أيقونة لوقا البداية والطبيعة مصدر النور المرتسم على قسمات الوجوه
فن نابع من بساطة الحياة اليومية، أبدع أيقونات تميزت بخصوصية مستمدة من الهالة النورانية المستوحاة من طبيعة الإله الذي تأنس وصار بشراً والإنسان الذي تأله فصار قديساً، فعبرت الأزمنة والأمكنة واستمرت عبر العصور خير شاهد على إبداع جعل من الفن القبطي مدرسة تتقن لغة الخلق وتكتب بواسطة الخشب والذهب والالوان النورانية فصولاً لا تنتهي من كتاب الله على الأرض.
يطلق مصطلح الفن القبطي على الفن الذي ابتكره المسيحيون في وادي النيل منذ عام 313 م حتى دخول العرب مصر عام 641. شكل العهد الفاطمي عصراً ذهبياً للأقباط فعاشوا على مدى مئتي سنة، مدة حكم الفاطميين، مظاهر الترف والغنى وعرفوا، في أوقات أخرى، طعم البؤس والجوع والضنك، تنعموا بالتسامح الديني الكامل فى حقوق مواطنة كاملة، وكانوا، في أوقات أخرى، فريسة للاضطهاد والاستبداد يالشديد، ومع هذا ازدهرت في عصرهم الفنون.
كان التصوير الجداري السائد في العصر القبطي يطبق الطريقة التي تواترت منذ أقدم العصور في مصر، وهي التصوير بألوان الأكاسيد على الجدران المغطاة بطبقة من الجبس، ومنه انتشرت هذه الطريقة بين مسيحيي الشرق والغرب، وظل الأمر كذلك حتى بداية عصر النهضة. وقد وجه الأقباط عناية كبيرة إلى زخرفة الجدران والمحاريب الموجودة في الكنائس برسوم مستوحاة من قصص الأنبياء والأحداث الدينية، من بينها: رسوم للسيدة العذراء والسيد المسيح، الملائكة، الرسل، القديسون، الشهداء، مواضيع من التوراة والإنجيل.
مميزات الفن القبطي
يتميّز الفن القبطي بأنه: فن شعبي وليس فنا ملكيًا أو امبراطوريًا، إذ كان الشعب يشرف على فنه ويبدعه وينفق عليه من ماله الخاص بعيدًا عن أي مساندة رسمية. فن ريفي نشأ تحت كنف الاضطهاد وبعيداً عن أماكن الحكومة، لذا عكست الرسوم أشخاصًا عاديين وحيواناتهم الأليفة التي تملا كل بيت ومناظر تمثل الحياة الريفية والشعبية البسيطة. فن ارتجالى بسيط لأن الرهبان الذين كانوا يشرفون عليه لم تكن لهم دراية تامة من الناحية الفنية، وكانوا يرسمون في جو مشحون بالقلق بعيداً عن الطمأنينة وراحة البال. اتسم باستخدام الهالة على رؤوس القديسين والشهداء أوالتاج أو الاثنين معاً. ابتعد عن محاكاة الطبيعة وتقليدها، وتمحورت الرسوم حول الرمزية وأظهرت مميزات الأشكال المرسومة.
أما الفنان القبطي فتميّز عن الفنان البيزنطي برسم القديسين حولهم هالة من النور في حين رسم الفنان البيزنطي تاجاً على رؤوسهم. كذلك تميز الفنان القبطي برسم القديس بفرح وألوان مشرقة، إذ يبرز الأبدية السعيدة التي نالها هذا القديس أو هذه القديسة.
فن مستقلّ
ساد اعتقاد في البداية بأنه لا وجود لفن قبطى مستقل، والآثار المسيحية في كنائس الأقباط وأديرتهم، هي بيزنطية يونانية، إلا أن العلامة ماسبيرو Maspero أول من لاحظ استقلال الفن القبطي عن سواه من الفنون الأخرى، وقد أجمع الباحثون والرحالة على ذلك، ولو تشابه هذا الفن في القرون الثلاثة الميلادية الأولى مع الفن البيزنطى اليوناني، ويرجع ذلك إلى ارتباط الكنيسة القبطية مع الكنائس المسيحية عامة. ولكن منذ انفصال الكنيسة القبطية عن الكنائس الغربية أصبح لها وجود ذاتي مستقل وتخلص الأقباط من كل ما له علاقة بالفنون البيزنطية واليونانية، وعادوا إلى الصناعات المصرية الفرعونية مع إدخال تعديلات تتفق مع المعتقد الديني المسيحي.
اهتمت المتاحف الكبرى في العالم بعرض نماذج من الفن القبطى من بينها: متحف اللوفر في باريس، متحف برلين في ألمانيا، متحف المتروبوليتان في الولايات المتحدة، متحف لندن في المملكة المتحدة، المتحف الملكي في بلجيكا. كذلك اهتمت جامعات في العالم بإنشاء أقسام متخصصة لدراسة هذا الفن من بينها: قسم تاريخ الفن القبطي في “جامعة ليدن” في هولندا، قسم الدراسات القبطية في “جامعة مونستر” في ألمانيا، قسم الفن القبطي في “جامعة وارسو” في بولندا…
صناعة الأخشاب
ابتكر أقباط مصر عناصر الفن المسيحى المتمثل في صناعة الأخشاب والفخار والزجاج المعادن والعاج والعظم بالإضافة إلى الأيقونات والمنسوجات والعمارة، وكان الشعب القبطي فنانًا بطبيعته فزخرف المنازل والمباني والكنائس بعناصر مثل النسيج والأحجار.
تجلى تفوق الأقباط بفن النجارة من خلال درايتهم الكاملة بالأنواع المختلفة للأخشاب. لم يتوقف استخدامهم على الأنواع المحلية، كما كانت الحال عند قدماء المصريين، مثل خشب الجميز والنبق والسنط والنخيل، بل استوردوا أجود الأنواع من الخارج مثل خشب الأبنوس من أثيوبيا وجنوب السودان، الأرز من لبنان وسوريا، الساج من الهند، بالإضافة إلى خشب الجوز والبندق والبلوط من أوروبا وغرب آسيا وغيرها.
عند استخدامهم للأخشاب المحلية، كانوا يقطعونها ألواحاً ويسكبون عليها المياه، ثم يتركونها تحت أشعة الشمس مدة كافية حتى تجفّ وكي لا تلتوى بعد صنعها تبعًا لتغير حرارة الجو، ومنها ما كانت رائحته ذكية تساعد على منع الحشرات التي تفتك بها سريعًا. عندما استوردوا الأصناف الأخرى من الخارج نشأت لديهم طريقة تطعيم الخشب فصنعوا البرواز الخارجى من الخشب العادي ثم زينوا سطحه بحشوات منقوشة من أنواع أخرى ما أكسبها رونقاً وبهاءً.
لخشب الزيتون أهمية خاصة عند الأقباط، لأن ذكره ورد كثيراً في الكتاب المقدس، فصنعوا منه ختم الخبز المقدس الذى يستخدم في الصلوات الكنسية، وما زالوا يستعملونه لغاية اليوم، كذلك خشب الجميز، إذ يعتقد أنها شجرة مقدسة كونها تعيش أجيالاً من دون ري بالماء، وقد زرعها المصريون القدماء بكثرة إلى جانب المقابر والمعابد وصنعوا منها التوابيت.
استمر تزيين الخشب ونقشه برسم صور دينية ومناظر من حياة الأقباط وأعمالهم لغاية القرن العاشر الميلادي في عصر الفاطميين، عندما تبدلت هذه الصور بأشكال هندسية ونباتية تخللتها صور الطيور والحيوانات.
ما يلفت في صناعة الأبواب الدقيقة والحواجز الخشبية في الكنائس التي يطلق عليها “حامل الأيقونات”، أنها تتكون من قطع صغيرة من الخشب المخروط أو المنقوش. وتتجلى روعة تلك الصناعة في إمكانية تجميع أجزائها بعضها إلى بعض من دون استعمال مسامير أو غراء في تثبيتها، بين كل حشوة وأخرى تركت مسافة كافية مراعاة لما قد يحدث في الأخشاب عادة من تمدد أو انكماش تبعاً لاختلاف فصول السنة، فيتسنى لها بذلك أن تتكيف حسب اختلاف درجات الحرارة طوال العام.
يمتاز الفن القبطي بالبساطة وبالبناء الهندسي غير المعقد، وغالباً ما تدخل في بنائه المنمنمات والعاج المستخرج من عاج فرس النهر، لتزيين وزخرفة أدوات الزينة وأدوات أخرى تدخل في الاستخدام المنزلي، وكانت غالباً ما تلون بألوان مختلفة مثل الأحمر الداكن والوردى الفاتح.
يرجع تقليد نحت العاج واستخدامه فى التطعيم إلى مصر القديمة، ومع ذلك يرجع تاريخ معظم القطع العاجية، الموجودة في متحف مكتبة الأسكندرية، إلى القرن الثاني الميلادى. وقد استمر إنتاج المشغولات العاجية خلال العصر الإسلامي، حيث طعمت أعمال الأرابيسك الخشبية الفنية بقطع عاجية صغيرة.
رسم الأيقونات
يقال إن لوقا هو أول من رسم أيقونة فنية يرجع إليها بداية الفن القبطي في الظهور، جسد فيها المسيح الطفل في حضن أمه العذراء، وفي فترة سوداء من تاريخ الكنيسة، سلبت الإيقونات من على جدران الكنائس ورميت في مخازن خاصة بالكنيسة إلى أن استعيدت وزينت من جديد واجهات الكنائس الشرقية بخاصة منها المصرية.
كثيرا ما تأخذ الرموز والأشكال معاني فلسفية تُقرأ بحسب ورودها في الكتب المقدسة المسيحية، كالحمل والحمام والطاووس، فمثلاً يرمز الحمل إلى المسيح لذا يرسم بهيئة توحي بالرقة والجمال والرشاقة.
قبل المباشرة برسم الأيقونة يجب تهيئة المساحة التي سترسم عليها بدقة. يستخدم الرسام خشب السرو والسنديان والزان والكستناء أو الأكاسيا، شرط أن يكون خالياً من العقد، ثم يهيئ صفحته بمحلول الصمغ ويلصق على هذا المحلول نسيجاً رقيقاً يتّحد بالخشب اتحاداً وثيقاً. بعد ذلك يطلي هذه الصفحة بالطبشور أو بمسحوق المرمر الأبيض الممزوج بالصمغ الحيواني مرات عدة، ويجففها بورق الزجاج أو بخرقة ناعمة، ثم ينقش خطوط الرسم خفيفاً، ويلصق حولها أوراق الذهب.
بعد هذه المرحلة يبدأ الفنان الرسم مستعيناً بألوان صادرة قدر الإمكان من رغوة مسحوق طبيعي ممزوج بصفار البيض ويسمى “التنبير”، بعد الانتهاء من الرسم يبسط الفنان فوقه طبقة من أفخر زيوت الكتان ويضيف إليه أصنافاً من راتنج الأشجار، أي من صمغها المستحلب كالعنبر الأصفر، فيشرب هذا الطلاء الألوان ويجعل منها مجموعة متجانسة قاسية ثابتة. مع الأيام، تكسب أكسدة الألوان لوناً معتماً.
للنور شأن في الأيقونة، يركزه الفنان في المساحات العليا، لأن النور يهبط من العلاء، باعتبار أنه نور سماوي ويشكل، وفي الوقت نفسه، خلفية الأيقونة. عندما يرسم فنان الوجه يغطيه أولا بلون قاتم، ثم يضع فوقه صبغة أكثر وضوحاً، يحصل عليها بإضافته، إلى المزيج السابق، كمية من مسحوق أصفر، أي من نور، هكذا يبدو الوجه صورة لنمو الضوء في الإنسان.
لم يهتم الرسامون القدماء بالتفاصيل المشهدية حول شخص القديس، لرغبتهم في نقل المشاهد من حيز المكان والزمان،. المهم في الأيقونة هو الشخص أو الحادثة، أي المعنى الروحي للحادثة التاريخية، وبتحرير الحادثة من المكان والزمان، تكتسب مدى لا نهاية له، وتمتد من الماضي إلى المستقبل عبر الحاضر، فهي ليست مجرد ذكرى لأشخاص أو لأحداث، بل تؤكد وجودهم الفعّال، باعتبار أن الأيقونة ترفع الأشخاص إلى حاضر دائم.
يستمدّ الرسام من الشكل الفيزيولوجي أساس الرسم ، لكنه يضفي عليه مسحة روحية ويظهره ليس كما كان في شكله على الأرض، بل كإنسان متأله تتغير صورته كما غيّر الرب صورة وجهه في ظهوره للتلاميذ بعد القيامة، وفي حادثة التجلي.
المتحف القبطي
شيّد مرقص باشا سميكة المتحف القبطي في القاهرة عام 1910 بالقرب من الكنيسة المعلقة الشهيرة، ويعدّ من أهم المراكز الثقافية والفنية في البلاد، من أبرز محتوياته: رسائل قديمة تعكس الحياة الاجتماعية التي عاشها الرهبان في الحقبة القبطية، مشغولات معدنية ذهبية وفضية وأوان وأدوات فخارية ومنسوجات مستوحاة من الحياة اليومية، مجموعة نادرة من الأيقونات الملونة، مخطوطات مزخرفة من مجموعة “نجع حمادي” الشهيرة و”مخطوط دفنار” يضم أناشيد وتراتيل قبطية وعربية سجلت مسار العائلة المقدسة إلى مصر، أفاريز حجرية وخشبية. “أيقونة التعميد” وترجع إلى عام 1774، “أيقونة تمجيد السيد المسيح والسيدة العذراء” وتعود إلى عام 1742.