الباحث اللغوي مولود بن زادي يدعو إلى استبدال قاعدة “حرف واحد لصوت واحد”بقاعدة” حرف واحد متعدد الأصوات”
الكتابة تعبير خطيّ عن اللغة في شكل رموز وإشارات وحروف، أو كما جاء في تعريف معجم الرائد، “تصوير الكتاب والألفاظ بحروف هجائية”. وهي من ابتكارات الفكر البشري. واللغة العربية من اللغات السامية المنحدرة من أسرة اللغات الأفروآسيوية التي تضم ما يناهز 300 لغة. وهي في الواقع أحدثها نشأة، وأوسعها انتشارا، وأكثرها تأثيراً في غيرها حيث ساهمت في إثراء لغات عريقة مثل الفارسية والعبرية والتركية. وتكتب من اليمين إلى اليسار بأبجدية تتألف من 28 حرف، تعالت من حولها أصواتٌ داعية إلى إعادة النظر فيها، وإضافة حروف جديدة إليها.
أودُّ في مستهل هذا البحث أن استعرضَ بعضَ المواقف المساندة لمراجعة الأبجدية العربية. أذكر منها موقف الكاتب الجزائري أمين الزاوي الذي قال في مقالة في صحيفة الشروق الجزائرية عام 2011: “لا أزال أتساءل: ألا تحتاج الأبجدية العربية التي نُدرِّسُها لأطفالنا إلى إعادة النظر وإضافة حروف جديدة بعد أن توسَّعت جغرافيتنا الثقافية والعلمية والتكنولوجية… ”
وقد استعرض الزاوي هذه الحروف في قوله: “ينقص الأبجدية العربية مثلا حرف V الذي نستعمله لقول (تليفزيون)، وحرف G لقول Google أو مدينة (ورقلة)، وحرف P لقول Pentium…”
وذهب الدكتور محمد رياض العشيري في هذه المسألة إلى رأي مماثل: “صوت الجيم في العربية من الأصوات غير المستقرة، التي تعرّضت للتغير… كان يُنْطَق مثل الحرف الأخير من كلمة (leg) الإنجليزية. ثم أصبح يُنْطَق مثل الحرفين الأول والأخير في كلمة (judge)… وفي الخليج ظهرت صيغة نطق جديدة حولته إلى ما يشبه الحرف الأول من كلمة (year) الإنكليزية.
ومع انتشار الصحافة وذيوع الطباعة والاحتكاك بالغرب نشأت الحاجة إلى كتابة أسماء أعجمية برموز الحرف العربي… وتولدت مع مرور الزمن أخطاء في نطق أسماء بلدان، مثل (Ghana)، و(Yugoslavia) التي أصبحنا ننطقها بالغين وكأنها كلمات عربية تحتوي على صوت (الغين) العربي القح… ينبغي علينا استخدام خيار اللغة الفارسية… فماذا فعل الفرس عندما تبنوا الحروف العربية لكتابة أصوات لغتهم؟ أضافوا حروفا جديدة إلى الأبجدية… ”
إننا إذا تأملنا نشأة اللغات وتطورها أدركنا أنّ اقتراحات إصلاح أنظمة الكتابة وإضافة حروف إلى الأبجديات ليست فكرة جديدة. فهي من المواضيع المستهلكة التي خاض فيها عدد كبير من الكتاب العالميين والعرب عبر العصور. أذكر من جملة ذلك محاولات العالم اللغوي الأمريكي الرائد نوح وبستر (1758-1843) مصنّف معجم وبستر الشهير. وهو من اقترح أن تُكتَب الكلمات مثلما تُنْطَق.
عربياً، أذكرُ مقالة رئيس تحرير ديوان العرب عادل سالم بتاريخ 15 تشرين الثاني/نوفمبر 2009، بعنوان “نحو تطوير وتحديث اللغة العربية”، قال فيها: “إنني أقترح أن نضيف إلى حروف العربية حرفين هو (G) و(V)، وإدخال رسم جديد لكل منهما يتناسق مع أحرف اللغة القائمة، إنها ليست دعوة لاستبدال حرف الجيم ولكن إضافة حرف(G)”
ما تغافل عنه دعاة الإصلاح هو أنّ افتقار اللغة إلى حروف أخرى ظاهرةٌ عالمية طبيعية تشترك فيها اللغات ولا تقتصر على العربية. فحروف الحاء والطاء والعين والقاف العربية غير موجودة في لغات أخرى مثل الإنكليزية أو الفرنسية، فيضطر أصحابها إلى كتابة الأسماء العربية بأحرف في تلك اللغات تختلف عن الحروف العربية نطقاً، كاستخدام حرف H الذي يُنْطَق مثل (هـ) أو (أ) لكتابة الحاء (البحرين Bahrain)، أو استعمال حرف A الذي يُنْطَق (أ) مكان حرف العين (عنبر Amber)، أو حرف Q الذي يُنْطَق مثل الكاف للتعبير عن القاف (قطر Qatar)… ورغم تردد مثل هذه الاسماء في تلك اللغات، فإننا لا نرى أي اجتهاد لإدخال حروف جديدة للتعبير عنها، حِفظاً للأبجدية الموروثة منذ قرون. ولا نرى أدباءنا الذين يكتبون بتلك اللغات يقترحون على أصحابها إضافة مثل هذه الحروف إلى أبجدياتها.
والمجتمعات الغربية معروفة منذ الماضي البعيد بمقاومتها المساس بأبجدياتها وقواعد كتابتها، وهذا ما يفسّر عدم تغير الأبجدية الإنجليزية لقرون رغم مساعي شخصيات لغوية وسياسية مؤثّرة من أمثال بنجامين فرانكلين (1706-1790) الكاتب والسياسي وأحد مؤسسي الولايات المتحدة الذي رغم اجتهاده فشل في إضافة الحرف اللاتيني Eng . كما فشل إسحاق بيتمان (1813-1897) في إضافة حروف Esh، Ezh Schwa ،
ولعلّ “تجربة وبستر” خير شاهد على صعوبة تغيير قواعد الكتابة. فقد سعى العالم اللغوي الأمريكي الشهير نوح وبستر (1758-1843) لإصلاح الكتابة لتكون مطابقة للنطق. ولم يوفَّق إلا في القليل منها مثل إسقاط حرف U من كلمة colour، أو استبدال Centre بCenter وباءت اقتراحاته الأخرى مثل تعديل كلمة Women لتكون Wimmen بالفشل. ورغم طموحه، فقد “قرر نوح وبستر عدم إضافة حروف جديدة عند تصنيفه معجمه الشهير” مثلما ذكر الكاتب ستيف لوفليس. ولم تخرج تعديلات نوح وبستر عن الولايات المتحدة حيث احتفظت بريطانيا وأمم أخرى ناطقة باللغة الإنكليزية بقواعد الكتابة الموروثة منذ قرون.
ولا يمكننا أن نبرّر إضافة حروف جديدة بالاتساع الجغرافي والاحتكاك بالغرب. فالعرب الذين قادوا أكبر فتوحات في تاريخ البشرية، امتدت من بلاد فارس إلى جنوب غرب أوربا وأعماق القارة السمراء، احتكوا بشعوب وقبائل كثيرة ولم يكن يخفى عليهم اختلاف الألسنة والأبجديات. وخير مثال ربما الأندلس حيث عاش العرب بجوار الاسبان الذين كانوا يستخدمون حروف V و G و P ومع ذلك لم يفكروا في إضافة هذه الحروف لأنهم ببساطة لم يروا ضرورة لذلك. وما العيب في كتابة “غاز” أو “غانا” أو “باريس” أو “تلفزيون” وهي اليوم كلمات معرَّبة مألوفة نكتبها دون تفكير ونقرأها دون إشكال؟ واللغات الأخرى تسعى دوماً لتعديل الأسماء الأجنبية لتنسجم مع قواعدها، وتكتبها بحروف أبجدياتها دون إضافة حروف جديدة لأجلها. فاسم “القاهرة” يتحول إلى Cairo في الإنكليزية ويُنطق حرفه الأول (ك) وليس (ق)، وLecaire في الفرنسية، وKairo في الألمانية، وКаир في الروسية…
وأي منطق في اقتراح محاكاة التجربة الفارسية التي أضافت حروفاً جديدة ونحن نعلم أنّ لكل لغة طبيعتها وخصائصها وعبقريتها؟ فقد أشار الدكتور عبد العزيز فرج عزو في مقالة بعنوان “الفرق بين حروف اللغة الفارسية واللغة العربية” إلى أنه رغم تشابه اللغتين في الكتابة، فإنّ النطق يختلف في بعض الحروف والكلمات. فعلى سبيل المثال، حرف الثاء في الفارسية أقرب إلى حرف السين في العربية، وحرف الطاء إلى حرف التاء، وحرف الواو يُنطَق مثل حرف U في اللاتينية. فالاختلاف بيّنٌ، وما يصلح للغة قد لا يصلح لأخرى وإن اشتركتا في الأصل والأبجدية…
إنّ الاختلاف في نطق بعض الحروف في وطننا العربي كحرف الجيم الذي أشار إليه العشيري لدليل على فشل قاعدة “حرف واحد لصوت واحد” التي استشهد بها. وقد آن الأوان لتقبّل إمكانية وجود “حروف متعدّدة الأصوات” تتيح للجماهير العربية المختلفة والتي لها لهجات متنوّعة إمكانية نطق حرف مثل الجيم بأصوات مختلفة مع التشبث بالحرف الواحد في الكتابة، مما يجنّبنا التفكير في إضافة أحرف جديدة لا تحصى، نحن في غنى عنها. فالاختلاف في نطق الجيم لا يمنع المصري والعراقي والمغربي من كتابته كتابة واحدة مشتركة صحيحة. ولا تقتصر هذه الظاهرة على اللغة العربية. إذ نجدها في لغات أخرى مثل الإنكليزية حيث يختلف نطق بعض الحروف من منطقة إلى أخرى مثل حرف U في كلمة Bus الذي يُنْطَق مفتوحا (بَاسْ) في جنوب إنكلترا ويُرفَع في شمالها (بُوسْ). وتبدو الهوة أوسع بين الإنكليزية البريطانية والإنكليزية الأمريكية مثل كلمة Water التي ينطق فيها البريطاني حرفَ T بينما يلغيه الأمريكي تماماً ومع ذلك لا تتغيّر الحروف التي تُكْتَب بها الكلمة.
وخلاصة القول إنّ اقتراحات إصلاح نظام الكتابة وإضافة حروف ظاهرةٌ عالمية تضرب بجذورها في أعماق التاريخ قادتها شخصيات لها معرفة في اللغة من أمثال نوح وبستر، ونفوذ في السياسة مثل بنجامين فرانكلين، ولم تكلل بإضافة حروف جديدة إلى اللغة الأكثر انتشارا في العالم، الانكليزية، رغم عجز أبجديتها عن التعبير عن العديد من الأصوات باعتراف لغوييها. فلم تتغيّر منذ عام 1755! واللغة العربية الثرية بمفرداتها قادرة على تعريب كل الألفاظ والتعابير الأعجمية دون الحاجة إلى حروف جديدة.
وإنّ ما نحتاجه في وطننا العربي اليوم هو استبدال قاعدة “حرف واحد لصوت واحد” بقاعدة “حرف واحد متعدد الأصوات”، وهو ما أدعو إليه. فحتى إذا اختلف نطقنا لكلمات مثل “جوجل”، “فيكتوريا”، “باناما” ،فإننا نشترك دائما في كتابتها كتابة عربية مشتركة وبحروف عربية، تماماً مثلما يعدّل الإنكليزي والفرنسي أسماءنا العربية لتنسجم مع لغته ويكتبها بأحرف لغته الموروثة. ولسوء الحظ، ينتج عن ذلك أحيانا أخطاء في النطق. وهو ما ينطبق على كل لغات العالم، وليس العربية فحسب.
*****
(*) صحيفة “رأي اليوم” اللندنية 24 نوفمبر 2017.