إيلي مارون خليل (30)

      

تستيقظ كمَن في حلم. تتدبّر أمرَك كمَن في حلم. تبدأ تمارس رياضتَك الفجريّة كمَن في حلم. ترافقُك العصافير، تقفز من حَورة إلى دِلبة إلى سَرْوةٍ، مُغَرّدةً، مزغردةً، كمَن في حلم. والنّسيمُ الّلطيفُ البرودةِ يتحسّس وجهَك وعنقَك بحنان كلّيّ، كمَن في حلم. تأخذ الشّمسُ تُطِلُّ من خلف صنّين، تتنصّتُ عليك، تحاول تفهم ما توشوشُك به العصافير، كمَن في حلم.

وما تنتبه، أنت، كيف وقعتَ في التّذكُّر، كمَن في حلم.

وكمَن في حلم، تتراءى لك أيّامُك الماضية. لا تغيب منها لحظة. لا ينقص منها شُعور.

لا تتعذّبُ، أنتَ، في البحث عن حدث. وتستمرّ في رياضتِك الفَجريّة، مشيًا، ذهابًا وجيئةً، لا يفارقُك نسيم، ولا يتعب عصفور، ولا تتباطأ شمسٌ، وتستمرّ ذكرياتُك منك تنبثق، تتفجّر، تدفق، كمَن في حلم.

وترى طفولتَك مع والدَيك: والدِك الهادئ العذبِ المتأمّل الرّصين الّلطيفِ المُحِبّ المحبوب… ووالدتِك الطّموح الحنون العصبيّة المزاج السّريعة الغضب المُحِبّة التّرتيب والنّظافةٍ، على مزاحٍ وطرافة لسان وتَهَوُّرِه. ومع أخويك وأختِك. والأتراب. وتطلع، من ذهنِك، مشاهد وأحداث، عذب بعضها، وبعضها حزين. بسمة، ضحكةٌ، هنا. هناك عبسة ودمعة. هنالك انتعاش وفرح، وهنالك غُصّة واختناق. كمَن في حلم.

وكمَن في حلم، تطفر من عينيك مراهقتُك مع مراهقات ومراهقين. كانت حياتُك ونفسيّتك وشخصيّتك ورغائبك وهواياتُك مختلفة. تفرح ولا تندم. تفخر بحبّك الأدب والموسيقى والرّياضة، وكيف أعطيتَها أوقاتك وعمرك.

وتتناثر أمامك حياتُك الجامعيّة والعمليّة. ديبلوماسيًّا كنتَ. لم تزعلْ، وما زعّلتَ. كمَن في حلم. وتبرز حياتُك الأدبيّة مذ “مزمور حزين لبلادي” حتّى ما تعمل عليه اليوم. حاولتَ تكون جديدًا. رأى دارسوك أنّك نجحت. كمَن في حلم.

وحياتُك العاطفيّة على امتداد عمرِك… وما قمتَ بفعل ندمتَ عليه. تميّزتَ بالصّدق والوفاء، نظافة الضّمير. نجحت مع شريكة الحياة، ومع الأولاد، وهم اليوم، ناجحون، كلٌّ في مجاله. كمَن في حلم.

وكمَن في حلم، تقاعدتَ. كمَن في حلم عدتما اثنين: حبيبتُك وأنت. يزورُكما الأولاد والأحفاد. يبقى صغيرك عازبًا، لكنّه يستعدّخلال سنة. ولم تتدخّلا في اختيار أحدهم.

وكمن في حلم، تمارس الرّياضة، يوميّا. ويوميًّا تكتب. تكتب مقالة، أو دراسة، أو بحثًا، أو أقصوصةً، أو جزءًا من رواية، أو أقصوصةً للأطفال أو للأولاد، أو… مداخَلة، أو خطابًا.

وكمَن في حلم، يُحيط بك أهل وأصدقاء. تتناسى مَن أساء إليك من رفقائك، تسامح، تغفر، فتمضي حياتُكَ هانئةً، هادئةً، مسالمةً، مطمئنّةً، كما ينبغي أن تكون عليه الحياة.

وكمَن في حلم، تُنهي رياضتَك مع العصافير والنّسيم قبل أن تطلعَ الشّمسُ تمامًا. من دون تفكير تعود. تفكّر، تقول: عمّاذا سأكتب اليوم؟!

تصل. تجلس أمام آلتِك. تفتحها. وتبدأ بالجملة الأولى. تسيل التّعابير التّالية. تحلّق. تنقطع عمّا حواليك. وفجأة تنتبه أنّك أنهيت. تمامًا كمَن في حلم.

تقاعدْتَ!؟ لا!

لا تزال الحياة تليق بي. بنا. حلوةٌ هذي الحياة! كالحُلم!

ولقد حييتُها، كلَّها، كمَن في حلم. وسأحيا ما تبقّى، سعيدًا، كمَن في حلم!

وحين أعبرُ إلى الآتي، سيُقال:

“عاش ورحل… كمَن في حُلم!”

ألأربعاء  24- 8- 2016

 

اترك رد