“الأفندي” عصام العبدالله نبكيه كما الحمراء تبكيه والخيام

ساعة تصيبنا النائبات تنفطر القلوب، وتصاب الكلمات بالفتور، ولا يعود لها معنى. يحدث ذلك كلما فقدنا صديقاً لنا حميماً، أو قريباً مقرباً. هذا بالتحديد ما أشعر به الآن، بعدما بلغني نبأ وفاة صديقي ونديمي الحبيب، الشاعر عصام العبدالله. 

لم تمنحني السماء بعد، القدرة على مخاطبة الأرواح، ولا أحسبها ستمنحني هذه المعجزة في يوم من الأيام. ولأني شكّاك في طبعي، وشكاك في وجود ذلك العالم الآخر، سأبتعد عن التطير ما وسعني الابتعاد، ولن أخاطب صديقي الراحل، لأنه لن يسمعني، أو يسمع أحداً غيري.

إذا كان هناك من سبب يجعلني أدوّن هذه السطور الآن، ومن بعيد، فذلك لأصارح نفسي، علّها تتذكر فضيلة التواضع والسكينة، وتفقه سراً من أسرار هذه الدنيا المليئة بالغموض، والحافلة بكل ضروب التساؤل، متذكراً قول ذلك المتصوف، المتأمل بالوجود وخفاياه، محيي الدين بن عربي: “كل اشتياق يسكن باللقاء لا يُعّول عليه”، وقول متصوف آخر، أظنه جلال الدين الرومي: “لتبق أرواحكم أبداً هائمة في عالم المحبة والعشق الكوني، فلا تسكن ولا تصل”!

أعرف أن صديقي عصام رحل، ولن أصل إليه بعد اليوم، لكنه سيبقى ساكنأ في قلوب الذين عرفوه، كما يسكن الأريج قلب الزهرة، وإذا اتفق ووجدت نفسي يوماً على رصيف الحمراء، حيث مقهى “عاليه” الذي كان يجلس فيه صديقي كل مساء، فسأعبر إلى الجانب الآخر من الشارع، لأتفادى الفراغ الذي أحدثه غيابه المفاجئ، مصطنعاً في ذلك حيلة من تلك الحيل البائسة اليتيمة، التي غالباً ما ألجأ إليها لأنسى، ولأدفع بها عن نفسي وأحميها من تذكر طيف أمي وطيف أبي، وأطياف من رحلوا عن دنياي من الأحبة.

لم أعرف عصام العبد الله الشاعر، لأني لم أقرأ شيئاً من شعره، فيا لكسلي، ويا لجحودي في حق هذا الشاعر الصديق. لكن عزائي أني عرفته إنساناً ونديماً. تعرفت إليه في السنوات الثلاث الأخيرة، إذ كنت أتردد إليه في مقهاه ذاك بمنطقة الحمراء، حيث كان يجلس مع شعراء وكتّاب، وكان هذا المجلس صالونه بامتياز.

كنت أدعوه تحبباً بلقب “الأفندي”، إذ أخبرني ذات مساء أن هذا اللقب متوارث، وأن آل العبد الله، من التنوخيين، وأن أصولهم ضاربة في الأرض والزمن، وتعود إلى عهد الأمراء التنوخيين الذي كانوا أعياناً في الجبل، ومعروفين بأمراء الغرب، لحكمهم منطقة كانت تعرف بالغرب، وتمتد على سفوح لبنان المطلة على بيروت وضواحيها، وكانوا من عشائر الدوحة التنوخية التي وفدت إلى بلاد الشام، واستوطنت بلدة “الخيام” التي في الجنوب.

كنت أحب صديقي “الأفندي”، وكنت إذا تخلفت عن جلسته أو تأخرت، رنّ هاتفي الجوال، فأدرك من الفور أن عصام على الخط.

كان يدعوني وصديقنا المشترك، الروائي رشيد الضعيف بالشركاء، أو الحلفاء، ولهذه الشراكة “قصص وروايات” طريفة لا مجال لسردها الآن، وقد يأتي يوم ويسردها غيري من الشعراء والكتاب والأصحاب، الذين كانوا من الندامى الدائمين في مجلس صديقنا الراحل، ومنهم الشاعر عباس بيضون، والشاعر الآخر جودت فخر الدين، والشاعر “المير” طارق ناصر الدين، ومريد البرغوتي، وابنه الشاعر الشاب تميم البرغوتي، والروائية علوية صبح، والفنانة خيرات الزين، والدكتور هيثم الأمين، والدكتور حسن موسى، والدكتور غسان مراد، والمحامي الشاعر ناجي بيضون، والشاعر الفنان حسن عبد الله، والكاتب السياسي نهاد حشيشو، والرفقاء خليل الحكيم وخليل الزين ونوفل الأمين، وغيرهم من أهل المعرفة والثقافة.

كانت هناك فعلاً أشياء مشتركة بيننا نحن الثلاثة، تخالف نظرات الآخرين من الجلساء، في قضايا الدين والتاريخ. وكثيراً ما كان هذا الخلاف يحدث حواراً حاراً طريفاً، لم يكن يقطعه إلا صوت النادل يسأل أحد الجلساء عن مشروبه، أو حلول ضيف جديد على الحلقة، مثل الكاتب رياض نجيب الريس، أو الشاعر شوقي بزيع، او الروائي حسن داوود، أو الشاعر بلال شرارة، أو ساعة يحين وقت الانصراف عند العاشرة، موعد كان الراحل عصام يحرص عليه أشد الحرص، حتى لا “ينشغل” بال أمّ البنين.

قلت إني شكّاك في طبعي، لكن الشيء الذي لا أشك فيه، أن كل من ذكرت من أسماء، ومن غابت أسماؤهم عن بالي، سيفتقدون تلك الجلسات الحلوة، ويفتقدون عصام العبد الله، وخفة دمه، ومزاجه النادر الغريب، وروحه الطروب اللعوب في ساعات الفرح، وفي الساعات التي كان فيها يحزن، كلما بلغه خبر وفاة صديق، أو رحيل شاعر من الشعراء الذين عرفهم وأحبهم، كسعيد عقل، ومحمد العبد الله، وأنسي الحاج وجوزف حرب وغيرهم، أو ساعة كان يستعيد ماضيه بنوع من المحاسبة المرة، متذكراَ، كما أسرّ لي غير مرة، سنوات النضال والأحلام العذاب، ووجوه رفاق له ناضلوا وحلموا بوطن جديد، ثم غابوا عن الدنيا وغابت معهم أحلامهم، وبقي الوطن كما هو، والمسرحية كما هي، لا شيء فيها تغير، إلا وجوه الممثلين!

ها أنا أكتب عن عصام العبد الله من بعيد، وأجد صعوبة في الفصل بينه وبين لبنان القديم الذي أحببناه، وأحبه الراحل عصام، وعاش فيه أجمل سنوات عمره، وكتب فيه الكثير من الشعر.

ما أنا أكيد منه أيضاً، هو أنني إذا تجولت في الحمراء، في زيارتي المقبلة لبيروت، فستتملكني عاطفة مشبوبة، تجعلني أتذكر صديقي ونديمي عصام العبد الله، كما يتذكره الآن كل الذين أحبهم وأحبوه من الأهل والأصدقاء. نتذكره جميعنا كنسمة شجية عطرة، وحكاية طريفة من حكايا بيروت، وشمعة مضيئة من ليالي الأنس، بكل ما يكتنفها من خيالات وأفراح وأتراح.

****

(*) جريدة النهار 20  ديسمبر 2017 .

 

اترك رد