تبدو حياة المطران ايلاريون كبوجي من خلال “ذكرياته في السجن” تراكم ايام عاصفة، تحمل المطر والرعد والزمهرير… وتتشابه في الوجع والترقّب والانتظار ، فيصعب علينا ان نمَيّز بين صباحِها والمساء.
راعدأ كان المطران كبوجي في حياته. مزمجرا، صاخبا! لم يهدأ، ولم يعرف السكينة. لا في أوج نضاله، ولا في عَتمة سجنه، ولا في شقاء منفاه .
كثيرة هي المحطات الموجعة التى تهُزٌ وجدان القارىء في هذا الكتاب، وكثيرة اللحظات المؤلمة التي تنفِر الدمع من العيون …. وأتوقف الليلة في محطة واحدة، اراها المحور الاساس في تاريخ هذا الكاهن البطل، لانها تختصرُ نضالَه، وتلخّصُ شقاء حياته، وتلملمُ ضنى الشوق والحنين والانتظار في عمره المديد. ولانها كانت نقطةَ البداية، وبقيت محورَ الحراك، وأضحت غايَةَ النهاية بلا منازع …محطٌةٌ اسمها القدس!
آمن الاسقف الكاثوليكي ايلاريون كبوجي بقدسية القدس فعاش لها ، ووهب حياته في سبيل قضتها ، ولفظ نفسه الاخير مدافعا عنها.
قبل الاسقف بزمن طويل، عشق الاكليريكي الشاب جورج كبوجي القدس يوم كان في العشرين من عمره. جاء من حلب الشهباء ليدرس اللاهوت خلف اسوارها العتيقة … وحين سمع صباح 22 تموز عام 1946 دويّ انفجار هائل هزّ كيان المدينة ، خرج من الدير ملهوفا، رغم ممانعة رئيسه ، وهرع بأتجاه فندق الملك داوود الذي فجّره الارهاب الاسرائيلي ذاك الصباح..
في تلك اللحظة التاريخية المفصلية ، عايش الشاب الحلبي المتحمّس العنف الصهيوني لاول مرة حين شاهد الجنود الانكليز يُخرجون تسعين جثة من تحت الانقاض فأدرك باكرا ، وقبل غيره ، خطر غيوم الارهاب السوداء التي كانت تتلبّد فوق المدينة المقدسة التي يعشقها…. في تلك اللحظة نذر نفسه للدفاع عن حبيبته الى الابد.
اليوم ، بعد واحد وسبعين سنة ماذا تبدّل ؟
تمدّدت غيمة الارهاب الاسرائيلي بغير اتجاه ، فتحوّلت اعصارأ جرف كل اشكال الحياة الانسانية في فلسطين . وسقط تسع مرات تسعين الف ضحية … ولا تزال ارض القدس ملتهبة ويستعر حريقها يوما بعد يوم من دون ان يرف جفن للعالم .
الليلة بالذات ، وبعد موقف الرئيس الاميركي المخذي الذي يتحدّى الكرة الارضية ويزدري بالقوانين والمعاهدات الدولية بلا رادع ، يبدو كتابُنا شهادة ً صارخًةً يُدلي بها المطران ايلاريون كبوجي من دنيا الحق …
كأنه اراد ، في هذه الليلة بالذات ، ان يُسمِع العالم صوتٌهُ ، ويجاهر بالحقيقة ناصعة واضحة مدويّة كما اعتاد ان يفعل يوم كان على قيد الحياة .
القدس يا سادة ليست شوارع عتيقة غنّت لها فيروز فردّدنا صدى صوتًها الملائكي .
القدس هي حديقة الملائكة . انها المعبر البهّيٌ الى سماء القيامة .
فيها تجلّىّ الرب يسوع … ومنها صعد الى حضن الاب … وعِبرَ غيومها انتقلت سيدتنا مريم العذراء بالنفس والجسد الى السماء ، واليها عرّج النبي محمد ليلة الاثراء والمعراج في رحلته الى الجنة …
القدس هي بوابة العالم الاخر ، انها عاصمة الانسانية جمعاء ، ولا يقبل مسلم او مسيحي اوعاقل ان يكون سيد تلك العاصمة ، وحارث تلك البوابة السماوية ، مجرم ادمن حرق الاطفال ، واحترف قتل الانبياء والمرسلين الى ارض السلام . وهذا ما آمن به الاريون كبوجي .
يسترجع هذا الكتاب احداثا وقعت قبل 43 سنة …. ولكن القارىء يشعر اننا نسلط الضوء على ما يحصل اليوم بالذات في مدينة القدس …. لان صاحب هذه الذكريات المطران ايلاريون كبوجي كان سابقا لعصره بفكره ، ومحبته ، وعظمة نضاله .
ومن اجل ايمانه اللامحدود ، وتقديرا لنضاله الكبير ، ووفاء لمدينة القدس كتبنا هذا الكتاب الاستاذ سركيس ابوزيد وانا .
ثمة نقطة هامشية اود ان اتوقف عندها بشىء من العتب ، هي تجاهل بعض كبار المسؤولين صدور كتاب عن المطران ايلاريون كبوجي …ربما لاسباب سياسية ….
التجاهل هو وجه للتنكّر ، واقصر الدروب للتنصّل ، وفي الحالتين اجحاف اليم بحق مناضل بطل ، وتجاهل لمدينة القدس التي عاش ومات هذا الاسقف الكاثوليكي الجبار مدافعا عنها وعن عروبتها وعن وجهها المسيحي البهيّ …. وكان اول من استل السيف وصرخ :” ما اُخذ بالقوة لا يُسترد بغير القوة “. واثبتت الايام كم كان ايلاريون كبوجي على حق . وشكرا
****
(*) كلمة القاها الكاتب انطوان فرنسيس خلال الندوة حول كتابه “المطران كبوجي ذكرياتي في السجن” التي انعقدت خلال معرض الكتاب في البيال مساء الخميس 7- 12- 2017 .