أرغب في أن أكتبَ، هذا الصّباح، ولم أختر موضوعًا. في العادة الدّائمة، ولا مبالَغة، لا أختار موضوعي. هو يختارُني! يُلِحّ عليّ. يملأ ذهني. يعصِف في بالي. يَفيض عفويًّا وتلقائيًّا. يستمرُّ يَفيض إلى أن يتوقّف، فتتوقّف يدي عن الكتابة. يكون انتهى الموضوع، وقد تمّ ما أردت قوله. ألأصَحّ: ما ألحّ عليّ يُريد التَّجَسُّدَ. في هذه الحال، “هو” يوقِفُ الدَّفْقَ، لا أنا!
ما الموضوعُ الأحَبُّ، الأقربُ إليّ؟! بصراحة لستُ أعرفُ! فالموضوعُ يُشرِقُ ويتدفّق، وقد لا أكونُ واعيًا ما أكتبُ! فإنْ سُئلْتُ، وأنا في “الحالة”، “حالةِ” الكتابةِ، عمّا أكتب، أو فيمَ أُفكّرُ، لَما حِرْتُ جوابًا!
ها قد انقضى الّليلُ. سهرتُه كلَّه! لا! ليس لمرَض. ولا لقلقٍ. ولا لفكرة كنتُ أعملُ عليها. سهرتُ الّليلَ، كلَّه، قلتُ! أنا الشّهيرُ بسرعة الإغفاءة، مهما كان يحصُل، أو يحدثُ لي. ألسّبب؟! قدرتي الكلّيّةُ على “إفراغ” ذهني ممّا فيه، ومهما كان. “هذه نِعمةٌ”! يقال لي. أعرفُ. وأُسَرُّ. أكونُ في قِمّةِ السُّرور.
فماذا حدثَ هذا اللّيل؟! ألواقع أنّي كنتُ وحيدًا؛ فارغَ الرّوحِ، ووحيدًا! ألوحدةُ أفضت بي إلى فراغ الرّوح.
كنتُ وحيدًا؟! نعم! لقد كنتُ وحيدًا ومقهورًا حتّى أعمق أعماقِ جراح الوحدةِ اللّئيمة.
في الوحدةِ شُعورٌ بالإهمال. شعور متطرّف. ألإهمال يخنق.
في الإهمال شعورٌ بالتَّخَلّي. شعور دونيّ. ألتَخَلّي إذلال.
هذه الوحدةُ القهّارةُ الّلئيمةُ المُهمِلةُ الخانِقةُ المُتَخَلّيةُ المُذِلّةُ، تطردُ أيَّ فرحٍ سكينةٍ سلامٍ هدوء تركيز طُمأنينة. حينئذٍ، في الفراغِ تحيا، في غَوغائيّة الفراغ، تُهَشّم، فيك، روحًا وجسدًا، تُشَلّعُهما، فتحسّ أنّك كائنُ الموت القريب. أن تموت وحيدًا، في بيتك، بين أهلٍ وأحِبّاءٍ وأصدقاء، كأن تموت في الطّريق، في مَهَبّ السُّبلِ، غريبًا مَرْذولًا مُهانًا… حجرًا أهمله البنّاون، ورذلوه. فما ينفع الحجرُ المُهمَلُ المرذولُ؟! فكيف إن كنتَ وحدكَ وحيدًا ضعيفًا مُفرَغًا من كلّ ما فيك، “كشاةٍ سيقتْ إلى الذّبح”!
لعلّ أكثر ما في هذه المسألةِ إيلامًا، شعورُكَ المُرُّ بالخواء الدّاخليّ. تشعر بهذا، وتشعر بضدّه في الوقت الواحد. أنتَ خاوٍ، من ثمّ فارغ، لكنّك لن تستطيعَ أن تملأ الخواءَ، كما لن تستطيعَ، أيضًا، أن تستدرجَني إلى “التَّعالي”. ذلك أنّ “غَوغائيّة الفَراغ”، ضوضاء هَشّةٌ لا حياة فيها، ولا رجاءَ منها. كّلُّ ما في هذا الهَباء، نُثار غَباوةٍ، بطيءٌ، طائرٌ في الفضاء، يملأه نُثارًا لا أثر مادّيًّا له، لكنّه يُقيم في النّفسِ، في الرّوح، يعمه ما فيهما، ولا يتركهما تهدآن.
ألّليل كثيف… كثيفٌ وبطيءٌ. كثيفٌ وبطيءٌ وأعمى. يُثقِلُ عليّ، يزيد الحبيبَ البعيدَ صدق حبٍّ وبُعْدًا مَعمَهانيًّا. وأنت! أن تتناثر ليلًا وحَنانًا وصدقًا، وتتّصل ثانية في إثر ثانية. تقول لها: حدّثي بعدُ! حدّثي! حديثُك يقشرني فأطهر، يطهّرُني فأُنقَذُ، أُنقَذُ فأرقى، وتتجمّع فيّ القيَمُ.
تقول لك: لا أقدر! إنّهم حولي! كلُّهم حولي!
تيبس روحُكَ فيك. تنطفئُ جمراتُ الآتي. تُتعِبُ نفسَك لتنجح في إضاءتها. تُصَلّي. تُغمِضُ عينيك، تُصَلّي. تُقفِلُ حواسَّ الرّوحِ، فتتراءى لك الحبيبةُ، حارّة كالتّقوى، بعيدةً كاستعارةٍ، غاليةً كدمعة الكرامة.
تتعذّبان. تصمت، هي، فجأةً. تتخيّل أنت، أن فاجأها أحدُ الحُرّاس. فتتألّم عنكما. وتظلّ تتخيّل آلامَها، وتحيا آلامَك. تتخيّل ما قد يحلّ بها، وتحيا حالتَك.
ويطلع الفجرُ… فإذا بك أمام آلتِك، تتقطّر كلمة كلمة، وآيةً آية… وتنتبه…. لقد أنهيت ما غلبك لتكتبَه. كتبتَ حبَّك!
رأيتَ عينيكَ أورَقتا، والأحلام… فانتشَيْتَ! ألأحد 21 آب 2016
رائع ومتميز جدا جدا جدا. هذا النفس والروح تنقصنا هذه الأيام.شكرا ايلي م. خليل.