في خطوة عمرانية بارزة بأبعادها الروحية والتراثية المتصلة بمستقبل الوادي المقدس، أطلق البطريرك الماروني الكردينال مار بشارة بطرس الراعي ورشة ترميم وتأهيل دير مار أبون ( مار يوحنا المعمدان) في عمق وادي قنوبين من خطة تجديد الحياة الروحية في اديار وكنائس الوادي المهدمة والمهجورة، التي أطلقها منذ سنوات.
وبعد مرور 195 سنة على آخر زيارة لبطريرك ماروني (يوحنا الحلو) الى دير مار أبون المهجور منذ القرن السابع عشر زاره البطريرك الراعي ووصله مشياً عبر طريق المشاة التاريخية المنحدرة من داخل قرية وادي قنوبين الى محلة موربو (بالسريانية معناها تسبح نفسي الرب موربو نفشي لموريو) حيث الدير المذكور. وقد رافقه السفير الفرنسي في لبنان برونو فوشيه، والمطرانان بولس الصياح وجوزيف نفاع، مدير عام القصر الجمهوري د. أنطوان شقير، والمهندس مروان الحايك ، المونسنيور فيكتور كيروز، والآباء خليل عرب، طوني الآغا، وبولس مطر، المهندس طوني البطي واضع دراسة الترميم، الاب يوسف طنوس، نائب رئيس رابطة قنوبين للرسالة والتراث، التي حرّكت الملف ترجمة لخطة البطريرك الراعي، ومختار وادي قنوبين طوني خطار وحشد من أبناء الرعية والجوار.
خادم الرعية
وفور وصول البطريرك الراعي ألقى خادم الرعية الخوري حبيب صعب كلمة قال فيها: نستقبلكم بايمان راسخ صلب كحجارة دير مار ابون التي تنتظر عودة البشر اليها. ومجيئكم اليوم الى هنا يا صاحب الغبطة بمشقة المشي والتعب هو تأكيد على صلابة موقفكم وارادتكم في عودة الحياة الى هذا الوادي المهدد بالفراغ الكلي من بشره المؤمنين الذين صنعوا تراثه الفريد. فجاز القول فيكم انكم بطريرك الحياة في قنوبين. لقد اطلقتم منذ زيارتكم الاولى الى الوادي سنة 2011 شعار تجديد الحياة الروحية من خلال ترميم اديار البطريركية في وادي قنوبين وتأهيلها لاقامة جماعات مكرّسة للصلاة. وراحت رابطة قنوبين البطريركية للرسالة والتراث تعمل على ترجمة هذا الشعار، فأعدت الدراسات الهندسية من قبل مكتب المهندس المختص طوني البطي، وحصلت على موافقة مشكورة من المديرية العامة للآثار للمباشرة بأشغال المرحلة الاولى من الترميم، ووفرت الدعم بعناية المهندس مروان الحايك، وكان تنسيق مع لجنة الحفاظ على الوادي برئاسة سيادة المطران مارون العمار سابقاً وهي باتت اليوم برئاسة سيادة المطران جوزيف نفاع. وببركتكم اليوم تنطلق ورشة الترميم والتأهيل لاقامة جماعة رهبانية مكرّسة في الدير، تعيد الحياة الروحية اليه، وتنعش محيطه الزراعي مع أهالي وادي قنوبين، الذين سيعملون بايديهم في ورشة اعادة الاعمار. ويتزامن حدث اليوم المفرح لدى كل المؤمنين داخل لبنان وخارجه مع تطور انمائي تنظيمي منتظر منذ زمن طويل، يتمثل باقرار مجلس الوزراء مشروع تأهيل طريق الوادي الترابية القائمة. هذا المشروع الذي ناديتم به وأصررتم على تنفيذه وتمسكتم به بثبات شرطاً للتعاون مع جميع المعنيين بملف الوادي. وبموقفكم الثابت هذا تشكل اجماع كل الاطراف المعنية على تأهيل هذه الطريق. شكراً لكم يا صاحب الغبطة، ولقاء اليوم هو تحية لكم وعهد على الوفاء لتطلعاتكم الابوية الكبيرة، ومحطة صلاة نرفعها ليحفظكم الله أباً محباً عطوفاً تقودون قطيعكم الى مراعيه الخصبة، ومنه أبناء رعية وادي قنوبين المتطلعين بأمل اليكم تصغون الى همومهم وتضعونها أولوية لتحقيقها تمجيداً لله بخدمة هذه الرعية ومحبتها. ولا يسعنا الا ان نتوجه بالشكر والتقدير لرابطة قنوبين لجهدها المثمر وللاستاذ مروان الحايك المبادر دوماً الى أعمال النهضة والعمران والبناء.
بعد ذلك تمّ تبريك الموقع بالمياه المقدسة وسط التراتيل والالحان السريانية من الاب يوسف طنوس.
عرض هندسي
بعد ذلك عرض المهندس البطي الخرائط ومضمون الدراسة الهندسية التي تشمل أولاً أعمال التنظيف وجمع الحجارة وترقيمها ورفع الاتربة باشراف خبير أركيولوجي متخصص تمهيداً لمرحلة ترميم الدير نهائياً وتأهيله لاقامة اثني عشر راهباً، بالاضافة الى تعزيز الحياة الزراعية في محيطه التي لا تزال قائمة على أيدي عائلات من وادي قنوبين.
كلمة البطريرك
بعد ذلك جال البطريرك الراعي ومرافقوه على مجمل أرجاء الدير وجوانبه، والقى كلمة قال فيها:
بتأثر كبير نحيي جميع الحاضرين معنا، التحية بداية لرابطة قنوبين للرسالة والتراث، التي حرّكت هذه المبادرة من خطة تجديد الحياة الروحية في وادي قنوبين، ومعنا نائب رئيسها الاب يوسف طنوس، ونحيي سيدنا المطران جوزيف نفاع المشرف عليها، ونحيي بخاصة الاستاذ جورج عرب اللولب الفعال لمجمل هذه الحركة، الذي يجتهد ويكشف من كنوز الوادي، ومن أماكنه التي لا نعرفها، ونحيي أيضاً بتقدير المهندس العزيز مروان الحايك، الذي يفكر بمستقبل ترميم هذا الدير فيما نحن نتأمل ونتحدث، اني أحيي فيك المحبة والايمان والالتزام وانت لم تزر هذا الدير من قبل، وسألتك وأجبتني انها الزيارة الاولى. فليحفظك الله مع عائلتك بالخير ويتمم كل أمنياتك. ونحيي المهندس طوني البطي وفريق اعداد الدراسة الذين يشرحون لنا خطة العمل. وأرحب بوجود سعادة السفير الفرنسي في لبنان الذي رغب في مشاركتنا هذه المناسبة. انه تقليد قديم منذ سنة 1600 حين كان يأتي قناصل فرنسا الى الكرسي البطريركي في قنوبين ليحتفلوا مع البطاركة بعيد انتقال السيدة العذراء. ما يعطي وجود سعادة السفير معنا اليوم رمزية مهمة بالنسبة الينا تتجاوز معنى الزيارة السياحية الى الزيارة المرتبطة بسياق تاريخي للعلاقات الفرنسية المارونية. ونحن بزيارتنا المشتركة اليوم نسهم في تمتين هذه العلاقات للخير المشترك. وحين نقول علاقات فرنسية مارونية نعني علاقات فرنسية لبنانية لان لا مارونية بدون لبنان، ونريد تعميق العلاقات الفرنسية المارونية لخدمة لبنان. وأضاف البطريرك الراعي: لقد دخلنا جميعنا بتأثر كبير الى هذا المكان المقدس. وخلال مشينا كنا متأثرين ونحن نسترجع مسيرة الاوائل والاجداد هنا والتساؤل الدائم: كيف عاشوا هنا في هذا الوعر والقساوة؟ لقد صمدوا هنا في أصعب الاوقات والظروف وبخاصة في عهد المماليك واضطهادهم للموارنة وعهد الاتراك الذين كانوا يصلون الى هذا الوادي يحرقون ويدمرون ويقتلون ويفرضون ضرائب باهظة، مع ذلك لقد صمد شعبنا وبطاركتنا ونساكنا. انها امثولة كبيرة لشعبنا خلاصتها نحن لسنا هنا لولا صمود الاولين، لولا تلك المقاومة الحقيقية بالايمان والصلاة والعلاقة بالارض.
وتابع الراعي: نحن نبارك الجهود المبذولة لاحياء هذا المكان وسواه لترجع الاديار عامرة بالحياة الروحية ، وليرجع التراث الروحي الماروني معيوشاً في قنوبين ولنعيد بث هذه الروحانية المارونية في حياتنا أينما كنا.
وختم الراعي: لتكن هذه الزيارة مباركة نعود منها ونحن نحمل قداسة وصلوات وتضحيات وتقشفات كل الذين احتضنهم هذا الدير في ماضيه.
ووزعت رابطة قنوبين للرسالة والتراث مطبوعة خاصة بالمناسبة متعددة اللغات تحمل صورة الدير والبطريرك الراعي بعنوان “بعد يوحنا الحلو في 25 نوار 1822، البطريرك بشارة الراعي في مار ابون، 19 ايلول 2017 : يوم الوفاء والتجديد. وأضاءت المطبوعة باختصار على تاريخ الدير وأهميته وهو أكبر اديار وادي قنوبين، وعلى الاحداث التي شهدها والوجوه الدينية التي عرفها من بطاركة وأساقفة وحبساء ومتعبدين، وكان آخر بطريرك منهم يوحنا الحلو، الذي زار الدير في 25 نوار 1822 ليستلم وثيقة ترسيم الحدود بين أملاك البطريركية وأملاك دير قزحيا في الوادي. كما فصّلت خطة الترميم ، التي تتم بمواد البناء البدائية الموروثة وبالوسائل التقليدية، والمتابعة والاشراف والتأهيل، وهي تستغرق سنتين ونصف سنة.
وبعد الجولة في الدير ومحيطه استكمل البطريرك الراعي ومرافقوه جولتهم في الناحية الغربية للوادي المقدس في نطاق دير قزحيا. وكانت محطات على مجمل المحطات الطبيعية والمعالم الدينية والمغاور والمحابس. وقد استقبله أهالي رعية الفراديس بنثر الارز والورود والزغاريد.