بقلم: هدى عيد
وددتُ لو حملت مسرحية لينا خوري “مجنون يحكي” التي تُعرض على خشبة مسرح المدينة هذا العنوان “أوركسترا تحكي”، لبدا لي الأمر عندها أكثر ملاءمةً وانسجاماً مع المشهد المسرحيّ المطوّل الذي تمّ تقديمه. وأسمح لنفسي بتسمية ما شاهدت مشهداً لأني شعرت أني لم أرتوِ ، وكذاك شأن الجمهور الذي لم يصدق أنّ العرض قد انتهى حقّاً،ولم أُشبع شغفي المسرحي عبر النصّ القصير الذي تمّ عرضه.
ديكور بسيط موحٍ تمّ توظيفه، يظهر عبر مساحته المحدودة التداخل واضحاً بين الفواصل المسرحية السريعة المعروضة، والتي يتم الفصل بينها عملياً بواسطة لعبة الضوء والإنارة، تُسلّط على الكوبل الذي يدير المونولوج الجاري في اللحظة المقرّرة المعلمة ونونو، ناهدة نون ونهاد نون، الطبيب والمريض…
احتلت الفرقة الموسيقية بقيادة الفنان أسامة الخطيب ما يقارب نصف مساحة المسرح عمقاً وطولاً بلونين صائتين استطاعا أن يعكسا توهّج الحضور من جهة (البرتقالي)، وعمق المأساة وظلاميتها ( الأسود) من جهة أخرى، وتمكنت بالموسيقى الجميلة المدروسة التي تمّ تقديمها بأناة وبتوقيع دقيق متناغم مع البعد الرمزي للعمل (تآلف المتعدد المأمور في إنتاجه النغمية الأحادية، وأحياناً… المختلفة)، من أن تكون ممثلاً معنوياً يتجاوز مجرد تقديم موسيقى تصويرية حية للمَشاهد.
في مقدمة المسرح يقف الممثلون ويتحرّكون، وفقاً للأدوار التي أعطيت لهم، مع كل كلمة ينطق بها المجنون نهاد نون، ينطلق العزف بحرارة أو بانسياب شفيف، أو بتهكم صارخ ( صوت البزق) يتقاطعُ مع التوتر الذهاني الذي يغرق في حمأته المجنون كصدىً لا يتوقف للصوت الواحد المتناغم بالقوة ، والذي عاشه جراء ظلم الأنظمة، فانقلب داخل رأسه ما يستطيع تحرراً من أنغامه… دخول العنصر الأنثوي الممسوخ، ناهدة نون الصحافية التي قُصَّ شعرها إلزاماً لها بذكورة غريبة عنها، يفضح الوضع، يصر أنها عازفة موسيقى، نغمة ضمن منظومة النغم الملزم للجميع، فترفض صارخةً متنمّرة… على هذا التضاد يدور الحوار الثنائي، إقناعٌ باللاحقيقي من قبله لها، ورفضٌ لقلب الواقع من قبلها هي، الجدلية عينها ستقع بينها وبين الطبيب المعالج (زياد الرحباني) الذي لا يتقصى، لا يسأل ، لا يستفسر، ينطلق من المُعطى المنتهي إليه يبني عليه حواره السريع معها، حوارٌ يبقى على السطح عائماً… إذ كان يمكن لمثل هكذا نص أن يكون أكثر سبكاً لحواراته المبتسرة،وأكثر غوصاً في أرض الألم التي يحاول أن يبني عليها النص، فسريعاً يصل الطبيب إلى الإعلان عن اقتناعه بجنون ناهدة ، فلا تتاح للحوار فرصته الحقيقية للتأزم قبل وصوله إلى لحظة الذروة .
هل نقول إنّ النصّ كان بحاجة إلأى تطبيع أكثر مهنية وأعلى ملاحظة؟ ثمّ ماذا عن الأدوار المكتوبة للممثلين؟ زياد الرحباني مثلا بدا حضوره خجولا ربما، إذ لم يستطع الحوار الذي تبّناه استيلاد طاقاته المسرحية المعروفة، والتي كنا نتوقعها منه بعد طول غياب… كأن خوري قد اتكأت على مجرد الإسم ليكون جواز عبور! فمع زياد لم نضحك هذه المرة عميقاً، ولم تجرّنا ندى أبو فرحات الى العمق التراجيدي المفترض في الختام ، وهي تسقط في جنونها النهائي….
سنسجل لغبريال يميّن إحساسه العالي بالدور المسند إليه، وولوجه إلى عمق الشخصية بيسر وطواعية ساعده عليها حسن توظيف الحركات الإيمائية التي صاحبت أداءه وحضوره الرشيق، الحيويّ، وقدرته على إحداث التناغم بينه وبين الممثلة ندى أبو فرحات، في لحظة العراك الدرامية التي خاضاها، والتي بدت أشبه بطلق مؤلم، والمخاض عينه سنقع عليه في المشهد الأخير من المسرحية، حينما تتحوّل ندى المايسترو نفسه، الذي يقود نغمية التطويع، وقد دخلت طور جنونها الفعلي، بعدما كانت الرافضة بتحدٍ واع له عند دخولها المصحة، مؤذنة بسقوطها ذاك بمصير أسودَ للوعي الفرديّ حين يحيا في مجتمع ظلامية الصوت الواحد.
ربما بدت مسرحية “مجنون يحكي” ولادة قيصرية تمّت قبل الأوان لحملٍ عزيز طال انتظاره، وتاقت إليه النفوس والعقول قبل …العيون.
1- ملصق المسرحية
2- -3- 4 مشاهد من “مجنون يحكي” ;