهوفن لا يمكن أن يكون بمنأى عن كمال المنطق في الفلسفة الألمانية، والتي كان عمانوئيل كانط ليس أعظم فلاسفتها فحسب بل أعظم فلاسفة العصر الحديث باعتباره العقل السيّد الأكبر والقوة العليا في النفس ومن العبث إخضاعه، وأن كان أبو العلاء المعريّ قد سبقه بعصور إلى القول: لا إمامَ سوى العقل.. وكلّ عقلٍ نبيّ.
إن بيتهوفن كابن لفلسفة ألمانية قلقة جادّة وقع أيضا تحت تاثير شاعريّة ألمانيّة عملاقة فقد كان صديقاً حميماً لشاعر عظيم هو جوته مؤلّف ” فاوست “، ولم يفلت بيتهوفن أيضا من سحر قصائد شيللر صاحب ” نشيد الفرح ” الذي بُنيت عليه السيمفونيّة التّاسعة كما سبقت الإشارة.
خلاصة
لقد سعى بيتهوفن بكل جهده وطاقته وعبقريّته إلى تحرير الموسيقى والموسيقيّين من الاستعباد للقصور والأمراء وتجاوب مع تقلبات عصره السياسيّة والاجتماعيّة والفكريّة، وكانت له مساهمة فيها، ولم تكن موسيقاه لوجه السّماء بل للأرض وخير الإنسان ومن أجل خلاصه وتحقيق مستقبل إنسانيّ أفضل، وهو في كل ذلك مستمدّ قوته من ذاته الباطنيّة، ولعل سرّ عظمة بيتهوفن هو تمرّده على ما كان يعتقده الموسيقيّون بأن الغرض من الموسيقى هو الطرب والتسلية بتآليف طنّانة، وجمل لحنية رنّانة سارّة
إنّ بيتهوفن نقل إلى لغة الموسيقى معاني لم تطرأ على ذهن، أو تخطر على بال أحد من الذين سبقوه أو عاصروه، وهو بفتحه آفاقاً جديدة يكون قد كتب للموسيقى فصلاً ضخماً لا يزال أثره ساريًا وسائدًا إلى اليوم، وذلك من خلال تجارب ذاتيّة بتأثير ثقافة إجتماعيّة فلسفيّة أدبيّة أخلاقيّة سيكولوجيّة سبر من خلالها أغوار النّفس البشريّة، وستظلّ هذه الأغوار مثار دهشة لعلماء النفس الذين رأوا في موسيقى بيتهوفن بأبعادها السيكولوجيّة أسطورة من الأساطير