ما تبقى من اشتعال الذات في خريف عربي أتى على الأخضر واليابس
سليمة مليزي : جذورها عريقة، صحفية وشاعرة جزائرية تكتب للأطفال قصصا وللكبار قصائد، تحصلت على العديد من الجوائز الأوسمة والتكريمات، ترجمت لها مجموعة من القصائد الى اللغة الكردية والاسبانية، كرمت في جانفي / يانير 2017 بشهادة الدكتوراه الفخرية ووسام التقدير والاحترام للعام 2017 من المركز الثقافي الالماني الدولي بيروت لبنان، تعمل حاليا مسؤولة النشر في دار النشر القرن الواحد والعشرين للنشر والتوزيع للأديب والروائي الصحفي الكبير عبد العزيز غرمول . من دواوينها الشعرية ” رماد الروح ” و ” نبضٌ من وتر الذاكرة ” ، وعلى هامش صدور ديوانها ( على حافة القلب ) ، كان لنا معها هذا الحوار :
سليمة مليزي، إنسانة وشاعرة جزائرية، أية مقارنة ؟
لا مقارنة بين ما يسكن في القلب، وبين جزائريتي، وما أبوح به لهذا العالم المليء بالتناقضات.. الكتابة التي تسكنني بدون إذن ولا جواز سفر ولا تأشيرة أريدها تحدي من أجل قوة لا تقهرها الظرف.. للوطن قلب يسع الكون، وللكتابة فكر يحمل ثقل هذا الكون، وكلاهما تضحيات كبيرة ووجهة واحدة للنجاح .
نصك الأول ، فاتحة مجدك الإبداعي ، هل مازلت تذكرينه؟
نصوصي الأولى أكثر جرأة من التي كتبتها بعد هذا العمر الطويل، لاتزال في دفتري الوردي الجميل، نشرتُ منها أربع قصائد فقط في بداية ثمانينيات القرن الماضي في { النادي الأدبي } بجريدة “الجمهورية” و”جريدة الشعب”، أخجل منها حين اقرأها الآن، إذ أشعر أن من كتبتها لم تكن مراهقة تخفي عشقها الأول، بل سيدة ناضجة تحدت حدود التمرد بكل نباهة وتبصر ولكون تلك القصائد كانت قصائد جريئة جداً، وأشكر الشاعر الكبير “نزار قباني” والروائية الكبيرة “غادة السمان” لأنهما علماني الجرأة في الكتابة، ولأنهما تركاني أجتاز فكرة وعقدة ضعف الأنثى فيّ .
كان ” تشيكوف” يكتب علی حافة النافذة؛ و”تولستوي” من عادته الصباح ، و”سليمة مليزي ” أين ومتی تكتب قصائدها؟
طقوس الكتابة عندي ليس لها مواعيد معينة، فهي تأتي بدون استئذان، فقد تأتي في حلكة الليل، عندما يخاصمني النوم من أجل فكرة تجتاحني، أو تأتي مع هدوء الفجر، إذ هناك قصص سميتها قصص الفجر، وما أروع الكتابة مع نسيم الفجر العذري.. أجهزتي الحديثة التي تختلط مع رائحة الطبخ وأنا أعد العشاء، أو قهوة الصباح، هو”الآي باد” الذي يرافقني أينما كنت، تجدني أخربش نبضي الذي يرافقني.. أجمل مكان للكتابة هو حديقة بيتي الصغيرة، التي تلهمني الفرح والحياة، حيث تولد القصيدة هناك بين أغصان الاشجار وعبق الورد، وأنا أقود سيارتي تحت وطأة الزحام وضجيج المدية، أتوقف وأدون كل ما يؤلمني من منظر ما في الشارع، وكذا كل ما يثير اهتمامي.. تؤلمني الأحداث التي يمر منها العالم العربي، ومن أكثر الحالات حزناَ استفزازا لي، الأديب بإمكانه أن يؤرخ حقبة معينة من زمانه، أفضل من المؤرخ لأنه يكتب بإحساس وصدق، فينقل المشهد على حقيقته حتى لا يخون التاريخ.
لو لم يعد بإمكانك الكتابة والرسم.. وحتمت عليك الظروف ذلك.. فما الذي تفعلينه؟
الكتابة سحر روحاني يتملكنا في أي لحظة، والمبدع كالسمكة لو تخلى عن بحر الإبداع سيموت.. ربما هذه الظروف التي تريد أن تحتم علي بعدم الكتابة، بل ستزيد فيّ الحنين أكثر للإبداع.. كل حالات الوجع والفرح والحزن والتفاؤل في الحياة تمنحنا الإبداع أكثر، الأديب الذي لا تزعزعه الظروف سواءً كانت حزينة أم سعيدة، لا يمكنه أن يكون مبدعاَ..
“نبض من وتر الذاكرة” و”على حافة القلب”؟ من أي ورشة أتيت بهذه العناوين المركزية ؟
الورشة التي استلهمتني هذه العناوين، هي ورشة عمر لا يقاس بمرور السنين، لكنه يقاس بما تعلمت منه شقاء الروح وتمردي على كل الطقوس.. عمر أثقلته الجراح ومتاعب الحياة، وثقوب سوداء تعثرت فيها وأنا أكافح الدروب الوعرة التي مررت بها، لكنني صمدت في وجه الأعاصير، من أجل أن أبحث عن ثغرة مجد، سيسطر لي التحدي يوم يحاسبني قلمي، على ما سطرته أفكاري للوقوف على هضبة النجاح رغم كل هذه الرحلة المعقدة، إلا أنني مازلت أبحث عن مرفأ لترسو عليه قواربي الخشبية، التي أنهكتها البحار في نفسي المتمردة على كل طقوس الحياة …
رماد الروح : الروح التي تبقى هائمة وتتعلم من الحياة الاستقرار، أما الرماد فهو فتيل القلب الذي لا يهدأ أبداً ..
(نبضٌ من وتر الذاكرة ) هو ما اختزلته السنون وغمدته كسيف حاد في قلبي، حتى لا تخونني الذاكرة يوماٌ.. بعد غيابي 23 سنة عن عالم الإبداع والصحافة، النبض الذي لا يفارق قلبي، أشواقي الدفينة، هو رهاني للبقاء والاستمرار في الإبداع، الوتر الذي عزفته الحياة على ذاكرتي، فأنجبت قصائد للحب وللحب أيضاً، حتى نصنع وطناً دافئاَ بالحنين وجيلا يتعلم لغة وأبجديات الحب..
على “حافة القلب” ما فاض من القلب سطرته هناك على حافة القلب، ويبقى ما في القلب بوحٌ أصنع منه منارة دروبي نحو المستقبل.
يكتب الشاعر المغربي “إدريس زايد” أنك، تلتقطين في رماد الروح وجع المسافات حنينا لأزمة الحب حيث تشتعل فوانيسها ماتعليقك ؟
ما تبقى من اشتعال الذات في خريف عربي أتى على الأخضر واليابس.. ما تبقى من رماد فينا حرقته التحولات الفكرية والذهنية التي طرأت على أفكار العرب، من أجل الهروب إلى الهاوية أو الانتحار، فكلاهما مرٌ، رماد الروح هو فعلا وجع المسافات القليلة البعيدة، كالسراب نحو الأمل والحب، كي يعيد الرماد استنساخ نفسه كشعلة من نور، وفوانيس الدروب المكللة بالانتصار.
تكتبين القصيدة، وقصصا للأطفال، ولك تمارين نقدية ، فأين تبنين خيمتك وتستريحين؟
أنا أحمل خيمتي على كتفي، وقلمي الذي ينزف بحبر القلب، وأوتادي هي قوافي المنتشرة على الروابي المنهكة من جفاء السنين.. قصص الأطفال قضيتي الجوهرية من أجل إثراء المكتبة العربية، وإصلاح المنظومة التربوية التي تفتقر كثيرا الى التربية الفكرية والذهنية للطفل، أو ربما حنينٌ لطفولتي التي عشتها في قريتي الجميلة، أشتهي التحليق في الكتب وأغوص في جمالياتها، كلما ما قرأت كتابا أعجبت به، إلا وتجدني أكتب فيه وهذه تعتبر هواية أكثر منها مهنة، لأنني لست من أهل الاختصاص في النقد الأدبي، وإنما مهنتي كصحافية تقودني الى هذا العالم، القصة القصيرة كتبتها وأنا في العشرين، أي أتت بعد الشعر لكنها طغت عليه، وفزت بالعديد من الجوائز في ثمانينيات القرن الماضي، وأنا في بداية طريقي الإبداعي.. مازلت أبحث عن ذاتي بين هذه الفنون الابداعية المتنوعة.. ومنذ سنتين أخذت تجربة القصة الومضة وفزت بالعديد من الجوائز العربية، وعينت في لجنة القراءة في مسابقة القصة الومضة في رابطة القصة الومضة، تحت إشراف الإديب والقاص “مجدي شلبي” من مصر وهي تنشط على أرض الواقع، وأيضا قصيدة “الهايكو” سأطبع ديوان لمجموعة من القصائد الفائزة بوسام التميز من رابطة “الهايكو العربي”.
لو دخلنا عوالم ديوانك الأخير، فما الذي نجده على حافة قلبك وقلب قصائدك؟
(بوح على حافة القلب) هكذا عنونت الديوان ولما سلمته للروائي الكبير الصديق الدكتور “واسيني الأعرج” من أجل كتابة المقدمة، فاقترح علي أن أحذف بوح، ليبقى العنوان أكثر جاذبية وإثارة وتساؤلا بالنسبة للقراء.. المقدمة التي طبعاٌ أضافت للديوان ولمساري الإبداعي تحفة أدبية رائعة جداً، وأيضا مهد وقرأ بعمق الأديب المخضرم والروائي “واسيني الأعرج” ما يخبئه القلب من أسرار وخبايا يصعب حتى على الكاتب معرفتها، أو فكّ شفرته، و ما باح به القلب لهذه الحياة وما لم يبح به بعد..
على حافة القلب هي قصائد للحب وللحب أيضاً، وللجرح العربي الذي ما زال ينزف.. للحزن.. للمرأة التي تسكنني.. المرأة التي عانت ولا تزال تعاني من تهميش وويلات مجتمع رجولي كسر في نفسها أجنحة البوح.. لمساري الإبداعي الذي ما زلت أبحث عن مرفأ ترسو عليه افكاري المشتتة.. أحلامي المؤجلة إخماد نار أوقدتها الكلمات فيّ وهي في صراع بين الجنة والنار.. بين اليقظة والحلم.. بين التحدي والاستسلام لأفكار أرهقتني حد الجنون.. مزقت فيّ الانثى التي استضعفها المجتمع وهي تفيض قوة، الفكر الذي لا يهاب العراقيل ولا الخمول … بوحُ تحدى كل الصعاب من أجل متعة الشعر، هذا الذي يسكنني حد الهذيان.. وحد القوة التي تستضعفني كلما فكرت أنني أنثى، ويجب أن أقوى أكثر بهذا الفكر والإبداع .
وهل تعتقدين أن النقاد الجزائريين وفَّوا تجربتك الشعرية حقها من النقد والاهتمام؟..
القليل منهم فقط من اهتموا بما أكتب ، لكن أقولها بكل فخر: انا حظي مع النقاد العرب الذين اهتموا بأعمالي الابداعية وخاصة الشعر، حظيت بما يقارب 5 قراءات أدبية في ديواني الجديد {على حافة القلب}، وهناك العديد من القراءة في أعمالي الأولى ، نشرت بعض القراءة الأدبية للشاعر الكبير والناقد العراقي الاستاذ “ناصر ناظم القريشي” في مجموعة من القصائد وديواني الثاني {نبضُ من وتر الذاكرة} ونشرت في كتاب طبع هذه السنة 2017 عنوانه “لاالعين الثلاثة” وهو عبارة على العديد من القراءات من تأليف الشاعر” ناصر ناظم القريشي” وحضيّ ديواني {على حافة القلب} بقراءات من دكاترة وأستاذة جامعيين ونقاد من العراق واليمن والمغرب الشقيق، وهذا ما حفزني وزادني تحديا وإسرارا لمواصلة فعل الكتابة من أجل النجاح.. النقد في الجزائر نستطيع أن نقول: بدأ يأخذ مجراه الأدبي والفني ، مقارنة بالماضي حيث كان النقاد يجرحون بالسكاكين الأديب ولا يتركون عظماً فيه الإ وهشموه، لكنهم تعلموا من المشارقة أن النقد فن وأدب، وأنه يساعد على تعريف الأديب من خلال أعماله الأدبية للقارئ ، ربما أكثر من المبدع في حد ذاته .
كثرت في الآونة الأخيرة كتابة ” الهايكو” فماذا عن الإضافات التي يشكلها هذا الصنف من الإبداع والكتابة ؟
قصيدة ” الهايكو” التي ربما الكثير لا يعرف تاريخها العريق، والبعيد كونها ظهرت في اليابان، وبعدها انتقلت إلى أوربا في بداية ثمانينيات القرن الماضي، هي والقصة الومضة.. وها هي اليوم تنتشر بين الأدباء العرب، وطبعا لاقت اهتماما كبيرا من طرفهم ، يعتبر” بانيا ناتسويشي” أحد أبرز الشعراء اليابانيين المعاصرين ، ما بعد الحرب العالمية الثانية ، الذين يشتغلون على تجديد شعر “الهايكو” الياباني العريق، وتحريره من العوائق التي تهدّد نضارته وقابليته للتجدد والانفتاح… يمنح الشاعر بانيا من مختلف الروافد التي يمكن أن يستلهم منها أي شاعر حداثي مادة شعره بدءا من اختبارات التجربة الذاتية إلى آداب الثقافات، وأساطير الشعوب، ومدارس الشعر الحديثة، وغيرها من لوازم اشتغاله اللغوي والتخييلي… قصيدة الهايكو هي بمثابة منهج تعليمي يجب علينا أن ندرسه دراسة عميقة حتى نتقن هذا الفن المختصر، الذي لا تتعدى القصيدة 3 أسطر ، حيث تتطلب القصيدة الحس الإبداعي وتكثيف المعنى والمغزى للقصيدة..
تجربتي مع هذا الصنف من الإبداع بذاتها منذ 2014 بكتابة القصة الومضة أولاٌ، والقصة الومضة أكثر تعقيدا، حيث يجب أن تحتوي على تقريب العنوان الذي يرمز لدلالة المعنى والمدخل الذي يحتوي على كلمتني وهو المغزى الأقوى للقصة والفاصلة والخاتمة طبعا في البداية كوني كتبت القصة القصيرة الكلاسيكية التي طبعا تحتوي على متعة القراءة والسرد والتوغل في الحكاية.. كنت رافضة لهذه الفكرة أن تختصر القصة في سطر واحد وخشيت كثيرا على اندثار القصة الكلاسيكية التي تمتعنا بالولوج في أحداثها وطبعا التي تعرف برواية مصغرة ، أو هي من تمهد الكاتب لكي يكتب الرواية، لكن بعد الثورة التي أحدثتها القصة الومضة أردت أن أدخل هذا العالم، فرضيت بها وكتبتها، والحمد لله فزت بعدة جوائز في مسابقة القصة الومضة من مصر والعالم العربي، وعينت لمدة سنتين في لجنة التحكيم لمسابقة القصة الومضة تحت إشراف الكاتب والروائي “مجدي شلبي ” من مصر، وطبعا يعتبر من بين رواد هذا الفن في العالم العربي ، ومنذ سنتين أيضا أخذت تجربة قصيدة “الهايكو ” وأنشر في مجموعة نادي “الهايكو العربي ” تحت إشراف الأديب “محمود الرجبي” وهو أديب ناشط جدا، حيث طبع العديد من المجلات والدواوين الإلكترونية وحتى الورقية، في هذا النوع من جماليات قصيدة “الهايكو” وكان لي الحظ أنني فزت بالعديد من الأوسمة الذهبية من خلال ما نشرته من قصائد “الهايكو”، ولي ديوان جاهز للطبع في هذا النوع من الإبداع .
هل كتبت سليمة مليزي قصيدتها المشتهاة..؟
القصيدة المشتهاة هي التي تسكننا ولا تفارقنا مدى الحياة، في كل مرة نكتبها نقول لا ليست هي، ونبقى نبحث عنها بين طيات أفكارنا وذاكرتنا حتى ولو عشناها، القصيدة “المشتهاة” هي نداء الروح العميقة التي لا تؤججه إلا الكتابة ، فهي تمنحنا الحياة للبقاء على ناصية الفرح، كلما ضاقت بنا سبل الدنيا، نبحث عنها بين طيات الحروف، ربما كتبتها …. لكنني أبقى أبحث عنها حتى لا أضيع بوصلة الفرح في حروفي.
*****
(*) جريدة “رأي اليوم” 23 أغسطس 2017.