أَدِيبٌ مُمَيَّزٌ، وَرِوَائِيٌّ مُحَنَّكٌ… وَيَحْلَوْلِي الجَنَى

(مُقَدِّمَةُ كِتَابِ “رِيشَةٌ تَشهَدُ”، لِلأَدِيْبِ الدّكتُور مِيشَال كُعْدِي، وَالَّذي يَتَناوَلُ الرِّوائِيَّ جان سالمه)

 

 

 

 

 

 

 

 

مُفتَتَح

كَما على مُنحَنًى أَخضَرَ يَتَعانَقُ النَّسِيمُ والعَبِيرُ، ويَتَهادَيانِ في زُرْقَةِ المَدَى، كَذا يَتَلاقَى أَدَبُ مِيشال كُعْدِي الرَّاقِي، المَصقُولُ كالمَرايا، وفَنُّ القِصَّةِ والنَّقدِ والمَقالَةِ المَتِينُ الأَركانِ، المُستَوفِي شُرُوطَ الجُودَةِ، عِندَ جان سالمه، فإِذا الرِّقاعُ في نَشوَةٍ، والسِّفْرُ في سُكْنَى البَدْعِ على الرُّفُوفِ العُلَى.

نَعَمْ.. أَنْ يَجتَمِعَ أَمِيرٌ في الأَدَبِ والشِّعرِ والبَلاغَةِ العالِيَةِ وشَيخٌ مُحَنَّكٌ في ضُرُوبِ القِصَّةِ والرِّوايَةِ والنَّقدِ الذَّكِيِّ والمَقالَةِ المُتْقَنَةِ، في مُصَنَّفٍ واحِدٍ، فالحُرُوفُ في مِهرَجانٍ، والرِّقاعُ قِطَعٌ مِنْ شُمُوسٍ وأَقواسُ سَحاب.

الأَوَّلُ، الكُعدِيُّ، كَلامُهُ تَرْقِيْنٌ في جَسَدٍ ظاهِرُهُ الرُّواءُ الصَّارِخُ المُمَوْسَقُ، وباطِنُهُ رُوْحٌ عَمِيقُ الغَوْرِ، في أَبعادِهِ فِكرٌ ثاقِبٌ يُلامِسُ الفَلسَفَة في بَعضِ عُرُوقِه؛ فَهُنا نُجْعَةٌ للذَّائِقَةِ التَّائِقَةِ إِلى الجَمالِ، وهَنَّا اكتِفاءٌ لِلعَقلِ الباحِثِ الطَّمَّاح.

والثَّانِي، السَّالِمِيُّ، أَدِيبٌ رَقِيقٌ، وناقِدٌ رَصِينٌ، لا يَهنَأُ لَيْلَهُ إِلَّا على صَرِيرِ اليَراع. وهُوَ رِوائِيٌّ كَبِيرٌ، مِعْمارُهُ القَصَصِيُّ راسِخٌ، مُكتَمِلُ الفَنِّيَّةِ والأَناقَةِ، عالِي المُستَوَيَينِ البِنائِيِّ والدَّلالِيِّ، كَفِيٌّ لِطَبَقاتِ القُرَّاءِ كافَّةً، ومَطبُوعٌ بِمِيْسَمِ الرِّضَى والبَقاء.

نَحنُ مَعَهُما بَينَ هاتَينِ الدَّفَّتَينِ، أَدِيبٍ مُمَيَّزٍ، ورِوائِيٍّ مُحَنَّكٍ.. فَهَل لا يَحلَولِي الجَنَى؟!

مِيشال كُعدِي

في فَضاءاتِنا الثَّقافِيَّةِ زَحْمَةُ أَقلامٍ هَجِينَةٍ أَنتَ مَعَها لَفِي مَدَبِّ نِمالٍ، وأَدَبٌ سِقْطٌ أَفسَحَتْ لَهُ دَعاوَةٌ عَرِيضَةٌ وأَذواقٌ مَرِيضَةٌ صَفَحاتٍ هَزِيلَةً مِن جَرائِدَ جَوَّالَةٍ، وصُدُورَ مُنتَدَياتٍ سُمِّيَتْ أَدَبِيَّةً، فَهَيمَنَ دَجْنٌ مُقِيمٌ كالهَمِّ، فَتَشَوَّفَتِ الذَّوائِقُ المُرهَفَةُ إِلى يَراعاتٍ مُضِيئَةٍ تَجلُو الغَمَّاءَ، وعاقِلَةٍ جَمْعِيَّةٍ تُدرِكُ بِاللَّاقِطِ الرَّهِيفِ قَمحَ الأَدَبِ فَتَرفَعُهُ إِلى الكَوائِرِ المَصُونَةِ، وتُلقِي بِزُؤَانِهِ إِلى أَقبِيَةٍ عَطِنَةٍ مَنسِيَّةٍ تَدرَأُ سُوءَهُ عَن قابِلَةِ الأَيَّام.

وما يَجعَلُ الأَمَلَ فَسِيحًا أَقلامٌ مِن أَضرابِ أَدِيبِنا، تَبنِي الجُدُرَ الصِّلابَ، والسَّبْكَ الجَيِّدَ، والإِسارَ الجَمِيلَ، في عَصْماواتٍ تَعصِي الزَّوال.

هذا الَّذي لَو تَوَزَّعَت مَشاغِلُهُ الكِتابِيَّةُ، وانهِماكاتُهُ الثَّقافِيَّةُ، واستِجاباتُهُ لِنِداءاتِ الأَندِيَةِ الفِكرِيَّةِ، والمَحافِلِ ذَوِي المَنابِرِ النَّبَّاضَةِ الجَيَّاشَةِ، على كَوكَبَةٍ مِنَ المُتَنَوِّرِينَ العامِلِينَ في مَقالِعِ الحَرفِ ومُحتَرَفاتِ القَلَمِ، لَناءَتْ كَواهِلُهُم، ولاعتُقِلَت أَلسِنَتُهُم، ولَتَكَرَّرَت أَقَوالُهُم، ولَنَضَبَت دَوَياتُهُم مِنَ العِبْءِ الجُسام.

وهَل أَتاهُ لَقَبُ “الفَقِيهِ” مِن خَواء؟

كَلَّا.. فَلَقَد بَناهُ لَبِنَةً لَبِنَةً، في لَيالٍ طِوالٍ مِن هُجُودٍ وكَدٍّ، ومُجاهَدَةٍ مَعَ الحَرفِ، حَتَّى كانَ، لَهُ، صَرْحٌ مُمَرَّدٌ بِأَبراجٍ عَوالٍ في لُغَتِنا الجَمِيلَةِ الرَّشِيقَةِ، وكانَت خَيلُهُ أَبَدًا في الصَّهَواتِ صَواهِلَ إِلى التُّخُومِ البَعِيدَةِ، فإِذا فُتُوحاتُهُ تَتالَى غُرٌّ كأَصباحِ الصَّيفِ على رَوابِينا الخُضْر. مَعِينًا باتَ، هو، لِليَراعاتِ العِطاشِ، ومَرجِعًا في قَولِهِ اليَقِينِ إِمَّا تَعَثَّرَت مَسأَلَةٌ في الصَّرْفِ والنَّحْوِ ومَغالِيقِهِما المُتَعاقِبَة.

مُنَمنَمٌ، هو، تَزوِيقًا وأَناقَةً. في أُسِّ كِتابَتِه وَلَهٌ بِجَمالِ الأَدَبِ وبَيانٌ يَغَصُّ بِالكَلامِ الجامِعِ، لا يَشكُو هَلهَلَةً، ولا يُلَفِّعُهُ إِبهامٌ، أَو يُزامِلُهُ إِملالٌ، أَو تُعِيبُهُ هُجْنَة.

وهُوَ يَتَدَرَّعُ بِلُغَةٍ تُحَصْحِصُ قِيامَتُها كُلَّما تَدَبَّرَها قَلَمٌ شامِخٌ، وهِمَّةٌ قَعْساء.

وهُوَ مَن هُوَ في تَكثِيفِ الأَفكارِ لِتَخرُجَ عِقدًا نَظِيمًا مِن دُرٍّ صَقِيلٍ، تُسعِفُهُ بَراعَةٌ في التَّصوِيرِ والخَيالِ وتَماثُلِ الأُمُور. يَقُولُ في صاحِبِهِ: “تَفَلَّتَ مِنَ الجُمُودِ، وضُغُوطِ التَّقالِيدِ، فَهُوَ كَالمَسِيلِ، دائِمُ البَوْحِ يَسِيرُ طَوْعَ مَجراه (ص 110)”.

في أَدَبِهِ راحَةٌ لِلقارِئِ الشَّغُوفِ بِالحَسَنِ، وفي مُصطَلَى دِيباجَتِه الباذِخَةِ هَناءَةٌ ودِفْءٌ، واستِرواحٌ في حِضْنِ إِنشاءٍ مُخضَلٍّ مَرِيع.

كَلِمَتُهُ عَيناءُ، ورَوضُهُ أَغيَنُ، وبَيانُهُ أَبلَجُ، وقَوافِيهِ سَواجِعُ، وتَراكِيبُهُ وِضاءٌ، فَلَأَنتَ، مَعَهُ، في الرَّهَفِ والشَّفَفِ وبُلالَةِ الغَدِيَّات.

مَنابِعُهُ أَبَدًا دَوافِقُ، ومِنحَتُهُ رَهِيفٌ ما كَلَّ يَومًا أَمامَ ضادٍ سَنامُها عالٍ وأُمُورُها حَدْباء.

وهُوَ القَيدُومُ في مُعتَرَكِ الكَلِمِ المُؤْنِقِ المُنَمَّقِ، السَّاحِرِ أَذيالًا، المُوحِي خَيالًا، والوافِي مُعالَجَةً وتَمحِيصًا واشتِمالًا. يُجانِفُ المُبتَذَلَ، ويَتَرَفَّعُ عَنِ النَّحْلِ. تَبدُو رَصِيعَتُهُ فَرِيدَةً في مَعارِضِ الحِلَى، مُلُوكِيَّةَ الحُضُورِ، ساحِرَةَ الطِّلَى.

ولأَنَّهُ مِن المُبدِعِينَ الكِبارِ، أَتْلَعٌ في القاماتِ، غُرَّةٌ في المَقاماتِ، صَبِيحٌ في الطُّرَرِ، فَإِنَّهُ يَخشَى على الإِبداعِ، مِن كُدُراتِ البَيانِ المَرِيضِ، أَن تَندُرَ الرِّجالُ في ساحِهِ، وأَن تَتَصَحَّرَ واحاتُهُ، وتَضمُرَ التُّمُورُ في نَخِيلِهِ الغَضِّ الفارِع.

ولَكَم خَشِيَ أَن يُوَقِّرَهُ هُزالُ المُتَداوَلِ المُرتادِ فَيُدرِكُهُ الوَنَى في عَزمِهِ الثَّبِيتِ، فَناجَى نَفَسَهُ يَومًا: “أَلمُبدِعُ وَحدُهُ يَخافُ أَلَّا يُبدِع”!

مِن عَلِيِّ أُدَبائِنا، هُوَ، نَضِيجٌ في أَحكامِهِ، تِكْلامَةٌ حِينَ تَدعُو المَنابِرُ، لَسِنٌ حِينَ يَحُطُّ الرِّيشَةَ على البَياضِ العَطِشِ، يَتَنَوَّقُ في الكَلامِ، ويُنَضِّدُ العِباراتِ، ويُدَثِّرُ الفِكرَةَ الحَسَنَةَ بِاللِّبْسَةِ الطَّرِيفَةِ الصَّبُوحِ، فإِذا المَبنَى رَكِينٌ مُزَمَّلٌ بِالصَّباحَةِ والعُذُوبَة.

أَحسِنْ بِهذا المُبدِعِ، ونِعْمَ ما مَقُولاتُهُ، رَصائِعُ إِبرِيزٍ في جِيدِ الأَدَبِ الباقِي، فَمَنسِمُهُ نَقلُ الأَفكارِ في هَودَجِ جَمالٍ، وفي أُبَّهَةِ مُلُوك.

هذا الكاتِبُ!

عَرَفناهُ… مِنَ السَّدَنَةِ الغَيارَى، مَن تَؤُجُّ في ضُلُوعِهِم النَّارُ إِمَّا تَلَمَّسُوا لَحَنًا أَو رَطَنًا في لُغَةٍ هي في عُرُوقِهِمِ النَّبْضُ، ودِفْءُ القانِي، لُغَةٍ قَصَرَ الخانِعُونَ عَن قِمَمِها العَوالِي، وسَبَغَ رِداؤُها لِلَّذِينَ تَخِذُوها عَشِيقَةَ اللَّيالِي، وسَمِيرَةَ القَنادِيل.

وعَهِدناهُ… ما وَنِيَ يَومًا أَمامَ جَلَلٍ. يَتَجَمَّمُ الكِنانَةَ، ويَشُدُّ الرَّحْلَ، فَطَرائِدُهُ سِمانٌ مِن نَدَرَى الغابِ، لها تَعَبُ الأَرجُلِ، َضَنَى الأَعيُنِ، ونَدَى اللُّهاث.

وخَبَرناهُ… ما شامَ عَمَلًا مُضِيئًا إِلَّا وكَشَفَ جَمالاتِهِ بِجَمالٍ مِن أَدَبِهِ السَّامِقِ، وأَلبَسَ رُواءَهُ مِن قُمُصِهِ الزَّواهِرِ، واحتَفَلَ بِأَلَقِهِ كما لو كان مِن زَفَراتِ قَلَمِهِ السَّخِيِّ، وكَرَمِ سَحابِه الهَطَّال.

هذا المُتَفَنِّنُ إِبداعًا، أَدَبُهُ مَنافاتٌ شَوامِخُ، تَرنُو إِليها فَيَبهَرُكَ العَجَبُ، وإِن شِئتَ مُشاكَلَتَها أَعياكَ النَّصَبُ، فالمَسِيرَةُ إِلى مَثِيلاتِها طَوِيلَةٌ، شائِكَةُ الشِّعابِ، كَأداءُ المُرتَقَى، عَسِيرَةُ العَقَب.

وإِذ تَمَيَّزَ بِمُعجَمٍ صَعبِ المَنالِ، أَحيانًا، في صِياغَةٍ عالِيَةٍ، على خَيالٍ شَفٍّ مُجَدِّدٍ في جَمالِيَّةٍ آسِرَةٍ، وبَيانٍ بَهِيٍّ، مُحكَمٍ، تَهتَزُّ صُورَتُهُ وتَئِنُّ إِن أَسقَطتَ، أَو بَدَلتَ كَلِمَةً مِن نَسِيجِهِ، فَأَعمالُهُ مَيامِنُ في لُغَتِنا الرَّاسِخَةِ في مَهَبِّ الزَّعازِعِ، والَّتي تَتَشَبَّثُ جُذُورُها بِالثَّرَى، وتَمُورُ فُرُوعُها تُعانِدُ الرِّيحَ، وتُصارِعُ فُؤُوسَ الحَطَّابَةِ، ومَكائِدَ المُتَخاذِلِينَ، يَدَّعُونَ تَشذِيبَ يَبِيسِها، حِينَ هُم يُقَلِّمُونَ بَراعِمَها المُستَسِرَّةَ في قِشرِها الدُّهرِيِّ المُتَشَقِّق.

بِمِثلِ كاتِبِنا تَشُبُّ الحَياةُ في البُذُورِ الخامِدَةِ، وبِأَقرانِهِ يَعُودُ الحُداءُ إِلى القافِلَةِ التَّعِبَةِ، وتَتَصاهَلُ الخَيلُ لِلرَّمَّاحَةِ الشَّاكِينَ، وتَأتَلِقُ أَلوانُ الأَثِيرِ على الرَّوابِي المَنسِيَّة.

رَصَانَةُ سِياقِهِ… أَكرِمْ بِها رَصانَةً في مَنازِلِ الإِرهافِ والإِشراق. أَمَّا تَراكِيبُهُ فَمَهِيبَةٌ كَأَمِيرَةٍ، رَقِيقَةٌ كَوَجنَةِ طِفلٍ، شَجِيَّةٌ كَمَرمَرَةِ الحَرِيرِ على قَوامٍ لُجَين.

وإِنَّما هو لِقادِرِيهِ الأَعَزُّ، هو مَن أَحلَى مَوائِدَهُم بِالطَّيِّباتِ، وأَشرَعَ عَلَيهِم نَواجِيدَهُ العِتاقَ، وأَباحَ لَهُم كُنُوزَ يَراعِهِ، وعَبقَرِيَّةَ لُغَتِهِ، ما أَتاحَ لِذائِقَتِهِمِ الطَّامِحَةِ إِلى المُعجِزِ حُقُولًا ثَرَّةً مِن بَيانٍ صَبِيحٍ، وبَلاغَةٍ عالِيَة. وها هُمُ يَتُوقُونَ أَبَدًا إِلى مَغانِيهِ الَّتِي “تَدُرُّ لَبَنًا وعَسَلًا”، سُراةً على شَوقٍ لِمِسكِها الدَّارِيِّ، وخُمارِ مُعَتَّقاتِها البابِلِيَّة! كما هُم إِلَيهِ “إِذا زَلَّتِ الأَقدامُ، واستُنزِلَ النَّضْرُ”، على حَدِّ قَولِ أَبِي فِراس الحَمَدانِيّ.

نَعَمْ.. سَتَسطَعُ شَمسُ العَرَبِيَّةِ العَتِيدَةُ، يَومًا، فَيَنسَرِبُ المُزَيَّفُونَ بِأَحمالِهِم في جُحُورِ النِّسيانِ إِلى غَيرِ عَوْدٍ، ويَبقَى مَعَ أَضرابِهِ وأَعمالِهِم المَنائِرِ، رَواسِخَ على الحِقَبِ، ومَعالِمَ على طَرِيقِ البَدْعِ والجَمالِ، وتَسقُطُ، تِلوًا، رَواسِبُ شُوْهٌ مِن ذاكِرَةِ التَّارِيخِ الأَنُوفِ، وواعِيَتِهِ النَّقدِيَّةِ الحازِمَة.

هَنِئْنا بِهِ لُغَوِيًّا عَلَّامَةً فَهَّامَةً، وخَطِيبًا شَيِّقَ النَّبرَةِ، وأَدِيبًا عالِيَ البَلاغَةِ، مُشرِقَ الصَّباحَةِ، وَضِيءَ البَيانِ، ما في دِيباجَتِهِ نَظَرٌ إِلى نِتاجٍ ولو لِأَئِمَّةِ الحَرفِ والقَلمِ والتُّراث.

ونَحنُ حَبَبناهُ شاعِرًا رَقِيقًا نَسِيقَ النَّظمِ شَفِيفَ الصُّوَرِ والخَيالِ. إِن يَنسِبْ بِحَسناءَ، فَحُسنُها أَجَلَى وأَحلَى، ومَشاعِرُ القارِئِ أَدفَأُ في الحَنايا، ومَواجِعُ الضُّلُوعِ في رَعَشٍ لَذِيذ!

وهو لَم يُقَصِّر في وِقفاتِهِ الشِّعرِيَّةِ المِنبَرِيَّةِ، فَكانَ لِلمُناسَبَةِ نَجمَها، ولِصاغِيَتِهِ مَوضُوعَ العُجْبِ والإِكبار.

فَلَنَحنُ في رَوضِهِ، أَبَدًا، في دَهشَةِ المَسحُورِ، مُتَحَلِّبِي الرِّيْقِ أَمامَ طَيِّباتِ ثِمارِهِ، مَأخُوذِينَ بِخَضَرِهِ الغَضِّ في صَحِيفَتِهِ الفارِهَةِ الَّتي لا تَشكُو ثِقَلًا أَو تَرَهُّلًا، بَل تَزهُو وتَدِلُّ بِالعارِضَةِ السَّدِيدَةِ، والسَّبكِ المُحكَم.

يَراعٌ، هو، زَكِيُّ الحِبرِ، في قافِلَةِ المُنشِئِينَ مِنَ الحُرُوفِ عِماراتٍ بَواسِقَ، وبُرُوجًا مُشَيَّدَةً تَنهَزِمُ على جَلامِدِها الرِّياحُ الزَّعازِع.

نَعَمْ… هو الصُّلْبُ في زِحامِ المَناكِبِ، وفي الحَلبَةِ عِلْيُ أَقلامٍ وقاماتٌ بَهِيَّة!

رَعاهُ الله!

د. ميشال كعدي

جان سالمه

حَكَّاءٌ بِالفِطرَةِ، رِوائِيٌّ بِالسَّلِيقَةِ، خَبِيرٌ بِالتَّشوِيقِ وحَبسِ الأَنفاسِ، ناقِدٌ رَصِينٌ، وشاعِرٌ رَهِيف.

ألسَّيرُ مَعَهُ، رِوائِيًّا، تَوَقُّلٌ لِلمَشاعِرِ في جَبَل. فَكُلَّما صَعَّدَ القارِئُ في مُرتَقاهُ ازدادَت هَواجِسُهُ، واشتَدَّ تَرَقُّبُهُ، وتَراكَمَت عليهِ رَوافِدُ الأَحداثِ، وتَواشَجَت خُيُوطُ النَّسِيجِ، في حَبكَةٍ مَجدُولَةٍ، مُتَسَلسِلَةٍ، حَتَّى إِذا ما بَلَغَ الذُّروَةَ، يَغُذُّ في المُنحَنَى، حَيثُ يَبدَأُ الانقِشاعُ، وانفِكاكُ العُقَدِ، وُصُولًا إِلى النِّهايَةِ الحاسِمَة. وهكذا تَبدَأُ حِكايَتُهُ، غالِبًا، مُحكَمَةَ الهَيكَلِ، وتَنتَهِي تامَّةَ الفُصُولِ والحُلُول!

دَربُهُ تَتَوالَى فيها الأَحداثُ، وتَتَنَوَّعُ، مُوَجَّهَةً نَحوَ النِّهايَةِ المَرسُومَة. وقارِئُهُ شَرِيكٌ في القَصِّ، وعَلَيهِ أَن يُعمِلَ الذِّهنَ لاستِدراكِ قِبلَةِ الأُحدُوثَةِ، الَّتي يَعمَدُ كاتِبُنا إِلى تَعمِيَتِهِ عَنها، وتَضلِيلِهِ عَن وُجهَتِها، في كَثِيرٍ مِن قِصَصِهِ، حَتَّى يَضِيعَ في المَتاهَةِ، ويَقَعَ في الأُحبُولَةِ، فَيَعنُفُ بِهِ التَّوَتُّرُ، وتَأخُذُهُ طاقَةُ الجَذْبِ، أَكثَرَ، إِلى النَّصِّ، فَتَأتِي النِّهايَةُ مُنَبِّهَةً الحَواسَّ الغَوافِلَ عن مَجرَياتٍ مَرَّت عَرَضًا، وبَدَت دَخِيلَةً، فإِذا هي، في المَحصَلَةِ، خادِمَةٌ لِلَّحظَةِ الإِبداعِيَّةِ وقد انجَلَت على يَراعٍ مُقتَدِر. وهو، في رِحلَتِهِ الماتِعَةِ عَبرَ تَعارِيجِ القِصَّةِ، يَحظَى بِاستِراحاتٍ طَوِيلَةٍ، وفَتَراتِ استِرخاءٍ، تَلِيها مَواقِفُ إِثارَةٍ وتَشوِيقٍ وحَبْسِ أَنفاسٍ، لَكَأَنَّهُ في صَحراءَ، فيها الواحاتُ وفِيها المَفاوِزُ، فِيها بَهاءُ النُّجُومِ وحَفِيفُ السَّماءِ، وفِيها وَحشَةُ الوَعرِ ورَهبَةُ الكُثبان. حَبِيكَتُهُ في تَأَجُّجٍ دائِمٍ، والحَياةُ، فِيها، نَبَّاضَةٌ، ومُرافِقُهُ مَشدُودُ العَصَبِ، مَأخُوذٌ باِلسِّحرِ، مُتَعاطِفٌ مع شَخصِيَّاتٍ، نافِرٌ مِن أُخرَى، فَلا يَعُودُ مُتَفَرِّجًا بَعِيدًا، مُحايِدًا، بَل يَنغَمِسُ في الوَلِيمَةِ حَتَّى جُمَّتِه.

في العُمُومِ، التَزَمَ أَدِيبُنا بِالمَنحَى التَّقلِيدِيِّ، والسَّمْتِ الواقِعِيِّ، وهُوَ القائِلُ عَن نَفسِهِ: “أَنتَمِي إِلى فِئَةِ الكُتَّابِ الواقِعِيِّينَ” (ص 233)، على أَنَّهُ تَساوَقَ، مِرارًا، مع مُتَطَلِّباتِ القَصِّ الحَدِيث. وهُوَ، هُنا، لا يَتَّبِعُ سَيرُورَةً مُتَطابِقَةً مع التَّسَلسُلِ الزَّمَنِيِّ الواقِعِيِّ لِلأَحداثِ، بَل يُؤَخِّرُ، تارَةً، ويُقَدِّمُ، أُخرَى، بَعضَ الوَقائِعِ، خِدمَةً لِلتَّفاعُلِ في النَّصِّ، ورِفدًا لِلإِضاءَةِ على مَجرَياتٍ تُبرِزُ حالاتٍ وصِفاتٍ لا تَظهَرُ جَلِيَّةً في ما هو مَروِيٌّ، ومُظَهَّر.

كما واجتَمَعَت في سَردِيَّاتِهِ، ومِن دُونِ عَنَتٍ وتَصَنُّعٍ، حُزمَةٌ رَئِيسٌ مِن أَلوانِ الطَّيفِ القَصَصِيِّ، قَدِيمِهِ وَحَدِيثِه.

فَإِنَّكَ تَلتَقِي، في دِيباجَتِهِ، النَّزعَةَ الرُّومانسِيَّةَ بِما يَسِمُها مِن خَيالٍ، وطَفَراتِ ذاتٍ، ونَفرَةٍ مِمَّا أَطَّرَهُ المُجتَمَعُ ورَسَمَتهُ التَّقالِيد. وإِنَّكَ لَواجِدٌ، أَيضًا، القَصَّ الَّذي يَمتَحُ مِن بِئْرِ الواقِعِ، ومَجرَياتِ الأَحداثِ، ولكِن بِإِضافَةِ مَسحَةٍ مِن حَيَوِيَّةٍ ونَضارَةٍ لِكَي لا تَبدُوَ الصَّفَحاتُ نَشرًا رَتِيبًا بَلِيدًا لِأَحداثٍ مَعيُوشَة. وَلَأَنتَ قابِضٌ، كَذَلِك، على الفانتازيا الأَدَبِيَّةِ، بِحُنكَةٍ تَجعَلُها مَقبُولَةً في العَقلِ، تَبسِمُ لَها الجَوارِحُ، ولا تَنقَبِضُ الحَنايا.

وإِنْ هو لَجَأَ، في بَعضِ أَقاصِيصِهِ، إِلى العَجائِبِيَّةِ، فَإِنَّ عَمَلَهُ هذا يَرفِدُ السَّردِيَّةَ بِالرِّوَى والنَّضارَةِ، ويُخرِجُها مِن مَألُوفٍ ناصِلِ اللَّونِ، خامِدِ الإِثارَةِ، إِلى تَوَتُّرٍ يَزِيدُ النَّبضَ تَسارُعًا، واللَّهفَةَ إِلحافًا، كما ويَفتَحُ نَوافِذَ على الغَيبِ، وأَسئِلَةً تَعِزُّ فيها الأَجوِبَةُ الشَّافِيَةُ في حَيِّزِ المَعقُولِ، بَل تَبقَى زادًا لِلخَيالِ والدَّهشَةِ، يَتَجَدَّدُ فَيُطِيلُ عُمرَ الأُقصُوصَةِ في البال. ولا غَروَ في نَهجِهِ الغَرائِبِيِّ.. أَلَم تَتَوَكَّأ عَلَيهِ إِمِيلِي برُونْتِي* في خالِدَتِها “مُرتَفَعات وِيذْرِنغ”، لِتُدِيرَ مُحَرِّكَ القَصِّ، وعَجَلاتِ التَّداعِيات؟!

يَقُولُ فرَنسوَا باستِيد ((François Bastide: “في هذا الزَّمَنٍ، وقَد باتَ الإِنسانُ مَسحُوقًا بواقِعٍ مَرسُومٍ لَهُ مَدَى أيَّامِهِ، مَبنِيٍّ على ما تَرَى التِّقنِيَّاتُ الحَدِيثَةُ، لا ضَيْرَ إِذا قَدَّمَ القاصُّ لِلقارِئِ رِياضَةً خَيالِيَّة”.

وهذا ما أَنجَزَه جان سالمه في كَثِيرٍ مِن قِصَصِهِ الغَرائِبِيَّةِ، بِمَقدِرَةٍ تَنأَى بِغيرِ المَعقُولِ عَن جادَّةِ المَلَلِ والنُّفُور.

شَخصِيَّاتُهُ لَيسَت جامِدَةً، مُؤَطَّرَةً، مُمَثِّلَةً لِصِفَةٍ مُكتَسَبَةٍ، أَو لِخَلَّةٍ في الجِبِلَّةِ، بَل هي شُخُوصٌ حَيَّةٌ تَتَنامَى، تَفعَلُ وتَنفَعِلُ في الحَدَثِ، وتَتَفاعَلُ مَعَ مُحِيطِها ومُكَوِّناتِهِ، مُتَمَلمِلَةً بِنَبْضِ الحَياةِ، وخَلَجاتِ النَّفسِ، ما يُؤَسِّسُ تَوازُنًا في بِنيَةِ السَّردِ، وتَناغُمًا في العَلاقاتِ، ومَنطِقًا في تَطَوُّرِ الأُمُورِ، وتَصاعُدًا مُطَّرِدًا في القَصِّ، حَتَّى البُؤْرَةِ المَرسُومَة.

وهُوَ، وقَد أَخَذَ القَصُّ بِمَجامِعِ قَلبِه، كانَت لَهُ جَولاتٌ مُفلِحَةٌ في النَّقدِ، تَناوَلَ فِيها كُتَّابًا وأَعمالًا أَدَبِيَّةً، نَحا فِيها نَحوَ الهَوَى الشَّخصِيِّ والذَّائِقَةِ الَّتي تَرفِدُها ثَقافَةٌ عَرِيضَةٌ واطِّلاعٌ وافٍ على شُؤُونِ الأَدَبِ، الغَربِيِّ والعَرَبِيِّ، القَدِيمِ والحَدِيث. وفي صَولاتِهِ هذه لَم يَتَوَكَّأ على نَظَرِيَّاتِ النَّقدِ، كما لم يَكُن أَكادِيمِيًّا مُحَصَّنًا بِدِراساتٍ عَمِيقَةٍ وسَنَواتِ تَحصِيلٍ جامِعِيٍّ، وهذا لَم يَضِرْهُ في مَقُولاتِهِ، كما لَم يَضِرْ نُقَّادًا كِبارًا كَمارُون عَبُّود، مَثَلًا.

كَما وأَنجَزَ دِيوانًا شِعرِيًّا، يَومَ الحَنايا على ضَرَمٍ، والهَوَى رِيحٌ هَبُوبٌ، والصِّبا غَرِيضٌ، فَما جاءَ عَمَلُهُ غَيمَةً داكِنَةً في زُرقَةِ الشِّعرِ، بَل كِمًّا يُضافُ إِلى أَكمامِهِ الزَّواهِر.

بَيْدَ أَنَّ نَبْضَ هذا المُتَنَوِّعِ الأَغراضِ، وعِشقَهُ الأَصِيلَ، كانا في “الحِكايَةِ”، فَعادَ إِلى مَربَعِهِ الأَثِيرِ، وبَقِيَ النَّقدُ رَقِيبًا صادِقًا لَهُ في مَسارِهِ الرِّوائِيِّ، يُسَدِّدُ خُطاهُ في ما كَتَبَ، وظَلَّ الشِّعرُ قابِعًا في طَوِيَّتِهِ، يَرفِدُ سِياقَتَهُ بِالنَّدَى، واللَّونِ، والصُّورَةِ، والخَيالِ، والرُّؤَى.

وهو، على تَنَوُّعِ مَشارِبِهِ وأَهوائِهِ، وسُكُونِهِ إِلى شِعرِيَّةِ البَيانِ وفَصاحَتِهِ، يَعمَلُ على اللُّغَةِ في سَردِيَّتِهِ، ويَتَرَصَّدُ لِلصُّوَرِ ولِلتَّشابِيهِ، ويَسعَى إِلى بَعضِ النَّغَمِ في التَّراكِيبِ، ما يَشِي بِتَوقِهِ، بَداهَةً أَوْ تَصمِيمًا، إِلى “نَصٍّ مَفتُوحٍ” يَتَخَطَّى حُدُودَهُ المَرسُومَةَ تَقلِيدًا، وُلُوجًا في مَحارِمِ الفُنُونِ الأُخرَى مِن شِعرٍ، وأَدَبِ خَيالٍ، وسِينَما. إِنَّها مَوهِبَةُ التَّخَطِّي، ومَخاضُ التَّثَقُّفِ الكَثِيفِ، يُفضِيانِ إِلى انعِتاقٍ مِنَ التَّأطِيرِ، والهَيكَلِيَّاتِ المَورُوثَة.

إِنَّه كاتِبٌ مُتَنَوِّعُ الأَلوانِ والنَّكهاتِ، ثَرُّ المَقاصِدِ والعَطاءات. عَسَى قَلَمُهُ أَن لا يَمَلَّ صُحبَةَ الرِّيشَةِ والدَّوَاةِ لِنَبقَى على وَعدِ المَحاصِيل!

هذا الكِتاب

أَمَّا في هذا الكِتابِ، “رِيشَةٌ تَشْهَد”، ذِي العُنوانِ الطَّرِيفِ الظَّرِيفِ المُوحِي، فَقَدِ انبَرَى “الكُعدِيُّ” لِرَوضَةِ “سالمه”، في القَلبِ مَحَبَّةُ الصَّدِيقِ، وفي العَينِ نَظرَةُ النَّسرِ الثَّاقِبَةُ، وفي العَقلِ رَصانَةُ النَّقَّادَةِ الزِّمِّيتِ، وفي يَدٍ سَلَّةٌ تَتَهَيَّأُ فَرَحًا لاستِقبالِ الثَّمَرِ اليَنِيعِ، وفي الأُخرَى مِشذَبٌ يَقطَعُ ما تَطاوَلَ مِن عَوسَجٍ شائِكٍ على أَفنانِ الدَّوحِ الرِّواء.

ولقد تَوَلَّى نِتاجَ صاحِبِهِ بِحِذقِهِ المَعهُودِ، ودُربَتِهِ المُلفِتَةِ، وأَناقَتِهِ الضَّافِيَةِ، فَتَكَلَّمَ على كُلِّ أَلوانِ السَّالِمِيِّ مُضِيئًا زَوايا قد يَغفُلُ عنها الكَثِيرُون. فَزادَ الجَمالَ جَمالًا، وسَلَّطَ الضَّوءَ على المَوْشِياتِ الدَّقِيقَةِ، والمُنَمنَماتِ الرَّهِيفَةِ، بِحُنكَةٍ يُغبَطُ عليها، ومَحَبَّةٍ هي من نُسْغِ رُوحِهِ الأَلُوفِ الصَّدُوق.

وإِذ لَخَّصَهُ بِقَولِهِ: “رِحلَتُهُ تَمتازُ بِطَوافٍ فِكرِيٍّ… ومِن خِلالِ نِتاجِهِ، نَرَى صَفَحاتٍ تُشرِقُ وَسْطَ أَعمالٍ تُضِيءُ الظَّلامَ بِعِناد” (ص 48)، فَإِنَّهُ أَحْكَمَ الرَّميَةَ والسَّدادَ، وهو الصَّائِدُ ذُو الباعِ، فَجان سالمه طَرَقَ العَدِيدَ مِنَ الأَبوابِ، مِن رِوايَةٍ ونَقدٍ ومَقالَةٍ وشِعرٍ وتَرجَمَةٍ، كَما كَتَبَ بِالعَرَبِيَّةِ فَما انكَمَشَت على بَنانِهِ، وراوَدَ الفَرَنسِيَّةَ فَذَلَّت لِوِصالِهِ، وخَرَجَت مِن راحَتِهِ “مَتِينَةً… أَرِستُقراطِيَّةً، بَعُدَ عَنها الإِسفافُ والتَّعقِيد” (ص 53)

في إِحاطَتِهِ بِالجانِبِ القَصَصِيِّ الرِّوائِيِّ، عِندَ أَدِيبِنا، بَرَزَ الكُعدِيُّ مُلِمًّا بِشُؤُونِ القَصِّ وشُجُونِهِ، يَمتَلِكُ مَقدِرَةً مَغبُوطَةً على إِيجازِ أَفكارٍ عارِمَةٍ، وطُرُوحاتٍ واسِعَةٍ، في أَسطُرٍ مَعدُوداتٍ، مِن دُونِ أَن يَدخُلَ في الإِبهامِ، أَوْ يُسِيءَ إِلى مَوضُوعَتِهِ، أَو يُقَصِّرَ في بُلُوغِ إِدراكِ القارِئِ وكِفايَتِهِ وسَكَنِه. ناهِيكَ عَنِ البَلاغَةِ الَّتي يَسكُبُ فيها مَقُولَهُ، والبَيانَ الوَضِيحَ الَّذي يُضفِي على القِراءَةِ مُتعَةً وتَشَوُّقًا وتَشَوُّفًا واستِفادَة.

في إِدارَتِهِ مَشْغَلَ القَصِّ، وفي رَسمِهِ الشَّخصِيَّاتِ ومَساراتِها، قد تَجِدُ بَعضَ المُتَناقِضاتِ في عَمَلِ جان سالمه. فَإِنَّكَ تَلتَقِي شُخُوصًا تَتَحَرَّكُ كَما تَقتَضِيها حَياتُها، ثُمَّ تَلتَقِي بِمَن يُسَيِّرُهُ الرِّوائِيُّ لِغايَةٍ مَقصُودَةٍ، ما يُسِيءُ لِلقَصِّ في كُلِّ حالاتِه. وهذا ما طابَ لِيَ أَن أَراهُ في قَولِ الكُعدِيِّ: ” وأَمَرَ أَشخاصَ رِواياتِهِ أَن يُؤمِنُوا بِالحَقِيقَة…” (ص 76).

كما شاءَ الكُعدِيُّ أَن يَضَعَ كاتِبَنا في خانَةِ الرِّوائِيِّ المُلتَزِمِ، حَيثُ يَقُول: “… مِمَّا يُؤَكِّدُ لَنا أَنَّ صاحِبَ الرِّوايَةِ (جان سالمه) إِجمالًا، هو صاحِبُ قَضِيَّةٍ أَيضًا في كُلِّ ما يَكتُبُهُ” (ص 70).

قَد يَصِحُّ هذا الادِّعاءُ في بَعضِ أَعمالِ رِوائِيِّنا، حِينَ التِزامُهُ مُجتَمَعِيٌّ إِنسانِيٌّ عامّ. على أَنَّ لَهُ مَناحِيَ أُخرَى في قَصِّهِ، حَيثُ يَطغَى الجانِبُ الغَرائِبِيُّ، والخَيالُ المُتَفَلِّتُ، والأُسلُوبُ السِّينَمائِيُّ المُترَفُ غَيرُ المُلتَزِمِ وغَيرُ المَضبُوط. وهذا مِمَّا لا يَتَواكَبُ مَعَ مَقُولَةِ الكُعدِيّ: “… وهُنا لا أَتَرَدَّدُ في أَنَّ الأَدَبَ الرِّوائِيَّ السَّالِمِيَّ، واقِعِيُّ المَنهَجِ والطَّرِيقِ، جَوهَرًا ومَوضُوعًا وأُسلُوبًا” (ص 70).

مِيشال كُعدِي!

في ما أَتحَفَنا، بَرَزَ حَنِيكًا في عَمَلِهِ، فَالأَنامِلُ مَرِنَةٌ، لا تَفُوتُها ثَمَرَةٌ، أَكانَت في عالِي الأَفنانِ أَم في دَغِيلَةٍ مُلتَفَّة. بَيْدَ أَنَّهُ ما استَطابَ إِلَّا ما اكتَنَزَ بِالنُّسْغِ فَعَسَّلَ، وداعَبَتهُ الأَنداءُ، ولَوَّحَتهُ شَمسُ الصَّباحاتِ البَهِيَّة. لِذا، ففي هذا المُؤَلَّفِ، نَسِيرُ دُرُوبًا طَوِيلَةً في الكَلامِ على سالِمِيِّنا والضَّوءُ يَغمُرُنا، والأَنسامُ تُهَدهِدُ جِباهَنا، مِن دُونِ أَن يُعَكِّرَ صَفوَنا ظَلامٌ مِن هُنا أَو هَجِيرَةٌ مِن هُناك. هو، بَداءَةً، ثَمَرَةُ المَحَبَّةِ والصَّداقَةِ والوَفاء.

ولَقَد وَجُزَ كَلامُ كُعدِيِّنا في صاحِبِهِ، فَأَفصَحَ عَمَّا نَكُنُّ، حِينَ قال: “رَحَلَ بِهِ العِلمُ إِلى المَدَنِيَّةِ، فَاجتَذَبَتهُ الأَفكارُ المَلْأَى بِنَبْضِ العَقلِ، وإِن عَصَفَت بِهِ أَحيانًا مُشكِلاتُ الزَّمَنِ والهَواجِس (ص 86)؛ وهو نَمُوذَجٌ مِثالِيٌّ، نَذَرَ نَفسَهُ وأَيَّامَهُ لِتَصوِيرِ رُؤيَتِهِ الثَّقافِيَّة (ص 98)”.

ثُمَّ… بَعدَ عَودَتِهِ، والسِّلالُ عامِرَةٌ بِالأَطايِبِ، والنَّوارِجُ في حُمَّى نَشاطِها، والقَمحُ عَمِيمٌ سَمِينٌ، والصَّحائِفُ غَمْرٌ مِن نَضْحِ رُوحِهِ الصَّدِيقِ الوَفِيِّ، شاءَ أَن يُغنِيَ رَصِيعَتَهُ، ويَروِيَ غُلَّةَ القارِئِ السَّؤُولِ، فَأَلحَقَ بِما دَبَّجَ نَماذِجَ وَفِيرَةً، مُتَنَوِّعَةً، مُختارَةً بِدِقَّةٍ وذَوقٍ ومَعرِفَةٍ، مِن نِتاجِ السَّالِمِيِّ الأَفيَحِ، فَبَلَّ بِقَرارِهِ الصَّائِبِ، وتَناغَمَ مَعَ رُوحِهِ النَّاقِدِ، وعَقلِهِ الأَكادِيمِيِّ الرَّصِين.

وفي النَّماذِجِ الَّتي أَورَدَها، مُتَخَيِّرًا ذَوَّاقَةً، نَقرَأُ جان سالمه أَدِيبًا استَسَنَّ لِنَفسِهِ أُسلُوبًا وَضِيحًا تَجانَبَ التَّعَمُّلَ والصَّنعَةَ المُسرِفَةَ، يَبلُغُ هَدَفَهُ مِن دُونِ زَيَغانٍ، غَنِيًّا بِالصُّوَرِ، فِيهِ مَسحَةٌ رَقِيقَةٌ مِن شاعِرِيَّةٍ شَفِيفَة. يَقُولُ في أَحَدِهِم: “أَلا عِشتَ بَعِيدًا عَنِ الإِسفافِ، طاهِرًا كَبَنَفسَجَةٍ مُتَواضِعَةٍ تَختَبِئُ بَينَ الأَوراقِ الخَضِلَةِ على ضِفَّةِ جَدوَلٍ زاهِدٍ يُصَلِّي… وتُعطِي عَبِيرَها، وسِيماها… ولا تُمَنِّن!” (ص 182).

الله! لَكَأَنِّي بِهِ يَصِفُ نَفسَهُ، صادِقًا، في هذا القَولِ الأَنِيس.

ونَقرَأُ، أَيضًا، مِن كِتابَتِهِ البَسِيطَةِ الرَّقِيقَةِ الرَّاقِيَة: “ومَن ذا الَّذي بِإِمكانِهِ أَن يَرتَقِيَ إِلى مَدرَجِ النُّجُومِ في رِحابِ شُرُفاتِ السَّماء؟!” (ص 275).

مُختَتَم

هذا الكِتابُ مَشغُولٌ بِالحُبِّ مِن رَجُلٍ صَنْعِ اليَدَينِ، غَمْرٍ، بَعِيدِ المَرامِي، عَن رَجُلٍ نَذَرَ المَسِيرَةَ الطَّوِيلَةَ لِلقَلَمِ وشُؤُونِهِ وشُجُونِهِ فَبَدُعَ فِيها، واجتَزَأَ مِن أَنعُمِ عَيشِهِ لِيَحتَفِيَ بِالمُبدِعِينَ مِن وَطَنِهِ، نافِحًا أَفنانَهُمُ العَطاشَى بِنَدًى مُنعِشٍ يَومَ العُمرُ في المُنقَلَبِ الأَمَرِّ، فَكانَت “جائِزَةُ جان سالمه” وَشْلًا مُبارَكًا في قَيْظِ وَطَنِنا المَكدُود.

فَيا صَدِيقَيَّ!

وقد هَصَرَتنا غَيَّةُ الأَدَبِ، سَأَحمِلُ سِفرَيكُما حَيثُ تَصادَى قَلَماكُما، هذا الَّذي تَضُمُّ دَفَّتاهُ رَفِيفَكُما، بِالأَهدابِ الحَرَّى والمُهجَةِ الوَلهَى، وأَحضُنُهُ في الجَوانِحِ النَّدِيَّةِ، شَمِيمًا لِقَحْطٍ قابِلٍ مَعَ العُمْرِ المُدْبِر. فأَنا وَجَدتُ بِكُما إِذ وَجَدتُ فِيكُما نُجْعَةً لِتَوقِيَ اللَّهُوفِ في أَيَّامِ اليَبَسِ الَّتِي تَحُوقُ بِنا.

أَدامَ اللهُ مِدادَكُما غَيْثًا مُنعِشًا في واحاتِنا، لِتَبقَى الأَكمامُ نَضِرَةً، والعَسالِيجُ لِدانًا لِمَواسِمِ العَطاء!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* إِيمِيلِي برُونتِي (Emily Brontë): رِوائِيَّةٌ  إِنكلِيزِيَّةٌ (1818 – 1848). رِوايَتُها الوَحِيدَةُ “مُرتَفَعاتُ وِيذْرِنغ” (Wuthering Heights)، صَدَرَت في العامِ 1847، تَبدَأُ بِحُلمٍ وشَبَحٍ يَكُونانِ مِفتاحًا

اترك رد