“المطران إيلاريون كبوشي: ذكرياتي في السجن”

دعت دار “أبعاد” إلى حضور ندوة حول كتاب “المطران إيلاريون كبوشي: ذكرياتي في السجن” (كما رواها إلى الصحافيين أنطوان فرنسيس وسركيس أبوزيد)، من الساعة السادسة حتى السابعة والنصف من مساء الخميس الواقع فيه 7/12/2017، في معرض بيروت الدولي للكتاب 2017 (البيال) قاعة المحاضرات.

يشارك في الندوة، التي يديرها الاعلامي غسّان الشامي، كل من: رئيس أساقفة سبسطية للروم الأرثوذكس المطران عطاالله حنا، سفيرة فلسطين في إيطاليا د. مي كيلة، الرئيس المؤسس للمنتدى القومي العربي معن بشّور، أمين عام اللقاء المشرقي حبيب افرام، عضو نقابة الصحافة اللبنانية جورج طرابلسي، وعضو المجلس الوطني للإعلام د. حسن حمادة، إضافة إلى كلمة المؤلفين فرنسيس وأبو زيد، اللذين مهّدا للكتاب بالآتي:

  لماذا لم ننشر هذه المذكرات عام 1979؟

في 6 تشرين الثاني عام 1977 خرج المطران ايلاريون كبوشي من سجن العدو الاسرائيلي الذي دخله فجر 18 اب عام 1974. كان مطران القدس ينفذ حكما بالسجن لمدة 12 سنة امضى منها ثلاث سنوات وثلاثة اشهر فقط خلف القضبان، بعد ان تدخّل قداسة البابا بولس السادس مباشرة لاطلاق سراحه.

غادر المطران كبوشي سجن ” الرملة ” بعد مفاوضات مضنية استمرت بضعة اشهر وضعت خلالها سلطات الاحتلال الاسرائيلية شروطا كثيرة على الدوائر الفاتيكانية لاطلاق المطران الكاثوليكي المتهم ” بتهريب السلاح، والتعاون مع خلايا ارهابية لضرب دولة اسرائيل “. اول تلك الشروط كانت فرض الأقامة الجبرية في المنفى على المطران المُحرّر ،واشطرتت ايضا ان يكون منفاه بعيدا عن ارض فلسطين، وان لا تسمح له مرجعياته الروحية بالعودة الى اية دولة عربية، وخاصة الى لبنان وسوريا، فأنتقل سيادته ليعيش في مدينة روما.

المطران كبوشي يتحدث إلى الصحافيين أنطوان فرنسيس (الأول من اليسار) وسركيس أبو زيد في دير راهبات الصليب في العاصمة الايطالية روما

يوم انتقل المطران كبوشي ليعيش في العاصمة الايطالية كان الصحافي انطوان فرنسيس محررا وكاتب تحقيقات في احدى اشهر المجلات العربية في العاصمة البريطانية لندن، فتابع تلك القضية، التي شغلت الرأى العام العربي والعالمي، منذ خروج مطران القدس من السجن حتى استقراره في دير جمعية ” راهبات الصليب” اللبنانيات في روما .

في تلك الحقبة كان الصحافي سركيس ابوزيد لا يزال صامدا في بيروت رغم هول الحرب المستعرة حيث يشارك في تحرير واصدار عدة مطبوعات ، وقد جمعته بانطوان فرنسيس صداقة نادرة لم تتوقف طوال اكثر من نصف قرن من الزمن. التقيا مطلع ستينات القرن العشرين في الصفوف الابتدائة على مقاعد ” مدرسة الفرير” في طرابلس، وتابعا رحلتهما التعليمية معا حتى معهد الاعلام في الجامعة اللبنانية، وتخرّجا في اليوم نفسه، فنال كل منهما اجازة بالصحافة عام 1974. وزاد العمر صداقتهما تجذّرا واخلاصا ومحبة.

ضابط اسرائيلي يعرض أمام وسائل الاعلام بعض الاسلحة التي ضبطت في صندوق سيارة المطران كبوشي

كانت الراهبة الأم “جان دو لا كروا ابوزيد “، عمة سركيس ابوزيد، رئيسة لدير”جمعية راهبات الصليب” في جل الديب قبل ان تنتقل الى روما في بداية الحرب اللبنانية عام 1976 حيث انشأت جمعية ” راهبات الصليب ”  ديرا جديدا ترأسته ” سور جان “. وكان انطوان فرنسيس يزور الام الرئيسة برفقة سركيس باستمرار في جل الديب قبل انتقالها الى روما، لذلك عندما قرأ خبر اقامة المطران كبوشي في ضيافة راهبات دير الصليب في العاصمة الايطالية سارع الى الاتصال بسركيس وسأله اذا كان المطران المَنفي يعيش في الدير نفسه الذي ترأسه “سور جان دو لا كروا ” ؟ فجاء الجواب:” ثمة دير واحد لرهبات الصليب في روما يقع في Bandera Via Fratelli. عندها اقترح انطوان على سركيس العمل على الحصول على مذكرات المطران كبوشي لنشرها في كتاب لا بد ان يحقق نجاحا كبيرا نظرا للدور النضالي المميز الذي قام به سيادته، ولحجم التعاطف العربي الواسع مع قضيته والقضية الفلسطينية في تلك الحقبة….

بعد ايام معدودة اتصل سركيس بانطوان وقال له بفرح كبير: ” وافق المطران كبوشي ان ننشر مذكراته“.

في مطلع تشرين الاول 1979اجتمع انطوان فرنسيس وسركيس ابوزيد بالمطران ايلاريون كبوشي في دير راهبات الصليب في روما، وتتابعت لقاءاتهم اليومية التي كانت تستمر ساعات، قبل الظهر وبعده، روى المطران كبوشي خلالها ذكرياته، منذ نشأ طفلا يتيما في مدينة حلب حتى دخل سلك الرهبنة واعلن نذوره الكهنوتية، وصولا الى تعيينه اسقفا على طائفة الروم الملكيين الكاثوليك في مدينة القدس المحتلة، وانخراطه في العمل النضالي لتحرير فلسطين منذ بداية تأسيس ” حركة فتح ” عام 1965.

لحظة وصوله إلى باحة المحكمة الاسرائيلية

وكان سركيس وانطوان يطرحان الاسئلة على سيادته ويغوصان في ادقّ التفاصيل. وجرى تسجيل كل كلمة قالها على اشرطة كاسيت.

بعد اسبوعين من اللقاءات اليومية، التي كانت تُستكمَل عادة على مائدة الطعام المتواضعة في ضيافة راهبات الصليب، بلغ عدد الاشرطة المسجلة عشرة، ووصلت الذكريات الى خواتمها. وبمباركة المطران انتقل الكاتبان الى لندن حيث عملا طوال اكثر من شهر على تفريغ الاشرطة وصياغة النصوص، قبل ان يعود سركيس الى بيروت.

وتوجّه انطوان الى باريس حيث عرض على دار “هاشيت للنشر” اصدار كتاب باللغة الفرنسية تحت عنوان ” الاسقف الثائر” L’Archeveque revolutionnaire’ وحصل على موفقة مبدئية بالنشر فور جهوز الكتاب.

كان المطران كبوشي قد وضع شرطا اساسيا على الكاتبين يقضي ” بعدم نشر اية كلمة قبل ان يراجع النصوص بنفسه “. والتزاما من الكاتبين بهذا الشرط ارسل انطوان فرنسيس مسودة الكتاب الى روما بعد ان انهى تنقيحها واعدادها للطبع.

بعد عشرة ايام اعاد المطران كبوشي النصوص الى لندن بعد ان وضع عليها ملاحظاته بخط يده. بدّل كلمات، واضاف عبارات، وشطب مفردات… فأنصرف انطوان الى اعادة صياغة الكتاب مرة ثانية استعدادا لنشره بحلته الجديدة كما اراده سيادته…

لحظة وصوله إلى باحة المحكمة الاسرائيلية

 فجأة تبدّل كل شيء!

بعد اربعة ايام فقط على عودة النصوص المنقّحة الى العاصمة البريطانية ، وقرابة التاسعة ليلا، رنّ جرس الهاتف في منزل انطوان فرنسيس في لندن ، ففوجىء الكاتب بصوت الأم ” جان دو لا كروا ” تقول له:”ان سيدنا يريد ان يتحدث اليك. اطلب منك، وانت عندي بمعزّة سركيس، ان تتفهّم موقفه، وتلبّي طلبه… لأن الظروف اقوى منه… ومنا جميعا.”

طال الحديث ذاك المساء بين المطران ايلاريون كبوشي وانطوان فرنسيس. كان الانزعاج واضحا في صوت اسقف القدس، والاضطراب مسيطرا على نبرته بسبب دقة الموقف. تحدث بلباقة، وابوة، ومحبة، وكان خلاصة ما قاله:

” لا استطيع ان انشر اي شىء عن حياتي الان وبخاصة كل ما يتعلق بفترة سجني في اسرائيل. ارجوك يا انطوان ان تتفهّم موقفي وتتخذ القرار المناسب. انا محرج تجاهكما. لقد تحدثت الى سركيس في بيروت قبل قليل وأبدى كل استعداد للتجاوب مع رغبتي بالأمتناع عن النشر، واخبرني ان النصوص بحوذتك انت، وانت قادر ان تنشرها اذا اردت ولا يمكنني ان انفي مصداقيتها لانها مسجلة بصوتي…”

ووجد انطوان فرنسيس نفسه في موقف لا يُحسد عليه…فطلب من المطران كبوشي ان يشرح له السبب الجلل الذي جعله يبدّل رأيه فجأة ” بعد شهرين من العمل الشاق، اضافة الى ما تكبدناه من مصاريف سفر واقامة في روما”…

فاكتفى سيادته بالقول:” صدقني الامر خارج عن ارادتي ولا تطلب مني ايضاحات اكثر. ”

وبعد تفكير طويل قرر الكاتبان الصديقان عدم نشر المذكرات رغم الخسائر المادية والمعنوية الكبيرة التي نتجت عن قرارهما. واعتبرا ان مطران القدس لا يمكن ان يطلب منهما عدم نشر المذكرات، التى رواها لهما طوال ايام وايام، واستمع مرارا وتكرارا الى صوته مسجلا ليتأكد من كل عبارة يقولها… ثم نقّح النصوص بخط يده، لو لم يتعرّض لضغط كبير من الدوائر الفاتيكانية التى عملت على اطلاق سراحه من السجون الاسرائيلية، وتعهّدت لاسرائيل التزامه بعدم قيامه باي نشاط سياسي او نضالي في سبيل القضية الفلسطسنية طوال اقامته في روما. واعتبرت السلطات الكنسية الكاثوليكية ان نشر المذكرات سوف يُعدّ طعنا بمصداقيتها، واخلالا بالتزاماتها، وسوف يتسبب لها بمشاكل كثيرة على الصعيد الدولي، آثر الفاتيكان ان يتجنبها بعدم نشر الكتاب في تلك المرحلة.

اليوم، وبعد مرور38 سنة على لقاءات روما، رحل مطران القدس والقضية في اليوم الاول من العام2017، وبقيت مذكراته محفوظة في احد الصناديق العتيقة… فقررنا اخراجها الى النور وننشرها للاسباب التالية:

اولا: تحية منا للمناضل الكبير الذي امضى حياته كلها مدافعا عن فلسطين والشعب الفلسطيني، وعن مدينة القدس،  ولم يصدر اي كتاب يوثّق حياته ونضاله داخل السجن.

ثانيا: لان المطران ايلاريون كبوشي بات رمزا لتمسك المسيحيين المشرقيين بالقضية الفلسطينية، وبمدينة القدس بالذات، التي حملها في قلبه وضميره ووجدانه، وسوف يبقى مطرانها في الحضور والغياب.

تظاهرة فلسطينية أمام قاعة المحكمة للمطالبة بإطلاق المطران المقاوم

ثالثا: نظرا لما تتضمنه المذكرات من معلومات واراء قيّمة، وغير معروفة، لا بد ان ننقلها للاجال الاتية، ايمانا منا ان قضية فلسطين هي قضيتنا جميعا… ومدينة القدس سوف تبقى ابد الدهر العاصمة الروحية للانسانية.

انطوان فرنسيس                  سركيس ابو زيد

اترك رد