عيد الصليب الذي يلهب قمم لبنان وكنائسه بنار تعيد تقليداً قديماً انطلقت شرارته الأولى عشية اكتشاف صليب المسيح في أورشليم، ازداد في 2012 توهجاً وتألقاً، فقد شاءت العناية الإلهية أن يوقع البابا بنديكتوس السادس عشر الإرشاد الرسولي “الكنيسة في الشرق الأوسط” الذي يجمع أعمال الجمعية الخاصة لأجل الشرق الأوسط لسينودس الأساقفة (عُقدت في الفاتيكان في تشرين الأول 2010)، في يوم عيد الصليب، وذلك في بازيليك القديس بولس في حاريصا التابعة لطائفة الروم الملكيين الكاثوليك…
هكذا يتحول الرابع عشر من أيلول إلى فعل تجذّر بهذه الأرض الطيبة، ومحطة رجاء وأمل وبداية جديدة تنطلق من عظمة الصليب وانتصاره على الموت وتحوله من صليب عار إلى صليب قيامة، لا يغيب عن حياتنا، فأين وجهنا نظرنا نرى صلباناً ضخمة على قمم جبالنا تذكرنا بفعل الحب الإلهي الذي خصنا الله به.
على ضوء الصليب
ذكّر البابا بنديكتوس في خطابه في حفل توقيع الإرشاد الرسولي أن عيد الصليب “ولدَ في الشّرق عام ٣٣٥، غداةَ تكريس بازيليك كنيسة القيامة التي شُيّدت فوق الجلّجثة وقبر ربِّنا، من قبل الإمبرطور قسطنطين الكبير، والذي تكرِّمونه كقديس. سيُحتفل بعد شهر بالذكرى السّنويِّة الـ ١٧٠٠ للرؤيِّة التي شاهد فيها، أثناء ليلة رمزيِّة، علامة (chrismon) متوهّجة، وهنا سمع صوتا يقول له: “بهذه العلامة ستنتصر!” لاحقا، تاب الإمبرطور قسطنطين، ووقّع مرسوم ميلانو، وأطلق اسمه على القسطنطينيِّة”.
أضاف البابا: ” أعتقد أنّ هذا الإرشاد يمكن قراءته وتفسيره على ضوء عيد الصليب المجيد، وخاصة على ضوء علامة (chrismon)، قراءة كهذه تقود إلى إعادة اكتشاف حقيقيّ لهوّية المعمّد والكنيسة، وتشكّل، في الوقت ذاته، دعوة للشهادة في ومن خلال الشركة. ألم تتأسس الشهادة والشركة المسيحيّتان على السرّ الفصحيّ، أي على صلب وموت وقيامة المسيح؟ ألم يجدا فيه تحقيقهما التام؟ هناك وثاق لا ينفصل بين الصليب والقيامة، والذي لا يمكن للمسيحيّ أن ينساه. بدون هذا الوثاق، يعني تعظيم الصليب تبرير الألم والموت، حيث لا يرى فيهما سوى نهاية مهلكة. بالنسبة إلى المسيحيّ، تعظيم الصليب يعني الإتحاد بشموليّة محبّة الله غير المشروطة للبشر. إنه القيام بفعل إيمان! تعظيم الصليب، من منظور القيامة، يعني اشتهاء العيش والشهادة لشموليّة هذه المحبة. إنّه القيام بفعل محبّة! تمجيد الصليب يقود للالتزام بمبادرات الشركة الأخويّة والكنسيّة، نبع للشهادة المسيحيّة الحقّة. إنه القيام بفعل الرجاء”.
عادات وطقوس
منذ القرن الرابع اتخذ المسيحيون الصليب رمزاً لهم، فوضعوه في البيوت والكنائس وحفروه على أدوات عملهم ، إلا أنهم عارضوا رسم المسيح على الصليب واعتبروا ذلك إهانة لألام يسوع وموته. في القرن الخامس ظهر أول رسم للمصلوب على الصليب لكن من دون علامات الألم والعذاب، بل ظهر المسيح بكل عنفوانه منتصراً وهو على الصليب.
في القرن التاسع ظهر أول رسم للمسيح المتألم على الصليب، وفي القرن الثالث عشر ظهرت رسوم للمسيح المصلوب على رأسه إكليل الشوك، وذلك بتأثير من الروحانية الفرنسيسكانية التي تميل إلى تأمل آلام المسيح المخلص. أما في القرن التاسع عشر فظهرت على المسيح المصلوب كامل العذابات وحتى انحناء جسده من شددة ألمه.
يحتفل بهذا العيد في الرابع عشر من أيلول، وهو ذكرى استرجاع عود الصليب بواسطة القديسة هيلانة، التي أرادت إعلام ابنها الملك قسطنطين بالأمر بواسطة إشعال النار على رؤوس الجبال ، من قمة إلى قمة من القدس حتى القسطنطينية، بما فيها قمم جبال لبنان، هكذا نشأت في ما بعد فكرة تركيز صلبان ضخمة على جبال لبنان، وأول من قام بهذه المهمة الطوباوي الأب يعقوب الكبوشي.
رسول الصليب
منذ كان مبتدئاً في دير مار أنطونيوس خشباو حلم الطوباوي الأب يعقوب كبوشي برفع صليب جبار على إحدى قمم لبنان، وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، ابتاع قطعة ارض على إحدى روابي جل الديب تسمى “تلة الجن” واسماها تلة الصليب، وبدأ بناء كنيسة سيدة البحر، استغرق العمل خمس سنوات بحسب توفر المال اللازم، وقد احتفل في 3 أيار 1923 بعيد سيدة البحر في مقرّها الجديد، وفي 3 ايار 1925 كان الاحتفاء برفع الصليب على صخرة وراء سيدة البحر. كذلك لم يتردد أبونا يعقوب في رفع صليب على “تلة صور” في دير القمر، وقد أطلق عليها هذا الإسم لأنها تطلّ على مدينة صور، وهناك تقام المهرجانات والزياحات في عيد الصليب من كل سنة.
هكذا أطلق أبونا يعقوب حملة وضع الصلبان على قمم لبنان، وعلى مرّ الأعوام تكللت جبالنا بعظمة الصليب ومهابته وقداسته. فعلى قمة نبع العسل في فاريا ارتفع صليب المحبة والسعادة والسلام. راود هذا الحلم أهالي فاريا والمنطقة منذ 1951، وتحقق في 2011 على ارتفاع 1851 مترا عن سطح البحر في جبل الصليب – فاريا.
قبل عيد ارتفاع الصليب في 14 أيلول الماضي أعاد فريق “Ehden Spirit” مدعوماً من اتحاد بلديات قضاء زغرتا طلاء الصليب العملاق القائم فوق جبل مار سركيس على علو أكثر من ألفي متر على الطريق المؤدي إلى القرنة السوداء والمشرف على أهدن والجوار، وهو بارتفاع 16 متراً، وقد اضيفت إليه مواد عازلة للنش والرطوبة، لمنع تأثره بالعوامل الطبيعية خلال الشتاء، خصوصاً أن المنطقة مرتفعة جدا. كذلك شملت الأعمال تأهيل قاعدة الباطون والأرض المجاورة له، وقد أقيم قداس احتفالي في 14 ايلول، على قمة جبل مار سركيس وعند الصليب احتفالا بالعيد.
كذلك تستعد محلة مار جرجس المطلة على وادي قاديشا وقنوبين لاستقبال نصب يعلوه صليب كبير يطل على المنطقة والوادي. وعلى رأس قمة قرب القلعة في بلدة قب الياس ركز شباب صليباً ضخماً، يطل على بيوت البلدة المتسلقة نحو الأعالي ويشرف على السفوح الصخرية، حيث يمكن مشاهدته من مسافات بعيدة.
أضيء في 13 أيلول 2010 صليب ضخم فوق جبل في قناة باكيش في منطقة بسكنتا، وهو اطول صليب مضاء في العالم، حسبما يؤكد المشرف على المشروع الأب فريد ضومط الذي أوضح أن طول الصليب يبلغ 80،73 مترا، كاشفاً ان هذا الرقم هو عشر ارتفاع جبل الجلجلة الذي صلب عليه المسيح والبالغ 738 مترا.
استغرق العمل في بناء الصليب أكثر من ثلاث سنوات، وقد حفرت له قاعدة في الأرض تحتوي على 600 متر مكعب من الإسمنت وخمسة اطنان من الحديد. أما الصليب فصنع من الفولاذ المستورد من فرنسا وبلغت الكمية المستخدمة فيه 170 طناً.
جبل الشيخ، الذي كان في يوم من الايام، غنياً بالغابات الكثيفة يصعب على زائره أن يجد ولو عود حطب واحد، فالأرض فيه غنية اليوم بما خلفته الحروب بين جيش الاحتلال الاسرائيلي والجيش السوري لا سيما في حربي 1967 و1973، من معدات حربية. ويقول أحد جنود قوات “الأندوف”الدولية العاملة كقوات فصل على جبهة الجولان السوري المحتل، إن القوات الاسرائيلية كانت تتمركز في المنطقة وتقيم لها تجمعات عسكرية وإن الجيش السوري سيطر عليها بعدما استهدفها بمئات الغارات الجوية والقصف الصاروخي وعمليات الانزال… فخلف كل صخرة وحجر بقايا صاروخ او قذيفة مدفعية وملايين الشظايا التي صنع منها أحد جنود “الاندوف” صليباً تركه معلقاً كذكرى فوق اعلى قمة في جبل الشيخ .
تلة القديسة رفقا-حملايا
على تلة في حملايا كانت تمضي فيها القديسة رفقا ساعات من الصلاة وتأمل جمال ما خلقه الله في ذلك المكان المطل على وادي الصليب وجبل صنين ركز صليب ضخم يرمز إلى آلام
رفقا في مراحل حياتها، وهو من أكبر الصلبان الخشبية وأمام الصليب مكتوب الصلاة الربيّة: “كما نغفر لمن أخطأ وأساء إلينا”.
في عنايا في قمة طريق القديسين التي تصل الدير بالمجبسة ارتفع صليب أبيض مغروس في الصخر يحضن الجبل ويقاوم العواصف وهو موجه صوب المحبسة على التلة المقابلة لتستمد قوتها منه.
وفي بلدة بشعلة صليب حديدي الصنع قدمته جمعية Les ouvrières de la croix وركزته الجمعية الخيرية البشعلانية على تلة “بعوران” على قاعدة ثلاثية الأضلاع وزوّدته بالإنارة. في دلبتا يحج الناس إلى تلة الصليب كل عام للصلاة والتبرك.
تعتبر قبة كنيسة مار الياس في حدتون من أجمل قبب الكنائس المارونية في لبنان، يبلغ ارتفاعها عشرة أمتار من القاعدة حتى أعلى صليبها. ويدل شكلها الهندسي والإتقان في صقل حجارتها على قيمتها الأثرية، وهي مبنية من الحجر الطبيعي المصقول، ومثبتة بالكلس المقوى بمواد كيماوية حفظتها طوال المئة عام المنصرمة التي مرت على بنائها، وفي أعلاها صليب حجري ضخم يبلغ ارتفاعه حوالى المترين.
حكاية الصليب
بعد إنزال المسيح عن الصليب رمى الرومان الصليب في حفرة كبيرة قريبة من جبل الجلجلة، وأقاموا مكانه معبداً للإله الروماني فينوس لمنع المسيحيين الأوائل من زيارة المكان وتكريم الصليب المقدس.
استمرّ الوضع هكذا إلى سنة 326 عندما قصدت القديسة هيلانة والدة الأمبراطور قسطنطين أورشليم، للبحث عن خشبة الصليب المقدس. عندما سألت عن الأمر أخبروها أن الصليب مدفون بالقرب من معبد فينوس فامرت بحفر المكان وعثرت على ثلاثة صلبان، ولما لم تعرف أيها صليب المسيح الحقيقي، اقترح البطريرك مكاريوس أن يوضع واحد تلو الآخر على جثة أحد الموتى الذين كانت تمر جنازتهم في المكان في ذلك الوقت. فعندما وضع الصليبان الأول والثاني لم يحدث شيء، وعندما وضع الصليب الثالث عادت الحياة إلى الميت بأعجوبة، بعد ذلك وضعوا الصليب على امرأة مريضة فشفيت في الحال، عندئذ رفع البطريرك مكاريوس خشبة الصليب ليراها الحاضرون، ورفعت القديسة هيلانة الصليب المقدس على جبل الجلجلة وبنت فوقه الكنيسة المعروفة إلى اليوم بكنيسة القيامة، في أسفلها كنيسة صغيرة مخصصة للقدديسة هيلانة يعلو هيكلها تمثال برونزي لها وهي تعانق الصليب المقدس.
في سنة 614 م اجتاح كسرى ملك الفرس أورشليم وأسر الوف المسيحيين في مقدّمهم البطريرك زكريا ونقلهم إلى بلاده، وأخذ ذحيرة عود الصليب غنيمة، وبقيت في حوزته أربع عشرة سنة.
عام 628، انتصر الإمبراطور هرقل على الفرس، وكانت أهم شروطه إطلاق المسيحيين وإرجاع ذخيرة خشبة الصليب المقدس، وكان كسرى الملك مات وخلفه ابنه سيراوس فقبل بالشروط وأطلق الأسرى سالمين مع البطريرك زكريا بعدما قضوا في الأسر 14 سنة، وسلّم ذخيرة عود الصليب إلى الإمبراطور هرقل، فأتى بها هرقل إلى القسطنطينية التي خرجت إلى استقباله بالمصابيح وترتاتيل النصر والابتهاج.
بعد مرور سنة جاء بها الإمبراطور إلى أورشليم ليركّز عود الصليب في موضعه على جبل الجلجلة، فلاقاه الشعب على رأسه البطريرك زكريا، واستقبله بأبهى مظاهر الفرح والبهجة بالمشاعل والترانيم وساروا حتى طريق الجلجلة، وهناك توقف الملك بغتة بقوة خفية وعز عن أن يخطو خطوة واحدة، فتقدم البطريرك وقال للملك: “السيد المسيح مشى هذه الطريق حاملا صليبه مكللا بالشوك، لابساً ثوب السخرية والهوان أنت لابس أثوابك الإرجوانية وعلى رأسك التاج المرصّع بالجواهر، فعليك أن تشبه المسيح بتواضعه وفقره، فأصغى الملك إلى كلام البطريرك وارتدى ثوباً حقيراً ومشى مكشوف الرأس حافي القدمين، فوصل إلى الجلجلة وركز الصليب في الموضع الذي كان فيه قبلا . في طريقة إلى أورشليم اشعل النار على قمم لبنان كعلامة على قدوم الصليب.