“أوراق محرّمة” لـ رولا فارس

لماذا يحق للرجل ان يحرم المرأة من طيبات يحق له وحده الوصول اليها؟ سؤال تطرحه المرأة في مجالسها وفي كتاباتها أو بعد تورطها سرا أو علنًا بالمحرمات. صحيح ان الحرية المفقودة في الزمن الغابر تحولت الى فلتان لا رجوع فيه الى الخلف. والصورة التي كانت تعرض مأسويا ولا تجد عزاء لمؤاساتها سوى كلام السيد المسيح: من منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر، والذي لم يردع المجتمع عن ظلم المرأة حتى عند أتباعه وأخصّائه وظلت المرأة تُرجم حتى الموت. هذه الصورة، وبعد هبوب العاصفة على التقاليد والأعراف والعادات، ظلت مشوهة، وظلت أوراقا محرّمة.

في سرد مكشوف تدخلنا الروائية اللبقة رولا فارس ضيا الى قلب المعضلة، التي تعاني المرأة منها الأمرًّين، بتفسيرها للمرارتين، كما يظهر في الرواية، أي مرارة الحرمان بدل الفقر ومرارة الوجس من الكبر بدل الكِبَر. وبإعتاق المرأة من الأمرّين، عرفت بمهارتها كيف تحرمنا من طيبات الحرام وحضرّت ولائم المشاهد المثيرة بتحفظ ٍ هدَّأَ حرورها ولذاذها.

تقول في مشهد لبطلة الرواية مع عشيقها: “أحيانا حماقة الكلمات تفسد اللحظات، فتغدو الأنفاس وحدَها لغة تطرق باب الرغبة. لغة النَـفـَس يفهمها العاشق، كما يفهم الأميّ لغة العشق. غرس رأسي في صدره.. لفَّـتْني يدُه اليمنى من حول عنقي وهبطت قليلا يده اليسرى حتّى خصري. تسلل عطره من أنفاسي، ليأسرني ويحررني، ليحييني بلْ ليقتلني، أزاح شعريَ المنسدلِ على كتفي ووضعه كلّه في ناحية واحدة، كأنه يفسح المجال الى جيدٍ ظمأى لِلَجاجة شفتيه… أحسست بلمسة يده أسفل أذني وفوق عنقي، أنامله تخطر بلطف على شفتي. وجهه أصبح ملتصقاً بوجهي، وبشهوة الطغاة قبلني. ” هذه الشهوة جعلتها تتهيّب عواقبها فتهرب من العاصفة لاجئة الى هواجسها الإيمانية: ” نويتُ أن أقوم، أفكاري عادت تعصف بي. إن لم يرني أحد، فالله يراني ولن يغفر لي ! “

وفي نهاية مشهدٍ اشد إثارة غمرها بدفء غريب، راحت تحرمنا لذة التمتع من جديد: / كان من المستحيل أن اتجنب هذا الجنون. تملكتني نشوة من الخوف والرغبة، من الحاجة والوجع، من العذاب والسعادة، وسرت في أوصالي كتيّار كهربائي دفعتني رغما عني الى البكاء، ثمّ الصراخ، كمن أصابها الجنون /. ريف، تجسّد مع عشيقها صراع المرأة مع رغباتها المحرّمة في مجتمع محافظ وهي عاجزة عن التحرر والفلتان من تقاليده وأعرافه. ومع زوجها، وبعد ارتكابها المحرمات سرا، فقدت كل رغبة بممارسة الحب. وإذ بحكايتها مع زوجها امين التي كانت عاجلة وخاطفة كلمح البصر: نظرة ولقاء وخطبة وزواج، تأخذها، كما تقول، الى مصير ” معلوم – مجهول ” عبر رحلة سياحية الى بلد جديد في قارة بعيدة تجهل لغتها وعاداتها.

كمبوريو، محطتها الأولى والاخيرة في البرازيل، كانت الطريق اليها شبحاً سلبها حنين الوطن. لكنها، بالرغم من اجوائها المريحة ودماثة شعبها وطراوة مناخها وسحر طبيعتها، لم تسلخها عن جنوبها وعن مدينة بيروت، / مدينة الإغراء المثيرة كعطر امرأة يطاردك أنّـى حللت /. وكانت النهاية حنين الى الوطن وحنان ترنو اليه في علاقتها الزوجية التي رقدت وتلاشت في النسيان، بعد تطور علاقتها مع عشيقها عاصي، ولم تعد تجد في رفاهيتها حلاوة النظرات الصاعقة والاحلام الجميلة محوّلة ايامها الى رتابة مملة. وراح الحنين يشدها بكل حواسها الى مشاركة عاصي آراءه المحقة في دفاعه عن الوطن، ومواقفه الجريئة من الأحداث الأليمة ومن لهيب الحرب التي تدق اجراس الحزن بين الحين والحين، لتغمس رأسها في كل شاردة وهي تنعي ماحل بنا وما نحن عليه../ فلا شيء تغير في لبنان…/ وفي حديثها عن طفولتها وعن صديقتها ميراي المتحررة من قيود المجتمع، تتذكر اوجاع الوطن / الإنقسام في وطني القى برداءته على الجاليات العربية، وكأنما ليس يكفينا همُّ غربتنا وأنين شوقنا لوطن ما تركناه يوما طوعا وإنما بحثا عن الأمان والعيش الكريم. / وهكذا، راحت الأحداث تتمحور بين مصيرين مصير معلوم مع زوج يؤدي واجباته الزوجية على اكمل وجه وتربطها به عائلة من بدور ثلاثة منذ بدأت حياتها معهم لم يعد للنهايات وجود، ومصير مجهول حمله اليها حنينها الى وطن منهوب مسلوب فوجدت ضالتها بمن وهب حياته للدفاع عنه ومن ضمها واحتواها برفق وعطف وحنان، وهو انسان / ثري العبارات يتقن لغة الغموض كما يتقن فن الإقناع:

/عانقت معه الليالي ولامست دنيا واسعة من الأحلام فأمسكت النجوم حليًّا والقمر تاجا وصدقت اساطير العشق والهيام حتى نسيت ان لحياتي ضفة أخرى غمرتها مياه النسيان /. صحيح ان الرواية تطرح القضايا في دوّامة وتطرحنا في اشكالها، لكنها تحافظ على سلاسة تشدك اليها وتغريك بقراءة تحليلها العميق وآرائها السياسية والاجتماعية في وطنها الام ووطنها الثاني.

تقول: / هنا ايضا، اي في كمبوريو، على الرغم من الحرية التي تتمتع بها المرأة أو الإنسان بشكل عام، الا انه لا بد من النميمة.. / وعلى لسان رئيس البلدية الذي يقول: / انا ايضا قلق على البرازيل، بل على كل اميركا اللاتينية. شعبية الحكومات اليسارية التي حكمت المنطقة منذ بدايات الثمانينات بدأت تنحسر. فنزويلا وهول المعاناة.. /… وسؤالنا الأخير، هل استطاعت الرواية حل الإشكال بين المحرم والحلال ؟ هنا تتأزم عقدة القرار في مجابهة المصير الذي يختم حياة الانسان، بما كان مكتوبا عليه. هكذا، وبعد عرض مأساوي مثير ومحكم الحبك، تجد الروائية بحنكتها حلاً لعقدة أوراقها المحرمة، بنهايتين صنيعتي قدر محتوم محسوم لا تملك الضحية وسيلة للخلاص منه.

في كلمة خاتمة للتعليق اقول ان الرواية تتميز بسردها الطبيعي الطريف والظريف وببساطة تشغلك عن واجسها وتشدَك الى طراوة محطات رحلتها المثيرة.

اترك رد