مولود بن زادي لصحيفة “رأي اليوم “اللندنية:

مقاطعتي الصالون الدولي للكتاب في الجزائر أبدية…

حرب الرواية الجزائرية حقيقية..

لن يثنيني التهديد عن التعبير عن أفكاري أو الدفاع عن اللغة

أجرى الحوار: الإعلامية اللبنانية كلود أبو شقرا

http://www.raialyoum.com/?p=766827

1– تحمل وطنك في قلبك وفي قلمك وتعكسه في رواياتك بكل جماله وتناقضاته؟ فإلى اي مدى الأديب المهجري يكون صلة وصل بين مجتمعه والمجتمع الغربي الذي يقيم فيه؟

الأدب المهجري إبداع أدبي، له سماته الخاصة مثل الحنين إلى الوطن والنزعة الإنسانية والتحرر في الأفكار. والأدب المهجري مختلفٌ فكرةً ولغة وأسلوباً عن الأدب المحلي، يعكس تجارب صقلتها بيئات مختلفة. ولهذه البيئات بالغ الأثر في حياتنا ومؤلفاتنا. الأدب المهجري جسر يربط مجتمعاتنا العربية بالمجتمعات الغربية التي نحيا فيها. نستطيع بكل تأكيد أن نكون خير سفراء لمجتمعاتنا في البلاد الغربية. فنحن اليوم بحكم حياتنا الطويلة في هذه البيئة، اطلعنا على ثقافاتها، وطريقة تفكير أفرادها ، فصارت منا وصرنا منها ومن أهلها، وأهل مكة أدرى بشعابها. هذا ما جعلني أقول في أحد الحوارات الماضية إني أستطيع أن أمثل الجزائر خارج الديار وكنت أقصد بذلك المملكة المتحدة التي أعتبرها وطني وأمي إضافة إلى وطني الآخر الغالي الجزائر.

من مزايا الأدب المهجري أنه يستطيع أن ينتج أدبا مشبعا بالقيم الإنسانية والحضارية. فنحن اليوم إن وجدنا عناية ودعماً، ساهمنا من خلال كتاباتنا في نشر مبادئ المحبة واحترام الآخر وتقبله في مجتمعاتنا، ومد جسور الوئام والتسامح والتواصل والتعاون شرق – غرب، وإرساء قواعد السلام والاستقرار والأمن في عالمنا.

2- تتخذ من الرومنسية أسلوباً في رواياتك وفي الوقت نفسه تنبض كتاباتك بمعاناة الإنسان اليوم، فهل ترى أن الرومنسية اليوم يجب أن تكون واقعية؟

لابد أن نؤسّس لأدب عابر لحدود المدارس الأدبية التي حصرنا فيها أعمالنا لأجيال.. أدب يجمع الواقعية والرومانسية في مؤلَّفٍ واحد يخاطب العقل والمشاعر معاً.. أدب واقعي شعاره الإنسانية وغايته المحبة ومحوره الإنسان.. وكل ذلك بأسلوب رومانسي جميل، ولم لا؟ وبحكم أني أنتمي إلى المدرسة الواقعية، فإنّي أؤكد أنّ الأدب في تصوري وصف للواقع قبل الخيال. وهو تصوير للبيئة التي نعيش فيها ولحياة الإنسان في هذا الكوكب قبل محاولة تصوير عوالم أخرى خارج عالمنا، والسباحة في فضاءات بعيدة عن كوكبنا، والهبوط بخيالنا على سطح كواكب أخرى بعيدا عن حياتنا وواقعنا وصراعاتنا ومعاناتنا. من هذا المنطلق، أسعى كل مسعى لتصوير الواقع بأسلوب رومانسي جميل مفعم بالكلمات الرقيقة والصور والعبارات الشاعرية والصور البيانية بقدر المستطاع وبما يسمح به العمل الروائي…

وقد أكّدَتْ دراسات نقدية أنّ رواية “رِيَاحُ القَدَر” كُتبت بأسلوب رومانسي. ووصَفَ بعضُ النقاد أسلوبي بالأسلوب السهل الممتنع. وشبّهه بعضهم الآخر بأسلوب جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة. آنذاك، قال عني خصومي إني أسعى لتقليد أدباء المهجر ورواد الأدب العربي في عصره الذهبي. وهذا غير صحيح لأنه حتى وإن كان ثمة تشابه في الأسلوب، فإنّه لن يكون في نهاية الأمر غير أسلوبي الذي صقلته قراءتي وتجاربي الخاصة. ورغم تأثري بمدرسة المهجر، فإني لن أكون صورة طبق الأصل لغيري، ولن أكون في آخر الأمر غير نفسي. وإن كان لأدباء المهجر أثر في كتابتي، فإنّ العالم سيكتشف حتماً مساهمتي وأثري فيه المتمثِّل على وجه الخصوص في إضفاء الصبغة الواقعية على هذا الأدب المعروف بنزعته الرومانسية. الواقعية حاضرة في أعمالي من خلال روايات مقتبسة كلها من قصص واقعية تصوّر المجتمع والمواطن وحياته وصراعه من أجل الحياة.. روايات يلعب أدوارها أشخاص من هذا الواقع الذي نعيشه. ولعلّ أفضل مثال لعمل روائي يجمع الواقعية والرومانسية معاً “رِيَاحُ القَدَر” وهي رواية عاطفية اجتماعية مقتبسة من قصّة حقيقية يغلب عليها الأسلوب الرومانسي، مثلما أكدت دراسات نقدية. ينطبق ذلك أيضاً على روايتي الجديدة “مَا وَرَاءَ الأُفُقِ الأزْرَق” وهي في الواقع رواية سيرة كتبت تحت سماء لندن المغيمة والممطرة ونشرت تحت سماء القاهرة الصافية والمشمسة.

3- سبق أن قلت إنك ستقاطع الصالون الدولي للكتاب في الجزائر هذه السنة، وها أنت اليوم تشارك في هذه التظاهرة من خلال روايتك الجديدة” مَا وَرَاءَ الأُفُقِ الأزْرَق”، ألا يعدُّ ذلك تناقضا أو تغيّرا في الموقف؟

ليس ثمة أي تناقض أو تغيير في الموقف. فما حصل في السنوات الماضية سيحصل هذه السنة أيضا وهو عدم حضوري الصالون الدولي للكتاب في الجزائر. المقاطعة أشكال وألوان، وما هذه إلاَّ مقاطعة بلون آخر. روايتي ليست ملكي فحسب. فدار النشر التي اجتهدت في سبيل نشرها لها أيضا الحق فيها وفي تسويقها والاستفادة منها. دون أن ننسى القراء الكرام، وكيف ننسى هؤلاء والرواية موجهة لهم بالدرجة الأولى، ومعرض الكتاب هو الفرصة الوحيدة لهم للحصول عليها في الجزائر. وليس من حقي أن أحرمهم منها نتيجة مواقف شخصية لا دخل لهم فيها. فالرواية ستكون حاضرة من خلال مشاركة دار النخبة للنشر والتوزيع في هذا المعرض. لكني شخصيا لن أحضر، وعدم حضوري شكل من أشكال المقاطعة. ومقاطعتي الصالون الدولي للكتاب في الجزائر أبدية إن لم تتغير الأمور.

4- وما سبب المقاطعة يا ترى؟

لأسباب ذكرت بعضها في السنوات الماضية، تتمثّل أساساً في التوزيع غير العادل لدعوات الحضور. إذ أنَّ الهيئة المشرفة على الصالون تخص بهذه الدعوات فئة قليلة من الأدباء سنة بعد سنة وتحرمنا منها من غير مبرر. أيضاً تعامل الهيئات الثقافية ومؤسسات النشر الكبرى مع فئة معينة وامتناعها عن التعامل معي. أنا لا أرى نفسي أقل من أحد. لي أعمال مسجلة في المكتبة وتدرس في الجامعة وتشارك في المعارض الدولية. وأكثر من ذلك لي معجم يقع في أكثر من 600 صفحة وهو الأول من نوعه في الجزائر، نفدت منه طبعتان وبيع منه آلاف النسخ. لا يمكنني أن أقبل مثل هذه المعاملة. لهذا يحزنني أن أقول إنّ مقاطعتي الصالون الدولي للكتاب في الجزائر أبدية ولن أتراجع ما حييت إلاَّ إذا شعرت بمعاملة عادلة. فأنا بطبعي، لن أقبل المشاركة في هذا المعرض ككاتب من الدرجة الثانية أو الثالثة.

5- كيف تختصر الواقع الأدبي في الجزائر؟ وما العقبات التي تعيق الأديب لا سيما علاقته بدور النشر؟

ما زال المشهد الأدبي في الجزائر مغلقاً في وجوه المواهب الجديدة، تنعم فيه فئة قليلة من الأدباء منذ عقود بمزايا مثل احتكار المشاركة في التظاهرات الثقافية المحلية والوطنية مثل “قسنطينة عاصمة الثقافة العربية” وتمثيل الرواية الجزائرية في الملتقيات والندوات الدولية وحصولها حصرياً على دعوات مثل دعوات المشاركة في الصالون الدولي للكتاب في الجزائر دون غيرها كما لو خلت الساحة من أقلام جديدة قادرة على المساهمة في خدمة الأدب وتشريف الأوطان.

يتميز المشهد الأدبي أيضاً بصعوبة النشر والتوزيع. دور النشر الصغيرة تبحث عن المكاسب المادية على حساب الجودة، وفي غياب الرقابة، لا تلتزم بوعودها ولا تستطع حتى إيصال الأعمال الروائية إلى القراء الكرام في أماكن بعيدة مثل جنوب الوطن. أما دور النشر الكبرى فلا مجال للحديث عنها لأنها لا تتعامل إلا مع فئة قليلة لسنا لسوء الحظ منها.

الواقع الأدبي في هذا المجتمع يتميز أيضاً بالعزوف عن القراءة. يقابله تسابق الأدباء على النشر وإغراق السوق بالمؤلفات الأدبية بغير مبرر. فالعرض يفوق الطلب بكثير. في تصوري لا شيء يبرر هذا التهافت على نشر رواية أو أكثر من رواية في السنة والتسابق للمشاركة في مسابقات الجوائز العربية بأعمال قد يكرر بها الأديب نفسه وأعماله السابقة وأعمال غيره وهو ربما لا يدري. وهو ما يلخصه لنا أحد النقاد في رسالة موجهة إلى أحد الأقلام الكبيرة: “إصداراتك الأخرى، قرأتها الواحدة تلو الأخرى، وكلما واصلت القراءة لك، ازدادت صدمتي وتعاظمت خيبتي وتضاعف يأسي! كل رواياتك الخمس أو الست الأخرى التي قرأتها بعد الروايتين المذكورتين كانت تقريبا نسخة طبق الأصل من بعضها، كأنها تتناسل بشكل مقزز من بعضها، لا يمكن تشبيهها سوى بالاستنساخ المخيب للآمال، لا إبداع ولا تجديد، ولا اجتهاد ولا احترام للقارئ، وأقصى درجات الاستغفال هي إعادة صياغة روايتك () التي نشرتها عام () ، وتغيير عنوانها ()، ونشرها على أنها رواية جديدة عام 2017 بعد إضافة بعض البهارات عليها.”

كمتتبع للمشهد الأدبي من الجزر البريطانية، سبق أن حذرت قبل سنوات من ظاهرة التسابق لنشر رواية كل سنة لغرض المشاركة في المعارض والمسابقات وخطر الوقوع في فخ تكرار الذات والمؤلفات في غمرة هذا التهافت. وهذا ما نراه يحدث اليوم للأسف. التاريخ يعلمنا أن خلود الأسماء لا ينبع من الكم وإنما من جودة العمل الأدبي وما يحمله من أفكار ومبادئ وقيم إنسانية ومواقف في الحياة.

كما يتميز الواقع الأدبي بفشل النقد في أداء واجبه. فهو لا يتناول أعمال الأقلام الناشئة إلاَّ نادراً. ولا نراه ينقد أعمال الأقلام المعروفة نقدا صحيحاً صادقا يتعرّف الأديب من خلاله على نقائصه وعيوبه. فقد وقع هذا النقد للأسف في فخ المحاباة والمجاملة وهو ما يؤدي حتماً إلى تدني المستوى وركود الحركة الأدبية وعجز الأعمال الأدبية على منافسة المؤلفات العالمية. ويوم حاولتُ نقد بعض الأقلام الكبيرة نقدا موضوعياً لا سيما في حقل اللغة وهي من اختصاصي، ماذا كانت النتيجة؟ التهديد بالأذى عند سفري إلى الوطن!

الصالون الدولي للكتاب في الجزائر

6- أعلنت من خلال صفحتك على فيسبوك عن وجود “حرب الرواية الجزائرية” هل هي حقيقة؟ ولماذا؟

هي حرب اندلعت بشكل علني سنة 2013 بين صفحة أبوليوس الرواية الجزائرية وصفحتي الرواية الجزائرية. وقد حاول القائم على صفحة أبوليوس أن يوهم الأصدقاء أنّ سبب الخلاف “اختلاس اسم الرواية الجزائرية” منه. وهذه مجرد ذريعة. فنحن نعلم أنّ قوانين الفايسبوك تسمح بإنشاء صفحات تحمل نفس الاسم وطبعا لكل صفحة عنوان خاص يميزها من بقية الصفحات. لهذا نشاهد صفحات لا تعد ولا تحصى تشترك في الأسماء مثل “جامعة بغداد” أو “الأدب الإنجليزي”. الأسباب الحقيقية غير ذلك. إنها حرب بين مجموعة ترعى مصالح أقلام قديمة ومجموعة تضم أقلاما جديدة أرادت المشاركة في مشهد أدبي فوجدته مغلقاً في وجهها مع أنه في الواقع واسع سعة السماء. والسماء تسع كل النجوم. ولقد أُثبِت تورطُ تلك المجموعة في إقصاء عدد من الأقلام الناشئة، وخير دليل أنها قامت مؤخرا بتزويد إحدى الصحف الكبيرة في الجزائر بقائمة الروايات الصادرة هذه السنة أقصت منها قصداً روايات منها روايتي الجديدة “ما وراء الأفق الأزرق”! واعترف القائم على تلك الصفحة شخصيا بحظره روايات من يدعوهم “أدباء مجهريين” في إشارة إلى الأدباء المهاجرين! وقد بات الحكم في تلك الصفحة ديكتاتوريا يعاقب أي عضو يذكر اسمي أو يدعو إلى الصلح معي بالحظر دون سابق إنذار!

كان من نتائج هذا الاحتكار والإقصاء والتهميش انقسام الرواية الجزائرية إلى شطرين، شطر محافظ موالي للقديم وشطر منفتح يضم أقلاما ناشئة ما برحت تدعو إلى فتح أبواب المشهد والسماح لها بالمشاركة إلى جانب الزملاء القدامى الذين نحترمهم جميعاً. وكل ما نبذله من جهد مشترك سيساهم حتماً في خدمة الأدب والحضارة والإنسانية والأوطان كافة.

لحسن الحظ ساهمت مواقع التواصل الاجتماعي في كشف مثل هذا الاحتكار وكسر أغلاله. وما زالت الحرب متقدة بعد كل هذه السنوات، من خلال منابر التواصل الاجتماعي والصحف والمجلات..

وفي أثناء هذه الحرب تلقيت تهديدا بالتعرّض للأذى في يومٍ ما أثناء زيارتي الجزائر لأني نقدت أقلاما كبيرة في المشهد الأدبي. فإني أود أن أوضح من خلال هذا الحوار – والأجيال شاهدة على كلامي – أنّ ذنبي الوحيد هو التماسي المشاركة في هذا المشهد ومعاملتي معاملة عادلة كبقية الأدباء ونقدي أفكار بعض الزملاء، لاسيما في حقل اللغة وهو من اختصاصي، نقدا موضوعياً مع كامل الاحترام لهؤلاء. وقد دعوت الزملاء من خلال رسائل ومنشورات إلى الحوار والتعاون خدمة لرسالة الأدب وتشريفا لأوطاننا التي حققت تقدماً عظيما في طريق الانفتاح والحرية والديمقراطية، وهو ما يتعارض مع أسلوب التهديد والعنف. لكن لن يثنيني التهديد عن التعبير عن أفكاري أو الدفاع عن اللغة.

7- روايتك الجديدة “مَا وَرَاءَ الأُفُقِ الأزْرَق”، هل هي امتداد لذاتك في روايتك الأولى أم تعكس ذاتاً مختلفة لك؟

أقول ربما الإثنين معاً.

رواية “مَا وَرَاءَ الأُفُقِ الأزْرَق” امتداد لذاتي لأنها جزء لا يتجزأ من أدب السيرة والبوح النادر في اللغة العربية. كل ما كتبته إلى حد الساعة أدب واقعي بأشخاص من الواقع وليس من نسج الخيال.. أشخاص من لحم ودم يحيون بيننا في الواقع.

لكن لهذه الرواية طابع خاص. فإن كانت رواية” رِيَاحُ القَدَر” السابقة تصوّر تجاربي العاطفية فإن رواية “ما وراء الأفق الأزرق” تعرض أفكاري ومواقفي. لهذا قلتُ: رواية “رِيَاحُ القَدَر” قلبي، أما رواية “مَا وَرَاءَ الأُفُقِ الأزْرَق” فهي عقلي.

8- ماذا عن هذا الجدل في مسألة اللغة العربية في الجزائر؟

ما يثير الانتباه حقا في المشهد الثقافي في الجزائر دون أوطان عربية أخرى هو توجُّه بعض الأقلام إلى التهجم على اللغة العربية وهي لغة الوطن الرسمية ولغة الأغلبية.. والتهجم عليها من فرنسا التي استعمرت الجزائر وحاربت اللغة العربية وسعت لاستبدالها بلغتها الفرنسية ولم تفلح! فبعض أبناء هذا الوطن الذي ضحى بالنفس والنفيس في سبيل الحرية والكرامة صار يتطاول على تاريخ الجزائر ولغة الجزائر من فرنسا التي حربها أجداده وتحت تغطية الإعلام الفرنسي الذي من مصلحته طبعاً الاحتفاظ بنفوذ الثقافة الفرنسية في الجزائر.

اللغة العربية ليست جديدة طارئة في هذه الأرض، إذ أنها تضرب بجذورها في عمق التاريخ (القرن السابع للميلاد). في تصوري الشخصي، من الصعب أن تنجح المسيرة الأدبية في وطن ما زال يعاني من أزمة لغة ولا يدرك بأي لغة ينبغي أن يتحدث ويكتب. في تصوري الشخصي، لغات الجزائر معروفة وهي اللغة العربية لغة ما يقارب 80 بالمائة من السكان، يليها الأمازيغية ثم اللغات القبائلية الأخرى. ولا يهم أي لغة سبقت الأخرى، لأن ذلك لن يغير شيئا في الواقع. فهذه اللغات موجودة كلها في الواقع. ولا يمكن محوها بأي شكل من الأشكال.. الأوروبيون غزوا أمريكا واليوم اللغة الإنجليزية – لغة الأغلبية وطبعاً لغة القوة الغازية – هي اللغة الرسمية مع أنّ لأمريكا سكان أصليون وهم الهنود الحمر الذين سبقوا هؤلاء الأوربيين. ولا نرى الهنود الحمر اليوم يحتجون ويقولون للبيض وللسود: “هذه أرضنا، ارحلوا عنها.. عودوا إلى إنجلترا وبقية أوربا وأفريقيا. الواقع يفرض نفسه علينا جميعاً ويسبق التاريخ.

وإن كان بعض المفكرين يحارب العربية لاقترانها بالدين، فإني أقول إن اللغة سبقت الدين وقد كتب باللغة العربية أدباء المهجر وكانوا مسيحيين. وكتب بها يهود الأندلس وغيرهم. فهي لغة مشتركة ولا نسمح أن يخطفها المتشددون أو أن يستخدمها أي أحد لنشر الكراهية أو أن يعبث بها بأي شكل من الأشكال. وقد سبق أن دعوت إلى فصل اللغة عن الدين وقاية لها من الألسنة الحاقدة الآثمة.

نحن اليوم، نحتاج جميعا إلى هذه اللغة التي تتقنها الجماهير في المجتمعات العربية أكثر من غيرها، لنشر رسالة المحبة والإنسانية في مجتمعاتنا. إذ لا يمكننا مخاطبة الملحدين بلغة الإنجيل، ولا مخاطبة العرب بغير العربية هذه اللغة التي يتقنون. فنحن من غير هذه اللغة سنقف مكتوفي الأيدي، عاجزين عن المساهمة في محاربة التفكير الأحادي والتشدد في المجتمعات العربية، وهو نضال مشترك وتأثير الأدب المهجري في هذا النضال سيكون عظيما بلا ريب إن وجد هذا الأدب عناية وأجواء ملائمة للمشاركة في ذلك وقصف معاقل التشدد بأحدث التكنولوجيا التي كسبناها في هذه البلاد الغربية وبصواريخ عابرة للقارات، والمشاركة في رفع راية الحضارة عاليا في السماء.. تماماً مثلما شارك رواد الأدب المهجري في محاربة التخلف والتعصب في العالم العربي من قبل.

9- كيف يمكن للأديب المهجري أن يحمي هويته من الضياع في خضم المجتمع الغربي الذي يعيش فيه؟

في تصوري الشخصي، الشخص السليم الذي لا يعاني أزمة هوية ويثق في هويته، لن يتخلى عن أصله أو عن لغته أو عن حبه لوطنه مهما طال غيابه عن أرض الوطن. بالعكس، الحياة بعيدا عن الأوطان تجعلنا نقدر قيمة هذه الأوطان ونحنُّ إليها ونحبها أكثر من أي وقت مضى، بل ونقدسها. ولعل تجربة أدباء المهجر في القارتين الأمريكيتين أواخر القرن 19 ومطلع القرن 20 خير مثال لذلك. فقد أتقن هؤلاء لغات المجتمعات الجديدة إلى درجة أنهم كتبوا بها. فمن مؤلفات جبران خليل جبران باللغة الإنجليزية “المجنون” (1918) و “النبي” (1923)…

ورغم تأقلم أدباء المهجر مع البيئة الجديدة وإتقانهم لغاتها والكتابة بها وانفتاحهم على ثقافاتها، فقد بقي هؤلاء أوفياء لأوطانهم ولغتهم ولم نر أحدا من هؤلاء يتهجم على هويته أو لغة وطنه أو تاريخه. وقد خلف لنا هؤلاء أدبا مفعما بالحنين إلى الأوطان. وإن لم يفز هؤلاء بجوائز فإنهم فازوا بقلوب الجماهير وثقتهم، وفازوا ببطاقات العبور إلى الأجيال القادمة، ونقشوا أسماءهم بأحرف من ذهب في سجل التاريخ بدفاعهم عن مبادئ المحبة والإنسانية والانفتاح على الآخر، وهو خير فوز. ولم ينالوا شهرتهم بالتهجم على هويتهم ولغة قومهم أو بالتملق لغيرهم.

لا أرغب في شهرة ولا جائزة ما حييت إن كان السبيل إلى ذلك الإساءة إلى وطني ولغتي ومبادئي. هكذا فكّر رواد أدباء المهجر من قبلي، وهكذا أفكّر، والأجيال القادمة شاهدة على ما قلته.

اترك رد