غياب عصام العبدالله شاعر القصيدة اللبنانية باللغة المحكية

شعره مجبول بقضايا الناس وبعشق حبيبته «بيروت»

«لا أخشى الموت بل المرض، أفضل أن أموت كما الفارس الذي يمتطي صهوة جواده، وفي لحظة ما يقع عنه ويرحل، بصمت وكِبر، وليس على فراش المرض»… هكذا ردد الشاعر اللبناني عصام عبدالله في أكثر من مناسبة، وهكذا رحل منذ يومين، تاركاً الفراغ يملأ زاويته في المقهى البيروتي الذي اعتاد الجلوس فيه يومياً واستقطاب دائرة واسعة من الأصدقاء (شعراء وكتّاب وفنانين وصحافيين)، يتحلقون حوله ويناقشون قضايا تنطلق من الشعر وتنتهي في السياسة…

الشاعر اللبناني عصام العبد الله أحد ابرز رواد الشعر المحكي اللبناني، وقع عن صهوة جواده بصمت وترك مدينته الأحب إلى قلبه بيروت، ورحل متجاوزاً عتبة الزمان ومتخذاً السحاب وما وراء شفق البحر الذي صادقه وبثه شجونه سنوات عمره كلها، مسكناً له حيث تهيم روحه غائصة بين بيت وقصيدة في سرّ هذا اللامرئي الذي أمضى حياته يتساءل حوله ويتوق إلى سبر أغواره.

ابن بلدة الخيام الجنوبية، عاش الشاعر عصام العبدالله (مولود سنة 1941) حياته في بيروت ولم يتسنّ له الإقامة طويلا في مسقط رأسه، بحكم عمل والده، إذ كان جندياً في الجيش اللبناني ومن ثم أصبح شرطياً في بيروت، وكان يزور فترة الصيف، مع ذلك نسج في طفولته علاقة جميلة معها، وارتسمت في ذهنه على مدى الأيام ذكريات جميلة عن طبيعتها وعادات أبنائها وتقاليدهم…

في بداية مسيرته، انتسب إلى أحزاب علمانية وقومية، وكتب شعراً بالفصحى، قبل أن يهجر القصيدة سنوات طويلة، ويعود إلى كتابة الشعر بالطريقة المحكية، فبرع فيه وأصدر دواوين ثلاثة: «سطر الرمل»، «قهوة مرّة»، «مقام الصوت».

هاجس الوقت

صرف عصام العبدالله أيامه يقرأ ويكتب ويتظاهر ضد الظلم ويحلم ويعشق ويناجي الله، وسكب كل ذلك في شعره المطبوع بهاجس الوقت، فهو يتطلع على الدوام إلى المستقبل ليقينه بأنه سيصبح لا محالة في ساعة ما ويوم ما جزءاً من الماضي، لذا انصرف بكليته إلى عالم الشعر واتخذ من اللغة المحكية مساحة تعبير وإبداع، رغم أنها أصعب من الفصحى، برأيه، باعتبار أن الأخيرة تتمتع بثروة لغوية زاخرة بالألفاظ والتشابيه فيما المحكية تشبه الطين، وعلى الشاعر قولبتها، فضلا عن أن للفصحى تاريخاً من الإبداعات يعود إلى آلاف السنين فيما اللغة المحكية لا تاريخ عريقاً لها، إنما حققت حضورها بفضل بضعة شعراء، مع ذلك استمرت.

يعتبر عصام العبدالله أن إحدى خصوصيات اللغة المحكية وخطورتها أنها تتقولب وفق ظروف أهلها وأهوائهم، وهي في هذا السياق حركة يومية تتآلف مع الناس وتتغير وتتبدل، فيما الفصحى مؤبدة بجمالها وحضورها ونظامها.

سعيد عقل، طلال حيدر، ميشال طراد، الرحابنة وغيرهم من الشعراء الذين صاغوا شعراً باللغة المحكية، كل هؤلاء حفظ لهم عصام العبدالله موقعاً في فكره وبين أسطره، فحضروا بشكل أو بآخر في خفقات أبياته، وبين اهداب عينيه، وسار على طريقهم محافظاً على قيمة شعرهم، وراسماً لنفسه خطاً يتميز بخصوصية البوح الممزوج بشغف الحياة والتطلع إلى ما وراءها… وطالما وصف الشاعر الكبير سعيد عقل بأنه مهندس اللغة المحكية، وطلال حيدر بأنه صديق وكان حضوره مقنعاً له لمتابعة هواجسه بالمحكية.

بعد نظمه مئات من الأبيات باللغة الفصحى، ضمنها آراءه السياسية، ولج عصام العبد الله عتبة المحكية ليقول فيها كلاماً صعباً، فالشعر بالنسبة إليه يحلق فوق جغرافيا النفس البشرية، إلى أماكن لم يصلها أحد بعد، معتبراً أن المحكية تحمله على أجنحتها إلى تلك الأماكن، ويمكنه من خلالها رفع الصوت عالياً بوجه الظلم والعبودية والاضطهاد.

بيروت الغواية

لبيروت في قلب عصام العبدالله المكانة الأبرز، فهي الحبيبة الدائمة الشباب، المغناج على شاطئ المتوسط، المشرئبة على الغرب والمتطلعة بشوق نحو الشرق، جمالها أيقظ نزعة الطمع عند كثيرين فحاولوا تشويه وجهها الجميل في سنوات الحرب الطويلة، لكنهم لم يفلحوا، وبقي عصام العبدالله يرسمها في شعره حبيبة رائعة الجمال، فدت الدماء التي تساقطت على أرضها وفي شوارعها مستقبلها، فحافظت على مكانتها الثقافية في الشرق والغرب، حتى أن كبار المثقفين العرب يشعرون بنقص ما إذا لم يقفوا على منابرها… هذه بيروت عصام العبدالله، بيروت التي تردد شوارعها صدى خطواته، من شارع الحمرا إلى أزقتها إلى منطقة الروشه… وتخبئ في حناياها صدى صوته ينشد عالياً قصيدته «بيروت» التي يقول مطلعها:

«نقّط قلم الله حبر../ صارت السماء../وتجمعت.. وتجمعت صارت بحر../

وصل البحر على الشط وتمشى../ ونسّم هوا رملة../ وقع الرمل بالمي صارت أرض../ طلع السمك على البر يتشمس../ كثروا بيوت الناس../ كثر الشجر.. / شايف كأنها بديت الحفلة وسميتها بيروت..»

*****

(*) جريدة الجربدة الكويتية 22 ديسمبر 2017.

اترك رد