ربيعة أبي فاضل… وذاكرة الضيعة

في ضيعةِ ربيعة أبي فاضل تَشعرُ أنّك موجودٌ في المكانِ من دونِ أن تتكلّفَ عناءَ زيارتِه،

فالرجلُ مشى على خطى “دافنتشي” في عدمِ إغفالِ أيِّ تفصيل. والملفتُ أنّ رائحةَ الضيعةِ

تتسلّلُ الى يديك ، وأنتَ تقرأ ، فينتقلُ اليهما الخيرُ بالعدوى.

وسطَ رائحةِ الخبز ، سارَ ربيعة مع فلاّحِه الى حيثُ يَنبشُ عيشَ العائلة ، بعدما ارتَدَتِ الضيعةُ

الصباحَ المشبَعَ بالطّهر . الى الجُلولِ التي تَحتضنُ شيطنةَ الصبيان ، حيثُ الشمسُ تَطبخُ العنبَ

والتين ، والفاكهةُ تتباهى بألوانِها التي تُغري قاطفَها ، ونَزُّ النبعِ  يَسردُ جَمالا . هناك ، فرحٌ لا يخالطُه كذبُ التمدّن ، هناك ،حيثُ تكثرُ الأيدي ، وقعَ ربيعة في فخِّ حبِّ الضيعة .

وللشتاءِ في ضيعةِ ربيعة وقار ، فالأشجارُ وقد تحلّلَتْ هياكلَ عظميّة ، تستنجدُ بجذورِها لتتمكّنَ من الصمودِ حتى ربيعٍ آخر . والجَدّاتُ تدّخرُ الحكايا للأمسياتِ الباردة ، يحكينَها بمرافقة تقاسيمِ المزاريب ، ومعزوفاتِ المدافئِ المطفَّحةِ بالحَطب .

وأبرزُ ما في ليلِ الضيعةِ السكون ، وأصعبُ الوصف ، وصفُ السكون . لكنّ ربيعة نقشَ فيه

الطمأنينة ، فعادَ بنا الى ما قالَه المفكّرُ ” آلن ” من أنّ الأصنامَ – وهي مثالُ السكينة – معبودةٌ

منذُ كانَتِ الأصنام .

ربيعة على قدرٍ كبيرٍ من الدرايةِ بشؤونِ الضيعة ، وحتى بجزئيّاتِها حيثُ حبُّ الوجودِ والتلذّذُ

بأطايبِ الحياة ، حيثُ لا  لأَسيِجَةٍ تفصلُ فيها ولا لقلوبٍ تنطوي على غدر ، فالضيعةُ موسمُ خيرٍ متواصل . هي الثابتُ أمامَ كلِّ المتغيّراتِ بالرغمِ من أنّها تَنسفُ  روزنامةَ الجمود . لقد رسمَ ربيعة للضيعةِ  خارطةً في وجدانِه ، وأعطاها ميثاقَ العمر ، فمعه لم يَزلْ عصرُ الضيعةِ

حيّاً ولم ينسحبْ من دائرةِ الضوء .

على شفا مهوار ، يُشعرُك ربيعة بأنّ الضيعةَ ليسَت خليطاً مشوَّهاً ، وبأنّ أشياءَها ليسَت عاديّةً

في الطبيعة ، بل هي كائناتٌ حيّةٌ متفاعلةٌ وذاتُ قدراتٍ ميتافيزيقيّةٍ متجاوزة ، تَليقُ بها طقوسُ

التبجيل . وفي ظلالِ المعاني ، يستدرجُك الى مائدةِ الشمسِ، حيثُ أماكنُ الأحداثِ وتقسيمُ الأدوارِ على شخوصٍ ليسَت من لحمٍ ودم ، فتنكشفُ لك حقيقتُها من دونِ أن تُخبرَك هي بذلك .

والأحبُّ الى قلبِ ربيعة أن يفرَّ في الضيعةِ باتّجاهِ حريّتِه ، لأنَّ المكانَ لا يَفرضُ عليه شروطَه

بل يشكّلُ معه جزءاً من أنطولوجيا الوجود ، فيَستجمعُ في ذهنِه الصّافي مشهداً ينحتُه بلذّةٍ خبيئة ، يُشبهُ مشهدَ الحقيقةِ المتكاملَ الذي يَرقى اليه بعضُ البوذيّين لشدّةِ نُسكهِم .

ربيعة يمزّقُ جوازَ السّفرِ الى المدينة ، وكأنّه يتبنّى قولَ الجاحظ : ” إذا نَويْتَ التَغرُّبَ فلا تَنْسَ

نَصيبَك منَ الذُلّ ” .

لوحة للرسام التشكيلي اللبناني ميشال روحانا.

اترك رد