بقلم: حسين قبيسي(*)
تراجَعَ الفكر الفلسفي أمام التقدم العلمي والتكنولوجي، وما رافق هذا التقدم من سطوة إيديولوجيا العلم، التي انتشرت في كّل مكان، ورسّخت في الأذهان أن العلم بات قادراً على صنع كلّ شيء..
حيال هذا التقدم، توارى الفكر الفلسفي مبهوراً بأنوار المنجزات العلمية والتكنولوجية في عصر الحضارة الحديثة… مع إن الفلسفات الغربية السياسية والتربوية، هي التي كانت في أساس الحضارة الحديثة، ناهيك بأن ثمرات هذه الحضارة، هي نتيجة تأثير الفلسفات الإسلامية، طيلة قرون، في الفكر الأوروبي.. فمتى يستفيق التفكير الفلسفي، بعدما كبا ردحاً من الزمن؟؟
ثمة فارق بين العصر والعصر، فبين عصر التكنولوجيا وعصر الفلسفة، فرق واحد وكبير: فالعصر ليس زمناً يُجمَع على عصور، من عاصر يعاصر وعصري ومعاصر… بل هو مصدر عَصَرَ يعصر عصراً وعصيراً، بمعنى الرحيق والترياق والشراب والإكسير؛ ففي زمن انحسار التفكير الفلسفي وانكماش سؤاله القلق الباحث عن الحقيقة بحذر، ولكن بصمت وصدق، وأمام هجوم اليقينيات وإجاباتها المترعة بالسرعة والجهل، والحلول التي تقدمها لمشكلات لا تزيدها إلا تعقيداً، من اللائق، بل من المفيد، أن نستعيد، ولو ومضة، من مناخ الفكر الفلسفي لإضاءة، ولو خاطفة، في عتمة القرن الحادي والعشرين الذي طالما حذر أندريه مالرو، وزير الثقافة الفرنسي، في عهد الجنرال ديغول، من أن تستحوذ عليه عقلية اليقينية، سواء العلمية منها أم الظلامية، فلا يبقى محلٌّ للتبصّر والتعقّل والتروّي، والشك الذي هو أساس كل معرفة.
بحسب الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر “الفلسفة هي التي تفكّر، لا العلم”. فالفلسفة ليست ميتافيزيقا تبحث في ما وراء الوجود، ولا هي تنسيق أفكار على نحوٍ سفسطائي، بل هي ارتشاف الوجود جملة وتفصيلاً وعقله وتمثله وصوغه على أفضل ما يمكن أن يكون عليه، في حقبة زمنية معيّنة محدودة بجملة التطورات الحاصلة فيها، وعلى الصعد الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وفي الميادين المعرفية كافة.. ومجالها ليس العلوم جميعاً فحسب، بل نتاج المعرفة السائدة في عصر من العصور لتكون تاج هذا النتاج، بل إن موضوعها هو المعطيات المادية المحسوسة في الوجود الطبيعي والاجتماعي، بل في ماضي الإنسانية وواقعها ومستقبلها، استناداً إلى المعطيات الواقعية. وهذا ما اختصره نيتشه بجملة واحدة، بقوله إن “جهد الفيلسوف ينحو نحو فهم ما يعيشه معاصروه”. فالفلسفلة ترسم إطار التطور وتعيّن حدوده، وقيمته، وتصوّب مساره، وهدفها وقاية الإنسانية من الشطط؛ وهذا ما رمى إليه أيضاً فرنسوا رابليه ما إن أحسّ، ومنذ القرن السادس عشر، بأن العلم جامح في اتجاه غير محمود العواقب، حينما قال “علم من دون وازع (فلسفي) ليس سوى خراب” (Science sans conscience n’est que ruine).
المعرفة الفلسفيّة
في سائر الحضارات التي سبقت الحضارة الغربية، كان الفيلسوف ضليعاً بسائر أنواع المعارف والعلوم، لكن المعرفة التي كانت تحتلّ المرتبة الأسمى بين المعارف جميعاً، هي المعرفة الفلسفية، الحكمة، بعبارة أخرى؛ فكان يُطلَق على العالم العارف بالطب، بين جملة ما يعرف، اسم الحكيم، حتى اختلط الطبّ والعلم عموماً بالفلسفة، وامتزج اسم الفيلسوف بالطبيب. فكان ابن سينا، الذي ما زالت نظرياته الطبية تدرَّس في الجامعات الغربية إلى يومنا هذا، قمة بين الفلاسفة المسلمين، وكذلك نظريات ابن رشد والرازي وغيرهم .. وليس عبثاً أن يكون الفيلسوف في العصر الحديث مؤرخاً ومربّياً مثل مارسيل غوشيه، أو سوسيولوجياً مثل بيار بورديو.. وما كان أكثر الحكماء بين العلماء. أما اليوم فما أكثر علماء الطب، وما أندر الحكماء بينهم، فقد كان من أخطر ما شهده تاريخ المعرفة الإنسانية ما حدث في القرن العشرين من فصل، باسم الابيستيمولوجيا، بين العلم والفلسفة، واعتبار العلم المعرفة الوحيدة، والفلسفة معرفة ناقصة، أو علماً ناقصاً. ثم آل هذا الفصل إلى فصل العلم عن العلم، ثم إلى فصل الفرع عن الفرع داخل العلم الواحد، وبرز التخصّص والاختصاص بوصفهما تعميقاً للمعرفة في فرع معرفي واحد نشأت عنه سطحية تكاد تصل حدّ الجهل بالمعارف الأخرى. وهذا ما وقف ضدّه، العالِم الفيلسوف بليز باسكال Blaise Pascal، في القرن السابع عشر، وحجته في ذلك أنه “لا يمكن لنا أن نكون كونيين، وأن نعرف كلّ ما يمكن أن يُعرف في كلّ شيء، فعلينا أن نعرف قليلاً في كلّ شيء. فأن نعرف قليلاً عن كلّ شيء أجمل من أن نعرف كثيراً عن شيء فقط. هذه هي الكونية الأجمل”. أَوَ لم يقُل غوته Johann Wolfgang Goethe، في العام 1919: “إلامَ تصير المعرفة إن لم ترافقها الحكمة؟ إلى أيّ شطط يمكن أن تُفضي قوة الفكر، إذا كان الإنسان عديم الشفقة؟ يقتلنا كلّ ما يحرر فكرنا من دون أن يزوّدنا بالسيطرة على أنفسنا والتحكّم بها”.
فالفيلسوف يعرف كيف يبني نمط تفكير إيجابي يبني الاختلاف، حتى مع الخلاف، ويعرف كيف ينتقد عند الضرورة، من دون تمييز أو إقصاء أو عزل يُفقِر الأفراد ويَضعِف المجتمع، ويعرف كيف يمتلك نظرة أصيلة تتعالى على أحداث الحياة الجارية، من دون الانفصال عنها، فهو قادر على إضاءة متاعب الحياة اليومية وهمومها إضاءةً حكيمة، وقادر كذلك على إدارة أزماته وإعطاء معنى لأفكاره، عن بعد على الدوام، وقادر بخاصة على ضبط نفسه ومراقبتها. وذلك لأن الحصول على راحة البال، وضمان سلام العقل، هما أساس فن عيش الفيلسوف. وليس أفضل من تعلّم التأمل والتفكر ومعرفة الذات وتقديرها لكي نعرف كيف نعيش حياة أفضل. فقبل حوالى ألفَي سنة، قال سينيك Sénèque: “على الفلسفة أن تعلّمنا كيف نعيش، لا كيف ندبّج خطاباً”. التأمل يفضي إلى فهم الحياة، وهو فهم واسع وشامل يتعدّى حقل التحليل والتفكير، على نحو ما هو سائد غالباً ومعروف في الغرب. فإذا كان التأمل في مفهوم الإنسان الغربي يعني استخدام الذهن من أجل فهم وضع ما، فإنه – في نظر الإنسان الشرقي – يقتضي قبل كلّ شيء راحة البال وصفاء الفكر، والانفتاح على العالم الداخلي واستيعاب الكلّ الكوني في داخله، والإفساح في المجال أمام ظهور الحقائق ومبادئ الحياة الكبرى.
فالفلسفة، بحسب المنظّر الاستراتيجي كلاوزفيتس (1780 – 1831) Karl von Clausewitz: “تفتح أمامنا الآفاق، تقودنا بعيداً عن المادة من دون أن تقطع صلتنا بالواقع القائم. فقدرتنا على الاحتفاظ بصلة متينة بالرحم الذي وُلِدنا منه، بالأرض التي نتغذى منها، هي ضمان قدرتنا على استيعاب المبادئ الكبرى للحياة”. ويردف كلاوزفيتس: أن ” لا الاستكشاف ولا الملاحظة، ولا الفلسفة النظرية، ولا التجريب العملي، ينبغي لبعضها أن ينتقص من قدر بعض، أو أن يحطّ بعضها من شأن البعض الآخر، فهي جميعاً متكاملة، بعضها ضامن لبعض”.
المعرفة الروحية والعقلية
يعلمنا الفيلسوف ممارسة المعرفة الروحية والعقلية، وتنسيق المعارف في نظام متناغم ومتماسك، ويأخذ بنا نحو فهم تلك المبادئ. وقد أشار جان جاك روسو إلى ذلك على طريقته الخاصة، إلى أحد تلك المبادئ، بقوله: “احترسوا من الفلاسفة الكونيين الذين يذهبون للبحث بعيداً في الكتب عن واجبات يأنفون من القيام بها في محيطهم وفي جوارهم القريب. فهذا مثلاً فيلسوف يحبّ التتار ليعفي نفسه من محبة جيرانه”. في حين أشار فيلسوف آخر إلى مبدأ آخر، بقوله: “إذا لم يكن العالِم زاهداً فهو عقوبة لأهل زمانه”. فإذا كان “الضحك هو الأفضل بين كلّ الفلسفات”، كما تنصح بذلك الفلسفة الصينية على لسان فيلسوفها الذي نصح ولده قائلاً: “إعمل يا راجانا وكأنك تلعب” ـ وهذا ما كان يراه فيلسوف الارستقراطية الإغريقية هيرقليطوس الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد أيضاً حين قال: “الناس وآراؤهم مثل الأولاد والألعاب” ـ فإن باسكال كان يرى أن “السخرية من الفلسفة هي فلسفة حقاً”! أما سوفوكل فكان يرى أن “جمال الحياة في عدم التفكير” أصلاً، يوافقه في ذلك لو تاو كي كنغ: “كلما كثرت معرفتك قلّ فهمك”، وإن كان غيرهما من فلاسفة الإغريق يرى أن “السعادة هي التفكير”.
قد تشحذ هذه التأملات الفلسفية التي تعلّمناها من قولة أحد الفلاسفة: “دع فكرك يتوقف عند حقيقة تسترعي اهميتُها انتباهَك وتجتذبك (…) امسك بها جيداً حتى تتمثلها تماماً، ادخلها في قلبك بدلاً من فكرك، اشرب منها إذا جاز التعبير، رحيقها كلّه بقوة انتباهك الذي يعصرها”، قد تشحذ القدرة لدى القارئ على دخول معترَك الفلسفة وخوض غمارها، فقد كان الفيلسوف والمربّي كونفوشيوس، في القرن الخامس قبل الميلاد، يردّد: “تعليم غير القادر على التعلّم إضاعة وقت، وعدم تعليم القادر على التعلّم إضاعة إنسان”.
************
(*) مؤسسة الفكر العربي، نشرة “افق”
كلام الصور
1- هايدغير
2- غوشيه
3- باسكال