في رحاب غادة السمان…

أنا و غادة و كوابيسها البيروتية

 

 

لم أجد أمامي في هذا الزمن الرديء المليء بالأحزان و الملل , المشبع بالتناقضات غير دفاتر سوداء تدرف دموعا ساخنة.. لم أجد أمامي غير ذلك الوجه اليائس المتشرد , ذلك الوجه الذي ألف التمرد و الغربة بعيدا عن الوطن و الأهل و الأصدقاء ليعيش لحظات الذات للذات…
إنه وجه الأديبة غادة السمان التي رَحَلْتُ رفقتها لنغوص سويا داخل أعماق الوطن العربي لنكشف جرحه و معاناته و صراعاته..هكذا تمثلت غادة السمان أمامي و فتحنا سويا كوابيسها البيروتية, و بدأت الرحلة و كان الحوار .

س/ إنك ابنة الحرب, هذا قدرك,وقد شاركت أيضا في صنع هذه الحرب.. لكنك كنت دائما تنفرين من اللون الأحمر..أكنت حقا تريدين ثورة بدون دم ؟

ج/ أجل مثل كل الفنانين أنا متناقضة ..أريد الثورة و لا أريد الدم.. أريد الطوفان و لا أريد الغرقى.. لكن كل الثورات تولد هكذا مغمدة بالدم..حتى ولادة طفل لا تتم إلا مغمدة بالدم.

س/ ألا تجدين أن أغلبية الأبرياء و العزل يموت؟

ج/ لا أحد بريء في مجتمع مجرم.

س/ و الواقفون عن الحياد؟

ج/لا حياد في مجتمع بلا عدالة .. لا حياد في مدينة العري و الفيزون..مدينة الجوع و التخمة…المحايدون هم المجرمون الأوائل.. الأكثرية الصامتة هي الأكثرية المجرمة,انها ترى الظلم و تعانيه,لكنها تؤيد السلام الرخيص على الكفاح النبيل.

كل عملية حيادة هي مشاركة في عملية قتل يقوم بها ظالم ضد مظلوم ما… الأكثرية الصامتة هي الأكثرية المجرمة…المسالمة هي تحريض على القتل و تلك جريمة..المسالمة هي شعور في الانتحار و تلك أيضا جريمة.

س/ ألا تجدين أنك كنت فعلا محايدة مسالمة؟

ج/ لم أكن على الحياد انني منحازة لطرف ضد الآخر, إنني منحازة للشمس و العدالة و الحرية و الفرح و المساواة…

وقد قضيت عمري أخدم هذه القضايا بالسلاح الوحيد الذي أتقن استعماله…

س/ تقصدين القلم..ما دوره و جدواه و الحرب مشتعلة؟

ج/ ما جدوى أن يقتل الأدباء في الحرب مادامت طبيعة أكثرهم لا تؤهلهم ليكونوا مقاتلين جيدين..
بايرون كان شاعرا عظيما و مقاتلا فاشلا.

هيمنغواي كان مقاتلا سيئا أيضا .. لا أريد أن أسقط فريسة شعور بالذنب لأنني لا أقاتل..

أعرف عشرات من المثقفين الفرنسيين الذي داههم هذا الشعور أيام الحرب الأهلية في اسبانيا و تطوعوا للقتال و كانت النتيجة أنهم كانوا عبئا على الثوار و إحداهن كانت شاعرة كبيرة لم تكن تصلح في ميدان الحرب حتى لطبخ الطعام للجنود..

إن جر الفنان الى القتال هو كجر ماري كيري من مخبرها إلى المطبخ بحجة أن البلاد تعاني نقصا من الطباخين !!!

س/ نفهم من هذا أنا الفنان تنحصر مهمته في أن يصب البنزين و يشعل النار ثم ينسحب؟

ج/ هذا صحيح على نحو ما .. مهمته أن يخلق الثورة لا أن يمارسها,لقد أعلن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر أن كتاب (عودة الروح) لتوفيق الحكيم كان من العوامل الهامة التي ساهمت في تفجير ثورته و الضباط الاحرار و اشعال شرارتها..

الفنان شرارة الثورة و نبوءتها و وقودها!

نوع فريد من الثوار..انه يصنع الثورات و يجد نفسه بطريقة ما وقودا لها لا محالة… إنه يشعلها و هو يعرف أنه اول من سيحترق بنارها..

س/ كأن روايتك (بيروت 75) هي الرواية العربية الأولى التي تنبأت بانفجار بيروت..ترى ما مصدر ذلك؟

ج/ عندما وجدت أن كل ما في هذه المدينة ضدنا, لا لأننا ننتمي إلى دينين مختلفين,و لكن لمجرد أننا نحب..,لو ضممتك إلى صدري و قبلتك لصار كل الذين يرقبوننا من خلف الصخور شبه أعداء لنا …و إذا اعتدى أحدهم علينا فسيغض الباقون الطرف.. لأن مظاهر الكره لا تثير البشر في هذه المدينة بقدر مظاهر الحب..

الكره مشهد عادي بالنسبة اليهم… الحب مشهد خطر.. تهديد لهم.

لو تشاجرنا الآن لكفوا عن مراقبتنا لأنهم سيطمئنون الى أننا مثلهم!!!

الحب يثير الانتباه و الفضول و الرغبة بالاستغلال و الرفض الجماعي, أما الكره فانهم يمرون به كظاهرة عادية..,حتى صارت لغة الحب هي نفسها لغة القتل و العنف و الارهاب..

س/ نفهم من هذا أن ثمة علاقة وطيدة بين الحب و الثورة ؟!

ج/ أكيد كيف لا ؟ حتى الفقراء ضد أنفسهم لأنهم ضد الحب كالأغنياء ,لقد ربوهم على ذلك لقتل غريزة الحق في نفوسهم…

إنهم منذ الصغر يلقحونهم ضد الحب تحت ستار القيم المتوارثة و الدين و الأخلاق و الفضيلة و حين تتعطل حاسة الحب تتعطل معها حاسة الثورة….

أولائك الساسة المحنكون يلوثون قمح الجماهير بالمفاهيم الخاطئة و يخدرون حاسة الحب فيهم…

س/ فلسفة الحب و العشق, لا يفهمها الساسة .. لكن هذا لا يمنع أن نجدها تمارس بين أفراد المجتمع؟

ج/ دعني أحكي لك هذه الحكاية ..فاحدى الأيام كانت لنا صعوبة الاتصالات الهاتفية في بيروت , كلما أمطرت السماء في وجه شوقنا قررنا شراء جهاز – تاكي والكي-,و أوصينا أحد أصدقائنا بحمل جهاز معه من سفرته الأخيرة و حين صودر منه في الجمارك بصفته جهاز يحرم استعماله للمدنيين قال إنه بريء و أن استعمال الجهاز محرم على المدنيين و لكن ليس على العاشقين… لم تعجب الضابط هذه النكتة , و لم يبدو عليه أنه يصدق حكاية حبنا, بل أنه كان ميالا الى اتهامنا بالعمل في منظمة هدامة شيوعية طبعا لمجرد أننا فقراء, و بدا خائفا منا و غاضبا في الوقت ذاته…

لماذا لا يوضع شرط أساسي للحكام, هو أن يكونوا عشاقا…العاشق انسان غير مؤد, و هو القادر على فهم معنى المحبة و الحنان و المساواة و الفرح و الشمس و الطفولة.. و كل العبارات التي يتشدق بها حكامنا العاجزون فكريا و جنسيا …

س/ و ماذا عن – عميدة الصامدين – السيدة فيروز؟

ج/ لم أذهب يوما لزيارة فيروز و أنا أضمر الكتاب .. و لكن القلم يصر على أن يخط باستمرار كلمة محبة في هذه الفنانة العربية التي يقودها قدر العطاء الى التجديد باستمرار.. فنانة تحاصرها الأحزان كأي مواطن لبناني, لكنها تمارس التفاؤل كواجب وطني و بطل يخرج من رمادها لتغني و لتصنع من ذلك الواقع الدامي المربك لتحركات أي فنان, عطاء يشرق.. أنها بهذا المعنى لا تجسد لبنان الماضي فحسب , بل لبنان الآتي الذي نحلم به, وطن لا يستسلم للخراب بل يحلق من فوقه كطائر البرق …(هل تستطيع أن تفكر بفيروز دون ان يحضر لبنان العز في خاطرك؟ لبنان الجميل الذي رفضناه مرة لأننا أردناه أجمل ).

هكذا لملمت أوراقي مع غادة … و هكذا تبقى غادة السمان تواصل سفرها الجنوني في عالم الكتابة, سفرها مع ذاتها المفترسة الغجرية .. انها الفنانة الي استطاعت أن تحمل الزمن بأعاصرها و أشواكها …لتجعل من العذاب و المعاناة حبا و سعادة لتقول أننا جيل أكثر عمقا مما يريدوننا أن نكون ..

(جوان 1984)

اترك رد