تنازع البطولة في قصة (هروب وردي) للقاص نور الدين لعراجي

        

هروب وردي 

خيم الصمت على بابها، لم تسعها نوافذ السماء فرارا من عينيه ، أومأت لروحها كي تفر بجلدها دون انتظاره..على حافة أهدابها، حاول التعلق بلونها البرتقالي، تسلق أهدابها مرة أخرى ، أسقطته عيون المكان.. (انتهت).

(هروب) نصف عنوان شفّاف، يقول الكثير، ولكنه لا يشي بأحداث القصة خشية أن يقتلها، رغم تدخل صفة اللون (وردي) التي تطرح نفسها كالاستعانة بصديق، لكنها لا تزيد إلا في إطماع القارئ في التجسس على النص قبل الأوان، غير أنها تبقى دون جدوى، و تكتفي بإدخاله عالم المتعة والارتيابات منذ العتبة، وهذه الميزة هي إحدى نقاط الارتكاز القوية لفن ق ق ج .

من المعلوم أن الهروب عادة ما يكون من نصيب المغلوب و قدره، و بما أنه نادرا ما تجد امرأة مغلوبة في مجال العواطف، فقد وصفه بالوردي ليلمّعه و يذهب عنه صبغة المهانة و المذلة، و يكون بذلك قد هيأ فكر القارئ لتقبل هذا النوع الجميل من الانهزام. ولا يخفى ما لصفة الوردي من جمالية و عبق، فهو في الشكل هروب، وفي الأصل تحرف لقتال و تحيّز إلى عواطف معينة، قل هو هروب بنكهة الإقبال و الهجوم.

(الهروب الوردي) عبارة تصلح أن تكون عنوانا أسطوريا مثل عبارة (استسلام الشجعان) تعبير موفق إلى أبعد حد، ففي حالات كثيرة يكون الهروب فضيلة، ألم يقل الشاعر أحمد شوقي؟

شر المنازل للفتى ما ليس ينفع أو يضر إن الشجاع إن رأى خطرا يحيط به يفر.

نور الدين لعراجي

تبدأ القصة بنغمة حزينة هادئة، و تنتهي كذلك، لا وقت لعواطف حادة كالعشق أو الكره أو السخرية، فالحادثة تمر بسرعة ولا تدع وقتا لارتسام أي انفعال،على الرغم من أنه عندما يخيم الصمت على فمها، فهذا يعني أن ثورة جامحة تتحرك داخلها، ولكن هذه العاصفة لا نراها ،بل لسنا متأكدين منها لأننا أمام كائن بارع في التمثيل، وهذا التمثيل فطري بطبيعة خلقته ،لذلك كان من المنطقي أن لا يظهر لنا في الصورة سوى هذا الهروب إلى النوافذ تماما كما البحر كثيرا ما تخالف حالة شواطئه وسطه وأعماقه ،هذه الثورة لم تسعها نوافذ السماء ،و لم تستطع أن تنفذ من أقطار هذه الآمال، وهذه الأفكار، لأنها لم تستعمل سلطان الإرادة الحقيقية، إنهن يدبرن وهن المقبلات. إن هذا التلبس بهذه الحالة هو أمر مؤقت، فهو الصمت الذي يسبق العاصفة، لولا العيون التي أنقذت الموقف.

لقد وصل بها الأمر إلى درجة لم تعد فيه قادرة على النطق و الأمر، الإيماء هو لغتها الآن، عندما تستقيل الكلمات من وظيفها، تأتي الإشارات لتسعف الموقف ،ثم تفر بجلدها ،تهرب بالذات البشرية، و بقشرتها التي هي مرآة الحس، لكن روحها تبقى أسيرة .

كثيرا ما تتحايل المرأة في هروبها، لماذا لم تهرب من الباب ؟ ما تركته، وتعللت بالنوافذ الصغيرة التي لم يسعها إلا تحججا، إنها دائما تريد أن تركن نفسها في زاوية لتوهم الطرف الآخر أنها محاصرة، و ما إن يقبل حتى يجد منها بأسا شديدا و كيدا عظيما .

لم تسعها نوافذ السموات، ما علاقة النساء بالأبواب و النوافذ؟ فقد لجأت التي هو بيتها إلى تغليق الأبواب، و هذه تلجأ إلى النوافذ. و لعل النوافذ هنا، قد تعني المواعظ والإشارات التحذيرية اللدنية، على غرار (برهان ربه)، لم ينقذها رؤية برهان ربها، و لكن أنقذتها براهين المجتمع .

تطالعك في القصة ثلاث شخصيات؛ (هي) البطلة، و(هو)، ثم فجأة (عيون المكان) التي تؤدي دورها الفاصل والناجع دون أن يتم الإخبار عنها مسبقا، والغلبة تكون لها، وهذا لا يعني أنها تفتك دور البطولة، و لكنها تتحالف مع المرأة، فتستقوي بها. ولا نستغرب من هذه النهاية ففي الكثير من الأحيان يكون الفوز من نصيب عنصر غير محسوب في معادلة اللعبة .

لم يبرز الرجل في أول ظهور له في صورة تؤهله ليكون بطلا، وإنما تجلى ضميرا في كلمتي (عينيه) و(انتظاره)، ثم كمحاول، و لم تأت محاولته في أن يتعلق على صيغة الفعل، و إنما جاءت على صيغة الاسم (التعلق)، الأمر الذي ينقص من حيويته ،وبالتالي من التأثير على الطرف الآخر،  و التعلق عموما هو ارتباط بالغير، و احتياج إليه، ترى لو بدا مبارزا أو متحديا أو ماكرا، كيف سيكون تماسكها؟ ألا ترى أنه ذكاء منه اختار موقفا يميل إلى طبيعتها، مما مكّنه من مغالبتها، لذا حاول مرة ثانية تسلق أهدابها، من المحتمل أنه استعان بألفاظ غزلية أو إشارات، و لكن تدخلت عيون المكان لصالحها، فرجحت الكفة. وفرارها منه رغم ضعفه هو في حد ذاته يشي بضعف الجميع ،فما هم ـ بما فيهم عيون المكان ـ سوى لعبة طيعة في يد الحب..

إن مركز الأحداث هو هذا اللقاء، و هو مسرح القصة وعمرها الفني، ولكن الجو التأثيري له عمر طويل، الأمر الذي يوحي بأن ما حدث غطى مدة زمنية معتبرة، أوحى بهذه الإطالة الصمت، نوافذ السماء، التسلق، والسقوط كل هذه المُدخلات أنتجت لنا انطباعا بطول الزمن وامتداده، والإحساس أيضا بأن السقوط ما زال جاريا إلى حد الآن ..

وأعتقد أن الكاتب تعاطف مع هذا الدنجوان في صياغة العنوان، فنقش صورة الهروب الوردي الموعز إلى الأنثى، ولم ينحت السقوط الموعز إلى الرجل كعنوان، رغم أن السقوط هو الذي يُحدث صوتا مدويا و يصلح أن يكون خبرا ناجحا، و الأحداث السيئة هي غالبا التي تسترعي اهتمام القرّاء، ربما له مبرر في ذلك، و هو أن سبب السقوط لم يكن بسبب قوة بطلة القصة، لكن بسبب الرقابة الاجتماعية، و يعزز هذا الادعاء أنه لم ينسب إليه السقوط من في صياغة الفعل، وإنما أسقطته أشياء خارجة عن قوته الذاتية و تأثره العاطفي، كما لم يكس هذا السقوط بلون ،فأنا أستبعد أن يكون سقوطا أسود، و إنما من المرجح أن يتأثر هذا السقوط بلون الأهداب ، فيكون برتقاليا. ولقد جاءت هذه القفلة مفاجئة لما فيها من تدخل عنصر خارج بداية مسرح الأحداث لينهي سيرورتها و صراعاتها المكتومة.

من اللافت أن يستعمل الكاتب الأفعال الماضية في ق ق ج تريد أن تقنص لقطة حرجة لكائنين يمران بلقاء خاطف لا يسفر عن نتيجة راجحة،قد يكون مرد ذلك أنه يريد أن يوصل أن مثل هذه اللقاءات متكررة الحدوث و محسومة النتيجة، وقد نفهم منها أن الكتابة شرعت على أنقاض حادثة أصبحت أطلالا.

كما يميل الكاتب إلى استعمال الجمل المثبتة الذي يوحي أنه لا صراع بين الشخصيات، و لا تفاعل، الكل يمضي في طريقه، لا تقاطع ، فهي تحاول الفرار وهو يحاول التسلق، العيون تُسقط دون أن تريد أن تتفهم أيا منهما، فهي تحكم بحكمها الذي ربما يكون في قساوته أشد على الأنثى منه على الرجل ،و لم ترد جملة منفية إلا في سياقها الاضطراري ..

يكثر من نقاط الحذف ليترك مجال المشاركة مع القارئ ليملأ الفراغ بما يناسب، يوظف جملا قصيرة ليوحي بضيق الأنفاس في تلك اللحظة، كما يعتمد الفواصل حتى لا يقطع بالنقاط وعلامات الترقيم الأخرى بين العواطف المشتركة للشخصيتين البارزتين في القصة (هي) و (هو)و التي قد تبدو لغير الراسخ أنها متناقضة .و لئن لم يُدر حوارا بين شخصياتها ، فلقد بينها حديث أخرس مكتوم يعتمد على الإيماءات، و على أفعال يفهما كل طرف على أنها رد لموقف معين .

أعطى للون أهمية قصوى استعمله مرتين (وردي ) (البرتقالي)، بل ذهب إلى أبعد من ذلك هو ذكر كلمة اللون، أي نحن أمام ذكر للون ثلاث مرات .و هذه دعوة للنقاد إلى دراسة ظاهرة الألوان عند القاص نور الدين لعراجي .

شئنا أم أبينا هناك تناص بين القصة و بين الآية القرآنية (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ)، قل عنه تناص مكتوم، غير مقصود، أو ما شئت من التسميات الفنية المتاحة، فهو أمام خلد الكاتب أثناء صياغته قصته.

اترك رد