ناصيف نصار يفكك مفاهيم الأمة في الفكر العربي المعاصر

 

ينطلق الفيلسوف ناصيف نصار في كتابه «تصورات الأمة المعاصرة»(المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات)، من ثابت يربط كتاباته السابقة أسوة بكتابه الحالي من التركيز على استمرارية القومية والأمة، ويرفض ما أصبح شائعاً من مقولات ترى أن حركة العولمة تجاوزت ظاهرة الأمة والقومية، بما يعني دخول البشرية مرحلة يمكن وصفها بما بعد القومية. فظاهرة الأمة هي الحقيقة الثابتة، ومن مدخلها تقرأ العولمة، ومعها صراع الحضارات، والنظام الدولي في طبيعته وتناقضاته. يحاول في كتابه هذا أن يبرهن على هذه المقدمة، ويعتبر أن الكتاب هو جزء من مشروع علمي كبير يهدف إلى دراسة فكرة الأمة في التاريخ البشري.

لعل ما تشهده المجتمعات العربية، من انفجارات وحروب أهلية، يشكل وسائل إيضاح وحوافز للانخراط في ورشة أبحاث سوسيولوجية تساعد العاملين في السياسة والفكر على تلمس الدروب الصحيحة في نهضة هذه المجتمعات والسير بها نحو التقدم والدخول في العصر والإفادة مما تقدمه الثورات العلمية والتكنولوجية وتوظيفها في خدمة مصالح الشعوب العربية وتحسين أوضاعها على جميع المستويات.

يشير الكاتب في مقدمة كتابه إلى أنه يتناول موضوعاً واحداً من موضوعات الأيديولوجيا القومية وهو تصور الأمة. يعتبر أن تصوره للأمة ينطبق على الأمة العربية وعلى غيرها، فواقع فكرة الأمة عند العرب والمحدثين والمعاصرين أوسع وأعقد مما تنزع إلى أن تتصوره الأيديولوجيا القومية العربية. يرى أن ما أنتجه الفكر العربي الحديث والمعاصر من تعريفات للأمة يتوزع على أربع مجموعات كبرى: المجموعة الأولى هي مجموعة التصورات الدينية التي تجعل من الرابطة الدينية المحدد الأساسي الأول للأمة. والمجموعة الثانية هي مجموعة التصورات اللغوية التي تجعل من الرابطة اللغوية المحدد الأساسي للأمة. والمجموعة الثالثة هي مجموعة التصورات الإقليمية التي تجعل من الإقليم الجغرافي المتميز المحدد الأساسي الأول للأمة. والمجموعة الرابعة هي مجموعة التصورات السياسية التي تجعل من الدولة المحدد الأساسي الأول للأمة.

غلاف الكتاب

وفي ما يتعلق بالتصور الديني للأمة، يرى الكاتب أن مشتركاً يجمع بين أصناف ثلاثة من التصور ألا وهو كون العقيدة الدينية وبالتحديد الإسلام، يشكل المفهوم الجوهري للأمة. بالنسبة إلى التصور الأول تحت عنوان «التصور الديني التوفيقي»، فهو يهدف إلى إخراج العالم الإسلامي من حال الانحطاط، عبر العودة إلى الوراء، أي عبر استلهام للنموذج الأصلي للوحدة. ويعتبر توفيقياً لأنه باستعادته النموذج الأصلي، يضرب في المحال والاستحالة. فالشروط التاريخية للزمن الماضي لم تعد هي نفسها، فقد جرت مياه كثيرة على امتداد التاريخ الماضي حتى اليوم، على رغم أن مفكرين مسلمين يقولون بهذه الوجهة في التطور، إلا أنهم ما زالوا متسمرين عند هذا الماضي ولا تبصر عيونهم ما طرأ على المجتمعات الإسلامية من تطورات. ناهيك بتشكيك أصلي في مقولة الوحدة الإسلامية في الماضي، فالتاريخ يقدم لنا لوحة من الصراعات والتفكك والشرذمة أكثر بكثير من عناصر الوحدة والتوحيد. وقد أدرك بعض المفكرين الإسلاميين ما أصاب المجتمعات الإسلامية من تطور نتيجة التقدم البشري، وما بان في أرض الواقع من تحول الإسلام إلى مجموعة إسلامات، يتكيف كل واحد مع البيئة التي يقيم بها، ولعل ذلك كان أحد الأسباب للبحث عن تصورات إصلاحية تلبي الاحتياجات العأمة للمسلمين في علاقتهم بعصرهم. هذه المحاولات، منها ما هو جريء ومتقدم، ومنها ما هو ناقص ومرتبك. فعل سبيل المثل، تمكن الإشارة إلى خير الدين التونسي وإلى تدارك التخلف الإسلامي في ميادين التقدم، ومحاولة عبد الحميد باديسفي التوفيق بين خدمة الدين وخدمة الوطن، مروراً بمحاولات زعماء الفكر الإصلاحي السلفي من أمثال محمد عبده والكواكبي ورشيد رضا، الذين اتفقوا على الوحدة واختلفوا في الموقف من الخلافة والسياسة وفي طريقة التعامل مع القومية الحديثة.

جاء التصور الديني السياسي للأمة نتيجة نظرة سلفية راديكالية تهدف إلى تجاوز الواقع القائم والمتسم بالتفكك، في اتجاه بعث الوحدة الإسلامية الشاملة واستعادة الوضع الإسلامي المجيد. وخلافاً للتصور الديني التوفيقي الذي كان أبطاله مجموعة من المفكرين الإصلاحيين، فإن التصور الديني السياسي كان منطلقه قيام تنظيم سياسي هو «الإخوان المسلمون» أصحاب مقولة «الإسلام هو الحل» لكل مشاكل المسلمين وعنصر وحدتهم. على رغم أن هذا التنظيم نشأ عام 1928 على يد حسن البنا، إلا أن مقدماته سبقت ظهوره بعقود، من خلال طروحات «الجامعة الإسلامية» التي كانت تدمج بين الوطن والأمة، على لسان أحد أقطابها محمد توفيق البكري الذي قال: «وطن المسلمين هو مجموع الأمة الإسلامية في الدين. فمن قال من المسلمين في أي بقعة من الأرض: وطني، فقد قال: ديني». يرى بعض الباحثين أن فكر محمد رشيد رضا شكل الخلفية العقائدية لفكر «الإخوان المسلمين» لاحقاً، وذلك من خلال ما طرحه رضا حول فكرة إعادة تكوين الأمة الإسلامية الواحدة وتشديده على أن الخلافة هي مناط الوحدة الإسلامية. والجدير ذكره، أن حركة «الإخوان المسلمين» شكلت الأب والأم لسائر التنظيمات التي برزت لاحقاً، وحتى الزمن الحاضر، سواء منها من التزم دروب العنف، أم من دعا إلى الإصلاح بالطرق السلمية.

أما التصور الديني اللاسياسي، فهو الذي يرى أن وحدة الدولة ليست مقوماً ضرورياً من مقومات الأمة القائمة على رابطة الدين. «ويستتبع هذا التعريف القول إن تعدد الدول في إطار الأمة الدينية ليس مجرد تجزئة سياسية لهذه الأمة، وإنما هو مظهر لتعدد الجماعات، القومية وغير القومية، فيها، ومدخل إلى فهم الاختلافات والفواصل بين عامل الدين وعامل السياسة». لعل أبرز من عبر عن هذا التيار كان الشيخ علي عبد الرازق الذي أصدر كتاب «الإسلام وأصول الحكم»، شكل نقضاً لمقولات التصور الديني التوفيقي والتصور السياسي على السواء. وهو الذي اعتبر فيه أن الإسلام لم يقل بالخلافة. لم تأت محاولة عبد الرازق، التي تعتبر من أهم المحاولات الإصلاحية، من فراغ، فقد سبقتها كتابات متفرقة، منها كتابات محمد عبده وعبدالرحمن الكواكبي وعبد الحميد الزهراوي… وغيرهم، كلها تصب في نظرة تسعى إلى الفصل بين الدين والسياسة إلى حد بعيد. وإلى جانب علي عبد الرازق، تمكن إضافة طه حسين وخالد محمد خالد ومحمد النويهي… وآخرين.

يقوم التصور اللغوي للأمة على مقولة ترى أن رابطة اللغة هي المحدد الأساسي الأول، إن لم يكن الأوحد لكيان الأمة. ما يقصد به التصور اللغوي للأمة يقوم على تطابق نطاق الأمة مع نطاق اللغة، وليس وحدة اللغة في الأمة فحسب. ترى النظريات اللغوية أن عامل وحدة اللغة سابق على غيره من العوامل، وأن الأمة تتكون أساساً بهذا العامل، مهما تعددت الشعوب وتباعدت الأقاليم وتباينت التقاليد والعادات. فالتصور اللغوي للأمة يقتضي بأن يكون في عالم لغوي واحد، أمة واحدة وقومية واحدة ووطنية واحدة، ودولة واحدة. يشير نصار إلى أن تاريخ التصور اللغوي للأمة في الفكر العربي الحديث والمعاصر، عرف خمسة أصناف: التصور اللغوي البسيط، التصور اللغوي العنصري، التصور اللغوي التاريخي، التصور اللغوي الميتافيزيقي، والتصور اللغوي السياسي. لقد ذاع التصور اللغوي للأمة بشكل واسع على يد ساطع الحصري وتلامذته.

بالنسبة إلى التصور الإقليمي للأمة، يقوم تفاوت بين اعتباره تصوراً سياسياً، وبين كونه تصوراً جغرافياً. فالإقليم في التصور الإقليمي للأمة ليس قطراً سياسياً بالمعنى العيني المباشر، وإنما هو رقعة جغرافية واسعة نسبياً، متميزة بخصائص محددة، ولها فاعليتها الخاصة في إطار علاقات النوع الإنساني بالأرض. هذه الرقعة الجغرافية الواسعة، المتميزة والمتفاعلة، تقوم لدى بعض المفكرين القوميين بالدور الأساس الأول في تمييز الأمم وفي تشكيلها. فالتصور الإقليمي الوطني للأمة هو تصور لكيان الأمة وخصائصها مبني على تصور الإقليم الوطن. من أوائل الذين قالوا بهذا التصور كان المعلم بطرس البستاني. كما قال به المؤرخ اللبناني جواد بولس. أما التصور الإقليمي السياسي للأمة، فهو يجمع في نظرته إلى كيان الأمة وخصائصها بين عامل الإقليم وعامل الدولة… كان رفاعة الطهطاوي أول من عبر عن هذا التصور، ثم كان أنطون سعادة أبرز المطورين والشارحين له. فالمحدد الأساسي الأول للأمة عند سعاده، هو الإقليم أو البيئة الجغرافية الواحدة، وليس الرابطة العرقية، ولا مجرد الإرادة والمصلحة. يشير الكاتب اللبناني أحمد بيضون إلى نظرة أنطون سعادة للأمة فيقول: «يمثل سعادة الصورة الأنموذج لموقف أقصى في ما يتعلق بمسألة الأرض ودورها في تكوين الهوية القومية. وإنه لمن الملائم إطلاق تسمية «القومية الأرضية» على هذا الموقف الذي يجعل من وحدة الأرض صانع الجماعة القومية».

يبقى أخيراً التطرق إلى التصورات السياسية للأمة. لا يدور التصور السياسي للأمة على سياسة الأمة أو على النتائج السياسية المحلية والعالمية لتكوين الأمة. هو يدور على قضية تكوين الأمة بالذات، ويجعل من عامل الدولة العامل الأساسي الأول لتكوين الأمة. في هذا التصور، لا وجود للأمة قبل الدولة أو من دون الدولة. فالأمة، إذا توافرت لقيامها شروط إعدادية، فهي تتكون كأمة حقة بفضل فاعلية عامل الدولة الواحدة الموحدة. فطرح الدولة كعامل تكويني للأمة، يضع جانبا التصورات الدينية أو اللغوية أو الإقليمية. إن أبرز الذين قالوا بهذا التصور كان أديب إسحق، سليمان البستاني، عبد الحميد الزهراوي، كمال الحاج. يترجم هذا التصور السياسي نفسه عبر الدساتير التي تضعها الدول، والتي تستند إلى ميثاق الأمم المتحدة وشرعة حقوق الإنسان.

يشكل كتاب ناصيف نصار مادة غنية، تدمج بين الدراسات السوسيولوجية والسياسية، وهو حاجة إلى الدارسين العرب والسياسيين في الوقت نفسه، في فهم الواقع العربي، وفي وضع خطط التطوير النهضوي الذي تحتاجه المجتمعات العربية بقوة.

اترك رد