مساء أمس كنت أتباع تغطية عبر قناة “بي بي سي” لمعرض الكتاب في بيروت، وقد استضاف المقدمان الشابان اللذان يقدمان التغطية، من خلال برنامج حواري ثقافي، الكاتب والمترجم المصري الشاب محمود حسني والذي حضر لتوقيع روايته الأولى التي حملت عنوان “خرائط يونس” والتي فازت بمنحة آفاق ضمن برنامج آفاق لكتابة الرواية الدورة الثالثة، وقد نشرتها دار الساقي بتقريض للناشر عن الرواية جاء فيه: ” ميثولوجيا معاصرة تقارب الواقع بلغة شيّقة، نافذةً إلى أعماقه لتقرأ الاحتمالات داخل ما هو كائن”.
وفي معرض الحديث عن محور الرواية الأساس طرح حسني سؤالا صادما على الأقل بالنسبة لي مفاده: “ماذا لو استيقظنا ووجدنا أنفسنا قد فقدنا اللغة؟” والفقدان هنا بمعناه الأعمق أي غياب كافة وسائل التعبير ودلالتها بحيث يتحول الإنسان إلى غربة تامة في تيه مظلم.
يوظف الكاتب قضية غياب نبي الله يونس (ع) في بطن الحوت في غياهب عالم يمثل هروباً من إنسانية حمقاء ساهمت في هذا الابتلاع، وهو يسقط ذلك على روايته من خلال تصور جزيرة فقد نصفها اللغة ولم يعد بينه وبين النصف الآخر أداة للتواصل في تيه يبحث عن خرائط للنجاة.
حسني الذي استحضر مقولة الرئيس التونسي المخلوع بن علي وهو يقول في بداية التظاهرات التي مثلت شرارة التغيير في تونس وبلدان أخرى: “أنا أفهم”، وعقب بأن هذه الجملة تعني عكسها التام فهو لا يفهم، وهي إشارة لقطيعة كبيرة بين شعوب وحكوماتها التي اختارت لنفسها طريقة مختلفة في الحياة غير عابئة بضرورة وجود التواصل والفهم والتفاهم لتلك الشعوب واستماع صوتها وتلبية حاجاتها.
وفي اغتراب من قطيعة أخرى تسجل الرواية قطيعة بين الإنسان وتغول المادة، في ظل افتراق تكنولوجي يغادر هاجس الحاجات الإنسانية الروحية الحقيقية إلى مسارات تعمق هوة القطيعة والغياب، وتضحى لغة الوصل مفقودة.
المهم في ما سمعته من محمود حسني هذا العمق المعرفي لشاب في فهم أسئلة الحياة العميقة وتحدياتها الكبرى من منطلق فلسفي عملي، وليس مجرد ترف مدرسي، وأن هذه العلوية في الفهم جعلت منه قادرا على رسم منهجه في تثوير المعرفة عبر العمل الأدبي، علامة مميزة في عالم مثقل بنتاجات رثة تتخاتل تحت عناوين طنانة وألوان براقة دون أن يكون لها أدنى حظ من إنتاج المعرفة بل ولا الترفيه.