فَجْرٌ، وعَبِيرُ كَلِمات!

          (حَولَ كِتابِ “عَبِير الكَلِمات” لِلأَدِيبِ جُوزف مهَنَّا)

مُفتَتَح

لا يُقَدَّمُ الفَجرُ في رَوابِينا والكُرُومُ حَبالى، والتِّينُ يَقطُرُ شَهدًا، والطَّيرُ في حُمَّى الزَّقزَقاتِ، بل يُقَدَّمُ بَينَ راحاتِهِ حَيثُ النَّدَى، والشَّذا، والثِّمارُ العَسَل…

وهُوَ… إِمَّا انبَلَجَ، فَالمَدَى بُحَيراتُ لُجَينٍ، والأَنسامُ حَفِيفٌ مُنَدَّى الجَناحِ، والكائِناتُ مَلائِكُ تُرَنِّم…

نَحنُ، السَّاعَةَ، في قِرَى كاتِبٍ وكِتاب…

أَمَّا الأَوَّلُ فَمَعِينٌ طَيِّبُ التَّرشاف. أَدِيبٌ لَوذَعِيُّ الذِّهنِ، واقِدُ البَدِيهَةِ، ذَلِيقُ اللِّسانِ، باهِرُ الحُضُورِ، مُشرِقُ البَيانِ، مُبِينُ الحُجَّةِ، مُتَأَلِّقٌ في نِداءَاتِ المَنابِرِ، ونَقِيبٌ مُغرِسٌ بَندَهُ في أَرفَعِ المَحافِلِ وحِذاءَ أَعلَى المَقامات.

والثَّانِي، كِتابُنا اليَومَ، “عَبِيرُ الكَلِمات”، فَهُوَ فَجْرٌ لِلعَرَبِيَّةِ طالَت حُلكاتُها قَبلَ أَن يَبزُغ. وهُوَ تَجدِيدٌ في أَكسِيَتِها، صِياغَةً، مَتانَةً، جِدَّةً، تَنَوُّعًا، أَصالَةً، جَمالِيَّةً ومَضامِينًا. فَهُنا صَباحَةُ البَيانِ سافِرَةٌ، والحَنايا تَشِيمُ النَّشَواتِ كَما يُشامُ الزَّهرُ مِن عَبِيرِه…

فَلنَتَقَدَّم إِلى رُكنِهِ الثَّرِّ غافِلِينَ عَن مَشاغِلِنا، فَلَدَى اللَّذاذَةِ تُتَناسَى الثَّوانِي…

                           ***

مِن مُشْرِفٍ يُطِلُّ صَدِيقُنا، وفي السُّفُوحِ والمَباسِط والمَحانِي جَلَبَةُ كِتابَةٍ، وضَوضاءُ كَتَبَةٍ، وصَحائِفُ باهِتَةٌ تَندَثِرُ حُرُوفُها في الشَّمسِ، وأَقلامٌ هَزْلَى، أَثلامُها خَربَشاتٌ في البَياضِ، ومِدادُها ناصِلُ الوُشُومِ، لا يَفُوحُ مِنهُ عَبِيرُ البَدْعِ، ولا تَتَلَأْلَأُ في سَوادِهِ كَواكِبُ، أَو تَسِيرُ بِمُطَرَّزاتِهِ رُكْبان. إِنَّها ساحَةُ الأَقلامِ، عَزَّت على أَدِيمِها الفَوارِسُ، والضُّمَّرُ العِتاق. نَزَلَها، شاكٌّ في السِّلاحِ، عَزِيمٌ على رَفعِ رايَةٍ طَأطَأَها تَسَهُّلٌ مِن هُنا، وإِسفافٌ مِن هُناكَ، وتَغاضٍ مِن هُنالِك. هُوَ القَلَمُ المِقدامُ، الدَّقِيقُ الحَدِّ، الَّذي “يُدلِي بِدَلوِه في كُلِّ مَقامٍ مِن مَقاماتِ الرَّأيِ” كَما عَبَّرَ، يَومًا، أَمِين نَخلَة.

وكَما الشَّجَرَةُ تُعرَفُ مِن ثِمارِها، يُتَعَرَّفُ إِليهِ في أَقصَرِ القَولِ أَنَّى وُجِدَ، فَمِيسَمُهُ خاصٌّ فَريدٌ، ولِمَزِيجِ أَلوانِهِ في جِدَّةِ تَراكِيبِهِ طابَعٌ لا يَخفَى، وغُصُونُهُ أَبَدًا وَرقاءُ، ولِرَحِيقِهِ نَكهَةٌ ما عَرَفَتها الخَوابِي، ولِعُذُوبَةِ نَمِيرِهِ سَلاسَةٌ قَلَّما جادَت بِها اليَنابِيع.

في مَدِّ الخَصاصَةِ والهُزالِ الَّذي يَحُوطُ بِمَرابِعِ العَرَبِيَّةِ، حَيثُ العُجْمَةُ والرَّطانَةُ باتَتا دُرْجَةً ومَدعاةَ افتِخارٍ ومُواكَبَةً لِلعَصرِ، والأَسقاطُ في رَوضَةِ الأَدَبِ تَتْرَى… نَتَلَمَّسُ مَنجاةً في كِتاباتِ هذا المُتَفَرِّدِ، ومَوكِبًا مِن عَطاءٍ بَهِيٍّ، وكَواكِبَ نَواصِعَ في لَيلٍ دَجَّ وطال.

وَإِذْ هالَهُ ما نَحنُ إِليهِ سائِرُونَ، وقد تَراخَتِ الأَقلامُ، وضَمَرَتِ الهِمَمُ، شَمَّرَ عَن ساعِدِهِ، وأَتلَعَ القَوامَ المَدِيدَ، وعَزَمَ الأَمرَ أَن يَستَخرِجَ مِنَ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ العَصِيَّةِ، الغَنيَّةِ، السَّخِيَّةِ، جَواهِرَ طَمَسَها النِّسيانُ لِقُرُونٍ طِوالٍ عِجافٍ، فَأَقحَمَ نَفسَهُ في مُغامَرَةٍ عَجَزَ عَنها كِبارٌ مَرُّوا، وَعَيَّ عَن بُلُوغِ قِبلَتِها كُثْرٌ مِنَ الطَّامِحِينَ، فَتَجَنَّبَ، بِحُنكَتِهِ وثَقافَتِهِ العَرِيضَةِ واطِّلاعِهِ الوافِي، مَزالِقَها الخَطِرَةَ، وعادَ، بَعدَ أَن أَفنَى الكَثِيرَ مِن ضِياءَاتِ أَيَّامِهِ، بِحَصادٍ ثَرٍّ وَفِيرٍ عَمَرَت بِهِ بَيادِرُهُ، فَتَحَلَّقَ حَولَهُ الذَّوَّاقَةُ، يَملَؤُونَ كُواراتِهِم مِن قَمْحِ الخَيرِ المُتَماوِجِ ذَهَبًا في الشَّمس.

فَلنَتَطَلَّعَنَّ إِلى حَصائِلِهِ، أَضامِيمِهِ الأَرِجَةِ، إِنْ هِيَ إِلَّا حَصادُ سِنِينَ، وأَسفارٌ في كَواكِبَ نَيِّراتٍ، وقِراءَةٌ وافِيَةٌ في مَعاضِلَ تَقُضُّ هَناءَةَ القَومِ، وَسَبْرٌ لِحَذاقَةِ رِجالٍ صُنُعِ الأَيدِي في حِرَفٍ أَرخَى العَصرُ عليها سُدُولَ النِّسيان.

أَتَمَثَّلُهُ مُنكَبًّا على المَراجِعِ العَرِيقَةِ في اللُّغَةِ، مُتَحَرِّيًا اللَّفظَةَ في مَظانِّها، مُستَولِدًا مِن رَحِمِها الخَصِبِ وِلْدَةَ حُسْنٍ “بِيْضًا كَالنُّجُومِ”(1)، قاصِبًا مِن أَرُومَتِها فَسائِلَ يُجَدِّدُ فيها حَياةَ الجِذْعِ العَتِيقِ الَّذي أَضنَتهُ الغُربَةُ عَن دِيارِهِ الأُولَى، ومُستَزِيدًا زَيتًا لِقَنادِيلِهِ وقد أَنهَكَها السَّهَرُ الطَّوِيلُ، مُجهِدًا جُفُونَهُ الثِّقالَ… وكُلُّ نَصَبٍ يَهُونُ كَرْمَى لِلوِلادَةِ المُشرِقَةِ، فَـــ”مَن خَطَبَ الحَسناءَ لَم يَغْلُها المَهْرُ”(2)، كَما يَقُولُ أَبُو فِراس الحَمَدانِيّ.

حَقًّا… إِنَّهُ مِن ضَمائِرِ العَرَبِيَّةِ المُتَوَقِّدَةِ في هذا الزَّمَنِ الأَربَدِ والأَيَّامِ النَّحِساتِ، ومِن سَدَنَةِ كَعبَتِها الوَقُور. فَليَحتَفِ بِهِ مَن تُسكِرُهُمُ المَفاخِرُ، ولنَقُلْ “لا حَوْلَ وَلا…” لِمَن تَرُوقُهُمُ المَساخِرُ، وحَسبُنا، مِنهُ، مَناراتٌ سَتَبقَى مُضِيئَةً ما بَقِيَ الدَّمُ سَخِينًا في عُرُوقِ مَن يُؤمِنُونَ بِالحَرف!

ما تَناوَلَ مَوضُوعَةً إِلَّا وأَحاطَ بِكُلِّ مَناحِيها، مُشِيرًا إِلى المَفاصِلِ الهامَّةِ بِإِيجازٍ يَمْرُقُ كَالسَّهمِ مِن رَميَتِهِ، فَلا نُكُوصَ ولا انحِرافَ ولا اضطِرابَ، بَل ثَباتٌ في التَّسدِيدِ، ودِقَّةٌ في الرُّؤيَة. وإِيجازُهُ مِنَ البَلاغَةِ أَنْ تَعجِزَ عَن وُضُوحِهِ مُطَوَّلاتٌ، فَلَفظَتُهُ حَمَّالَةٌ أَقصَى المَعانِي، مُحِيلَةٌ إِلى الآفاقِ الأَبعَد؛ وتَولِيفُ كَلِماتِهِ يَجعَلُ الفِقرَةَ كُتلَةً مُتَراصَّةً، مَحبُوكَةَ العَلائِقِ، يَعِزُّ فِيها حَذْفٌ أَوِ استِبدالٌ، ما رَهُفَ ودَقَّ. إِنَّهُ سِحرُ المُعْجِزِ، وبارِئُهُ أَصْيَدُ مِن أَئِمَّةِ النَّوابِغِ، ورُكنٌ مِن نادِيهِمُ الرَّاقِي الخالِد.

بَيانُهُ مُحكَمٌ، مَشدُودٌ كَأَوتارِ عُوْدٍ، شَجِيٌّ، دَفِيءٌ كَلُهاثِ الهَيْمَى، نَضِيْدٌ كَلَآلِئِ التِّيجان. وهُوَ صُلْبٌ كَجِذعِ سِندِيانَةٍ، مَلِيسٌ كَخَدِّ وَلِيد. يَقُولُ، في مَقالَةِ “في حَضرَةِ التِّمثال”: “ويا تِمثالُ، وأَنتُم مِنَّا حَيثُ قَد عَلِمتُمُ مِنَ المَحامِدِ، ورِفعَةِ المَقامِ، تَعتَرِينا قُشَعرِيرَةُ الإِكبارِ، ونَحنُ نَقِفُ بِبابِكُم خُشَّعًا، كَمَنِ انتَذَرَ على نَفسِهِ نَذْرًا فَأَثقَلَت خُطاهُ مَهابَةُ المَزار”.

لَقَد نَدَرَ الدَّارِبُونَ في سُبُلِهِ مِنَ القُصَّرِ الخائِرِي العَزائِمِ، فَهِيَ صَعبَةُ المَسالِكِ، مُوحِشَةُ الشِّعابِ، كَأداءُ المَراقِي، عَليهِم، يَرَوْنَها مُرْبَدَّةَ الجِواءِ، تَحُفُّ جَنَباتِها المُخَرِّشات. أَمَّا لِمَن جَرَى البَيانُ في نَجِيعِهِ، وأَصابَتهُ لَوْثَةُ اللُّغَةِ في صَمِيمِهِ فَنَذَرَ لِآلائِهَا صَفْوَ العُمرِ وصَفوَةَ الأَيَّامِ، وكانَ مِن سُمَّارِها وعُشَّاقِها الغَيُورِينَ، فَهِيَ مَسالِكُ في حُقُولٍ خُضْرٍ، عَمِيمَةِ الطَّيرِ، وَفِيرَةِ الكُرُومِ المُعَرَّشاتِ المُثقَلَةِ بِحُبُوبِ النَّشوَةِ، وهِيَ خَطَرانٌ في واحاتٍ فِيْحٍ، ومُرُوجٍ شَذِيَّة.

على أَنَّهُ، في سَعيِهِ الكَؤُودِ هذا، ما تَوَرَّكَ على وَحشِيٍّ مِنَ اللَّفظِ، غَلِيظِ الوَقعِ، ثَقِيلِ الجَرْسِ، وَضِيعِ المَعنَى. وما أُراهُ نازِعًا إِلَّا إِلى إِثراءِ المُتَداوَلِ في لُغَةٍ شامَ ضُمُورًا في تَخرِيجاتِها المُحدَثَةِ فَخَشِيَ أَن تَصِيرَ سِمَةً لَها على الأَيَّام.

وهُوَ، إِمَّا لَعِبَ لُعبَةَ الصِّنَاعَةِ، فَلا يَغرَقُ في آسِنِها ومَمجُوجِها، بل يُسبِغُ عَلَيها جِدَّةً وطَرافَةً ولَبُوسًا حَسَنًا، فَإِذا هي رَحِيقٌ لا يَنسَى زَوْرَتَهُ البال. يَقُولُ، في شَذْرَةٍ مِن “شُذُورِ حُبٍّ” دَبَّجَها بِرِيشَةِ هَزارٍ ودَمِ عُنقُودٍ، في جِناسٍ لَطِيفٍ شَجِيٍّ: “ما يَعظُمُنِي، إِنَّكِ حَجْرٌ عَلَيَّ، وأَنتِ تُقِيمِينَ مِنِّي في المَحاجِر”. وأَيضًا، مِنَ المَعِينِ عَينِهِ: “التِّمثالُ الرَّامِزُ إِلى مَملَكَةِ جَسَدِكِ، شَبُوبٌ لِكَلِماتِي، يَفتَحُ عَلَيَّ بِالنَّغَمِ، فَتَشُبُّ نَارِي، ويَطلُعُ خَيرٌ كَثِير”.

رِئاسِيَّاتٌ ووَطَنِيَّات

في “رِئَاسِيَّاتِهِ”، أَنتَ مَعَ فارِسٍ مِن صُرُودِنا العَصِيَّةِ، لا يَخذُلُ عَن قَومِهِ “إِذا بَدا رَهْجُ السَّنابِكِ والرِّماحُ دَوانِي” كَما قالَ مَروانُ بنُ أَبِي حَفْصَة. وهُوَ نَذَرَ على نَفسِهِ الأَغلى لِلذَّودِ عَن جَبَلِنا يَومَ أَلَمَّت بِهِ كُلُّ هامَّةٍ ولامَّة. فَهَل لَكَ أَن تَشِيمَ في صَحِيفَتِهِ إِلَّا صَيحاتِ الكُماةِ، وتَصهالَ الجِياد؟!

ثُمَّ أَلَيسَ، في ما سَطَرَ، إِلَّا جِراحَنا تَنِزُّ على بَنانِهِ، ولُهاثَنا الضَّنِينَ على “مَرقَدِ العَنزَةِ”، يَخرُجُ مِن شَقِّ قَلَمِهِ سِمامًا تَلفَحُ الوُجُوهَ الصَّفِيقَةَ، وتَدرَأُ كُلَّ فَرِّيسِيٍّ عَقُوقٍ عَن جَسَدِ الأُلُوهَةِ، وكُلَّ صائِدٍ في مَقادِسِ الوَطَن؟! وهُوَ لَيسَ بِبَكَّاءٍ، ولا بِنادِبٍ على أَطلَال. إِنَّهُ سَيفٌ سَنِينٌ لا يَنِي عَن قَطعِ الدُّمَّلِ وحَزِّ رَأسِ الأَفعَى، وصَوتٌ جَهِيرٌ في بَرِّيَّةِ الوَطَنِ، لا يَهابُ قَولَةَ الحَقِّ، بَل يَصفِقُ وَجهَ الطَّاغُوتِ ولَو تَكَلَّفَ المَشَقَّات.

يَقُولُ، في مَقالَةِ “مِن عُرسِ أَرنُونَ…”، مُخاطِبًا رَئِيسَ البِلادِ: “العَهدَ العَهدَ، يا مُوَطَّأَ الأَكنافِ، فَإِن لَم تَسنُد بِالمَسامِيكِ الصُّلبَةِ أَمالِيدَ الإِصلاحِ…، وتُفسِح لِلشَّبابِ دَورًا رِيادِيًّا فاعِلًا، قَد، واللهِ، تُكرِهُنا على ارتِداداتٍ جَمعِيَّةٍ لا تَتَواءَمُ مَع نَشوَةٍ أَخَذَت بِمَجامِعِ قُلُوبِنا، فَأَزجَتنا في يَومِكَ المَشهُودِ، إِلى تُخُومِ الفَرَحِ والأُنسِ والرَّجاء”.

فَبِاللهِ عَلَيكُم… مَن يَجرُؤُ، عَلى امتِدادِ مُحِيطِنا الشَّاسِعِ المُتَرامِي، في سِواكَ يا لُبنانَنا، أَن يَقُولَ ما قال؟!

وهُوَ، أَبَدًا، في نِشدانِ البَطَلِ الَّذِي سَيَرفَعُ الأُمَّةَ مِن مَهاوِيها، وَيَهوِي بِـــ”حَجَرِ داوُدَ” بَينَ عَينَي كُلِّ طاغِيَةٍ يَمُدُّ يَدًا أَثِيمَةً إِلى كَرمَةِ المَنشأ الأَعَزِّ، فَبِحَسبِهِ: “إِنَّ القَراراتِ المُضِيئَةَ في التَّارِيخِ لَهْيَ أَبَدًا وَلِيدَةُ مَنِ ارتَضَعُوا اللَّبُؤَةَ، فَاستَنَّ النَّاسُ بِسُنَنِهِم، وائتَثَرُوا إِثرَهُم إِذا اجتَهَمَ لَيلٌ، وادلَهَمَّت ظُلُمٌ، ونَزِلَت بِالرُّبُوعِ نازِلاتٌ وكَوابِيس”. (مِن مَقالَةِ “مِن عُرسِ أَرنُونَ…).

وإِذ يَطِيبُ لي أَخذُ النَّماذِجِ السَّاحِرَةِ، أَقِفُ أَمامَ مَقالَتِهِ “إِذا أَلَمَّت مُظلِمَةٌ أَضاؤُوا”، مُتَهَيِّبًا أَن أَقتَطِعَ مِنها، لِأَنَّها جَمالٌ خالِصٌ مَحبُوكٌ كَغِلالَةِ حَسناءَ،  نَسِيقٌ كَإِضمامَةِ وَردٍ، شَهِيٌّ كَضَمِّ الحَبِيب. وأَنصَحُ القارِئَ غِبًّا، مَن يَمُرُّ كَالرِّيحِ لا تَستَوقِفُهُ خَيراتُ الأَرضِ، أَن يَتَلَمَّظَها، ولِي أَجْرُ مَن يَهدِي إِلى الواحَةِ الظَّلِيلَةِ قافِلَةً أَضَلَّتها الكُثبان. وكَم يَصِحُّ قَولِي في جُلِّ ما كَتَبَ، بَيْدَ أَنِّي أَكتَفِي بهذه الوِقفَةِ، عَسَى أَن لا أُتَّهَمَ بِفَرطِ الصَّداقَةِ المُسِيءِ إِلى التَّقدِيم.

حِرَف

أَلحِرَفُ اليَدَوِيَّةُ، هذه الأَلِيفَةُ الوَفِيَّةُ، الَّتي عَمَرَت دِيارَنا بحِجارَةِ الخَيرِ، ومَلأَت أَيَّامَنا الخَوالِيَ بِدِفْءِ الحُبِّ والوِئَامِ، وزَيَّنَت بُيُوتَنا بِصَنِيعِها المُشرِقِ الجَمِيلِ، والَّتِي شَدَّت رِكابَها ورَحَلَت عَنَّا أَو تَكادُ، بَعدَ أَن تَنَكَّرنا لِأَمانَتِها أَمامَ مُغرِياتِ العَصرِ، وخَلقِهِ البارِدِ السَّرِيع! في هذه الحِرَفِ… حَدِّث بِالعَجَبِ عَن قَلَمٍ كَأَنَّهُ آلَةُ تَصوِيرٍ، بَيْدَ أَنَّهُ يَبرَعُهَا بِما يُضفِي على الصُّورَةِ مِن حَياةٍ، ويُوَشِّحُ خُطُوطَها وفُسُحاتِها بِالجَمالِ النَّبَّاضِ الزَّاهِي. فَلَأَنتَ مَع حِرَفِيِّهِ وَجهًا لِوَجهٍ، تَملَأُ عَينَيكَ تَقاسِيمُهُ، ويَلفَحُ وَجهَكَ لُهاثُهُ، وتُشارِكُهُ الفِعلَ، وتَكادُ تَلمُسُ، في صَفحَةِ الرِّقاعِ، أَدَواتِ النَّقشِ والرَّقشِ والحَفرِ والنَّدفِ والتَّنجِيدِ، وتَسمَعُ، مَدَى الحُرُوفِ، تَخرِيمَها وأَصواتِها النَّقِيَّةَ، فإِذا أَنتَ مُقاسِمُهُ الخَلقَ والإِبداع.

وهُوَ، إِذ يَقِفُ حِيالَ النَّجَّادِ مُتَأَمِّلًا مَغبُوطًا، يَضرِبُ بِرِيشَتِهِ فإِذا اللَّوحَةُ نَصِيعَةٌ تُوشِكُ أَن تَتَكَلَّمَ، والمِنْدَفُ، تَحتَ يَراعَتِهِ، وَتَرٌ أَنغامُهُ حَفِيفُ صَفصافٍ على ماءٍ جارٍ. يَقُولُ: “ولا بَأسَ على الخَبايا، والمِنْدَفُ ما أَقوَمَهُ! يَتَقافَزُ بِفَذاذَةٍ وغِوًى بَينَ شَرائِحِ الصُّوفِ والقُطنِ، فَتَفتَحُ لَهُ قَلبَها، وتَنتَهِضُ على يَدَيهِ في ذِهنِيَّةِ لاوَعيِها، أَبجَدِيَّةً واستِخداماتٍ مُتَفَرِّدَةً، فَرِيدَةَ اللُّغَةِ والمُصطَلَحاتِ، حتَّى لَتَحِسَّ أَنَّ الأَسارِيرَ، تَكادُ تَتَخَفَّفُ مِن أَثقالِها، وتَتَشَجَّرُ حَولَكَ أَبراجًا مَمدُودَةَ القِبابِ إِلى السَّماء” (“النَّجَّادُ أَبُو خَلِيل…”، ص 3).

كَما لا أَظُنُّ أَنَّ ابنَ الرُّومِيِّ، في “قالِي زَلابِيَتِهِ”، قد تَفَوَّقَ على صَدِيقِنا وهُوَ يَرسُمُ بِالرِّيشَةِ الرَّهِيفَةِ حَفَّارَ الزُّجاجِ، في مَقالَتِهِ “مُحتَرَفُ حَفرِ جَمالِيَّات…”، بِكُلِّ قَسَماتِهِ وغُضُونِهِ وتَعابِيرِ وَجهِهِ، فَيُضفِي عليها مِن أَوصافِهِ البَلِيغَةِ ما يَجعَلُ العَينَ أَعجَزَ عَن بُلُوغِ الأَبعادِ الَّتي وَصَلَها. ولَن أُعطِيَ أَمثِلَةً، فَلِلقارِئِ أَن يَنتَشِيَ ثُمَّ يُعِيدَ، فَالعَوْدُ إِلى الجَمالِ جَمالٌ لا يُمَلُّ، والمَزارُ لا يَخبُو أَلَقُهُ ولَو تَكَرَّرَتِ الصَّلَوات…

“فَحَتَّامَ نَغُضُّ الطَّرفَ عَن طَمسِ مَعالِمِ هذه التُّراثِيَّاتِ، في مَفازاتِ الزَّمَنِ، تَلافِيًا لاندِثارِها، وحَفزًا لإِنعاشِ رِيفِنا الهَمِيْل؟” (“الحِرَفُ الشَّعبِيَّةُ…”، ص 6). يَقُولُها… وفي الحَلقِ غُصَّةُ الأَدِيبِ الفَنَّانِ المُبدِعِ يَرَى مَعلَمَ الدِّفْءِ والجَمالِ والأُنْسِ يَنطَوِي عَن حَياتِنا الضَّارِبَةِ في العَصرَنَةِ الطَّحُون…

فَحَبَّذا لو يَختَصُّ صاحِبُنا كُلَّ حِرفَةٍ، بائِدَةٍ أَو… بِرَصِيعَةٍ مِن رَصائِعِهِ الغَوالِي، تَركُزُها حِليَةً في أَدَبِنا المَكنُوزِ، وتَترُكُها، لِلأَجيالِ القابِلَةِ، ذَخِيرَةً، مِن تُراثِنا، لا تُنسَى، وشَهقَةً في البالِ إِمَّا عادَت بِنا الذَّاكِرَةُ إِلى الأَيَّامِ الدَّوافِئِ مِن زَمانِنا الغابِرِ، وأَرضِنا المِسكِيَّةِ المِعطاءِ، ومِن ماضِينا الهاجِعِ في الحَنايا جَمرًا أَضوَيناهُ ولكِنَّهُ لَن يَخبُوَ أَبَدًا…

حَدِيثُ الأَزهار

أَمَّا “حَدِيثُ الأَزهارِ” فَأَزهارٌ في الحَدِيث. لَكَأَنَّكَ مَعَها في رَوضٍ أَغْيَنَ، ومُرُوجٍ زَهْراء. وكَما تَنَكَّبَ ابنُ المُقَفَّعِ ولافُونتِين وأَحمَد شَوقِي وغَيرُهُم على الحَيَواناتِ لِبَثِّ الرَّسائِلِ الاجتِماعِيَّةِ والأَخلاقِيَّةِ والسِّياسِيَّةِ، وإِبرازِ مَثالِبِ المُجتَمَعِ وطَبائِعِ القَومِ، فَإِنَّ صاحِبَنا اعتَمَدَ الأَزهارَ مَطِيَّةً لِرِحلَتِهِ، فإِذا الدَّربُ، على رَصانَةِ الرِّسالَةِ وجَهامَةِ البَلاغِ، عابِقَةٌ بِالشَّذا، مَوَّارَةٌ بِالأَقاح. وإِذ مَنِ اختارَ الحَيَواناتِ لإِبداعِهِ كان كالِحَ السَّردِ في مَقطُوعاتِهِ، غالِبًا، فَإِنَّ كاتِبَنا قد أَسبَغَ على نَصِّهِ أَردِيَةَ الجَمالِ، والنَّفَسَ الشَّعرِيَّ، والتَّزاوِيقَ البَيانِيَّةَ، ما جَعَلَ سِياقَهُ سِفْرًا يُلامِسُ الشِّعرَ، ويَرقَى إِلى رُؤَاه…

شِعْر

هذا اللُّغَوِيُّ البَرِيعُ، آنَ تَجِيشُ في حَناياهُ أَمواجُ الوَجْدِ، وتَلُفُّ كَبِدَهُ الحَرَّى لَفَحاتُ الجَوَى، يَنبَرِي لِقَلَمِهِ بُلبُلًا مُرَنِّمًا بِأَرَقَّ مِن نَغَماتِ نايٍ، وأَندَى مِن رَنِيمِ جَدوَل. وهُوَ يُجانِفُ الابتِذالَ، فَعِشقُهُ سامٍ على عُنفِهِ، شَفِيفٌ على تَدَفُّقِه. وإِذ يَرسُمُ لَوحَةَ تَهالُكِ الجَسَدِ على الجَسَدِ، والتِواءِ الخَصْرِ النَّهِيمِ على الزَّندِ المَجدُولِ، يَحشِدُ الكِناياتِ والاستِعاراتِ، فَكَلامُهُ مِن عُيُونِ الشِّعرِ المُصَفَّى، المُكتَنِزِ رُؤْيا، خَيالًا، جَرْسًا، تَكثِيفًا وإِيحاءَات. فالحَبِيبَةُ تَغدُو “شُرفَةً” تَرُودُهُ غَمْرًا مِن تَلَظٍّ وهُيامٍ، و”غابَةً” في “بِئْرِ” صَمتِهِ المُتَعالِي صَوْنًا لِحُرمَةِ الحَبِيبِ الوافِدِ، فَـ”تُلامِسُ فَراغَ أَمكِنَتِهِ” العَطاشَى لِوِصالِها، “نَهْرًا” مِن عِشقٍ مَشبُوبٍ يَدخُلُ مَحْرَمَ اللَّذَّةِ ولا يُدَنِّس. يَقُولُ، في واحِدَةٍ مِن “فَواصِل ومَتاهات”:

“نَزَلَتِ الشُّرفَةُ إِلى
سَرِيرِي
تَلُمُّ رَسائِلَها،
كَغابَةٍ في بِئْرٍ،
فَلامَسَت فَراغَ أَمكِنَتِي،
فَتَرَنَّحَ على ضَفَّةِ ذِراعِي
نَهْرٌ ذُو قَدَمٍ
تَقَلَّدَ أَحلامَهُ إِلى مَملَكَةِ
الدَّهشَةِ والانبِهارِ،
وأَوصَدَ الباب”.

هذا الرَّحْبُ الباعِ في المَكرُماتِ، الواسِعُ الذِّراعِ في مَجازاتِ العَرَبِيَّةِ الشَّائِكَةِ، ما كان يَومًا غَرُورًا وجَنَى بَيانِهِ فَتْحٌ في الكِتابَةِ الصَّبِيحَةِ، وهُوَ المُتَهَجِّدُ بَياضَ يَومِهِ وسَوادَ لَيلِهِ بَينَ القَراطِيسِ، المُنَقِّبُ عَن شَوارِدِ اللُّغَةِ يُشَنِّفُ فِيها كَلامًا كَالماسِ المَصقُولِ بَعدَ هَجعَةِ المَلايِينِ في القَعرِ المُظلِم.

وإِلى طاقَتِهِ اللُّغَوِيَّةِ النَّادِرَةِ، وإِنشائِهِ الخالِصِ البَهاءِ، وصِياغَتِهِ الأَصِيلَةِ المُتَجَذِّرَةِ في تُراثِ لُغَتِنا المُبارَكِ، هُوَ شاعِرٌ شَفِيفٌ يَعرِفُ مَطارِحَ النَّدَى مَعرِفَتَهُ صِيالَ الحَلَبات. نَقرَأُ، مِن “أَنتَسِبُ إِلى وَطَنِ عَينيكِ”، شِعرًا جَمِيلًا يَذُوبُ عُذُوبَةً وخَلَجاتِ صَدرٍ وشَوقًا وتَبارِيحَ، ويَحمِلُ بَصْمَةَ “نَشِيدِ الأَناشِيد”. يَقُول:

“عَمِيقٌ عَمِيقٌ مَنزِلُ حَبِيبِي
في صَدرِي،
أَتَوَحَّدُ فيه،
أَستَرِيحُ على ضِفافِهِ
كَالوادِي الهانِئِ
في فَيْءِ الجَبَلِ،
فَلا أَعُودُ أَعرِفُ الوَحدَةَ،
وتُطَوِّقُنِي أَغمارُ الياسَمِين!”

لقد أَفلَحَ صاحِبُنا في مَسعاهُ، فحيثُ أَلقَى الزُّرْعَةَ فَأَخضَرُ رَيَّانٌ، وأَزاهِيرُ تَبسِمُ لِلفَجرِ وتَرقُصُ لِلنَّسِيم.

والعَجَبُ فيه، صَّيَّادٍ عَزُومٍ مُتَوَغِّلٍ في أَعماقٍ بارِدَةٍ مُظلمَةٍ تَحُفُّها الرَّهبَةُ، عَوْدُهُ بِمَحارٍ قَلَّما خَلا مِن لُؤْلُؤ.

لا في الجُرُومِ هَمَدَت هِمَّتُهُ أَو حَدَّت منِ اندِفاعَتِه ريحٌ سَمُومٌ، ولا في الصُّرُودِ تَقاعَسَ أَو كَبَّلَهُ بَردٌ قارِسٌ جَمِيمٌ، بل دَأَبَ على عَمَلِهِ والعَينُ تَرمُقُ الأَعلَى، والعَزمُ يَكشَحُ أَشباحَ الإِحباطِ ونُذُرَ الخَيبَة.

كما لا يُجهِدُ نَفسَهُ بِما ليسَ في هَواها. فَلا يَتَكَلَّفُ البَساطَةَ طَمَعًا في التَّناغُمِ مع رَأيِ العَوامِّ الغالِبِ في القَومِ، ولا يَستَجدِي الخَواصَّ رِضاهُم، نازِعًا إِلى ما يُوافِقُ رَغائِبَهُم في كُلِّ مَحفِلٍ يَعتَلِي صَهوَةَ مِنبَرِهِ، ولا يَخشَى نَقَداتِ مَن تَعمُرُ كِناناتُهُم بالسِّهامِ المَسمُومَةِ يَرِيشُونَها لِلطَّرائِدِ السَّهلَة. فلا الزُّلْفَى مِن عُدَّتِهِ، ولا في هُمُومِهِ ما سَيَدُورُ على الأَلسُنِ، إِنَّما يَكتُبُ لِيُرضِيَ نَفسَهُ أَوَّلًا وآخِرًا، هذا الهَيمانُ بابتِكارِ الجَدِيدِ غَيرِ المَألُوفِ والنَّصِيعِ غَيرِ المَطرُوقِ، ويَسِيرُ في سُبُلٍ غَيرِ مَأهُولَةٍ، يَحدُوهُ حِسٌّ مُرهَفٌ بِالجَمالِيَّةِ، ويَرفِدُهُ اطِّلاعٌ عَمِيقٌ على غَرائِبِ اللُّغَةِ وشَوارِدِ الكَلِم.

حتَّى وإِن تَغَزَّلَ وشَبَّبَ، يَبقَى على أَناقَتِهِ اللُّغَوِيَّةِ، وَرِفعَةِ تَعابِيرِهِ، فَهُوَ، أَبَدًا، مَلِكٌ مُتَوَّجٌ في الكَلامِ البَلِيغِ، لا يَنزِلُ مِن عَالِي مَقامِهِ ولو في أَبسَطِ التَّكالِيفِ، يَأتَمُّ به كُلُّ مَن يَنشُدُ لِقَلَمِهِ سُؤْدُدًا في مَجالِسِ الحَرف. فَلنَقرَأْهُ، في مَقالَتِهِ “يا سالِبَ القَلبِ جُرْتَ”، مُناغِيًا شَعرَ الحَبِيبَة:

“كانَ يَحسُنُ بي يا شَعرَ حَبِيبَتِي مُذ تَطَيَّبتُ بأَرَجِكَ، فَأَدرَكَتنِي مَلامِحُ التَّجَلِّياتِ، لَو وَقَفتُ على بابِكَ عُمرِي!

فيا سالِبَ القَلبِ جُرتَ!”

كما وفي نَسِيبِهِ الجَسُورِ، مُتَلَوِّيًا في الجَوَى، مُتَلَظِّيًا إِلى الحَمِيمِيَّاتِ، لا يَنِضُّ عَنهُ جِلبابَ الوَقارِ والحِشمَةِ والتَّرَفُّع. يَقُولُ، في “لَأَنتِ! وَيَبهَرُنِي الضِّيَاء”: “ويَكُونُ لِلغَلائِلِ في صَبوَةِ اللُّقْيا أَن تَتَفَتَّقَ ضَرْمَى عَن فَرخَي يَمامٍ، مُحرِمَينِ، لَجَّ بِهِما الوَجْدُ، فَضاقَ الصَّدرُ باللُّهابِ، فَانداحَت أَعسالُهُما، وهَاتِ يا انعِتاقًا وانفِلاتًا إِلى السَّماء.

“فاتِنَتِي!

لَزَوالُ عَمرِي، مُيَمِّمًا هِلالَكِ في طَلَبِ الوِرْدِ النَّمِيْرِ، أَهوَنُ عَلَيَّ مِنِ احتِباسِ دِفْءِ رَوافِدِكِ.

… لَأَنتِ… وَيَبهَرُنِي الضِّيَاء!”.

حِكَمٌ وعِبَر

وقد تَمُرُّ، وَمضَةً بَينَ سُحُبٍ بِيضٍ، حِكمَةٌ أَو عِبرَةٌ أَو خَطفَةُ تَأَمُّلٍ عارِضَةٌ، يُلقِيها وهُوَ يَتَخَطَّرُ في مَوكِبِهِ اللُّغَوِيِّ الفَخمِ، فَتَكُونُ، في النَّصِّ الرَّكِينِ، لُحَيظَةَ انسِراحٍ، ومِهمازًا يَشِيلُ القارِئَ الهائِمَ في نَشوَةِ الوَشيِ السَّاحِرِ، ويَرُدُّهُ إِلى جادَّةِ التَّبَصُّرِ العَمِيقِ، والتَّفَكُّرِ الواعِي. يَقُولُ، في “أَحلُمُ بِالرَّبِيع”:

“مَن لا يَملِكُ وَعيًا، لا يَملِكُ قَضِيَّةً
مَن لا يَملِكُ قُوَّةً، لا يَملِكُ حَقًّا
مَن لا يَملِكُ رَجاءً، لا يَملِكُ قِيامَةً!”

وجَمِيلٌ، هُوَ إِذ يُذَكِّرُنا بِأَنْ “لا يُتَوَسَّدُ خُوْرُ الحَشايا في السَّنَواتِ العِجاف” (“الحِرَفُ الشَّعبِيَّةُ…”، ص 6). تَبدُو المَقُولَةُ، هُنا، خَبَرًا، ولَكِنَّ في طَيَّاتِها عِبرَةً وَنُصحًا حَكِيمًا.

خَواتِم

وأَينَكَ مِن خَواتِمِهِ، وقد دَبَّسَت عَناقِيدُه في الخَصائِلِ، وتَهالَكَت وُرَيقاتُ الكَرمِ عَن أَجفانِهِ، فالحُبَيباتُ في الشَّمسِ طَريقٌ إِلى خُمارٍ، ونَشوَةٌ إِلى دُوارٍ… وَقُل: هِيَ ثُمالَةُ كَأسٍ، واغتِرافُ حَبِيبٍ بِقُبلَة.

لا تَنتَهِي مَقالَةٌ، لَهُ، إِلَّا وقَد تَزَوَّدَ القارِئُ بِمِثلِ أُنشُودَةٍ، وتَنَطَّقَ بِقِلادَةٍ يَشِيبُ البَدْرُ ولا يَشِيبُ بَرِيقُها.

أَتَمَثَّل، في ذا المَقامِ، بِخاتِمَةٍ لَكَأَنَّهَا قَفلَةُ مُوَشَّحٍ أَندَلُسِيٍّ شَجِيٍّ سَدِيٍّ، في مَقالَتِهِ “مارُون يُونس…”. يَقُول: “يا صَدِيقِي، على بِساطِكَ الأَخضَرِ نَدَونا لِأَيَّامٍ نَيرُوزِيَّةِ الهَوَى، فَحَشدُ حَلاواتٍ وأَطايِبَ تَنبَجِسُ على انشِراحٍ مِن مَباسِطِ الحُرُوفِ، تُذَكِّرُنَا بِفاكِهَةِ الجَبَل”.

مُختَتَم

صَدِيقَنا!

يا مَنِ استَجَبتَ، والِهًا، لِصارِخَةِ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ، فَأَشرَعَت لَكَ مَكنُونَها، وشَأوُكَ طُوالٌ، وفَتَحَت لَكَ قَماقِمَها، فَتَفَجَّرَ في قَلَمِكَ عِطرٌ وسِحرٌ، وأَوغَلتَ في مُكتَنَزاتِ الأَلفاظِ، مُطَوِّفًا بأَلبابِها ونَواها، مُعمِلًا مِبضَعَكَ اشتِقاقًا وتَولِيفًا، مُستَبحِرًا ما طابَ لَكَ القَولُ المُباحُ، فاغتَصَّت رُباكَ بالأَقاحِ، وطَلَعَ مِن حُرُوفِكَ فَجرٌ، وتَعَرَّى صَباح…

فَيا لَمَقدَرَتِكَ في تَروِيضِ ضادِنا العَصِيَّةِ، وحَشدِها كَلِماتٍ مَرصُوصَةً كَجِدارِ قَلعَةٍ، نَسِيقَةً، في سِياقِها، كَلُؤْلُؤِ عِقْدٍ، حَسَنَةَ الدَّلالِيَّةِ وضِيحَتَها، عَذبَةَ الجَرْسِ كَآهَاتِ نَايٍ، قد تُجاوِزُ، عَدَدًا، في الجُملَةِ الواحِدَةِ، ثَمانِينَ ونَيِّفًا، في إِعجازٍ نادِرٍ، كَما مَرَّ في مَقالَةِ “عَبد العَزِيز خُوجَه…”. ومَن قالَ إِنَّ العِقْدَ الماسَ يَضِيرُهُ أَن يَكُونَ طَوِيلًا؟!

حَقًّا لَتُغبَطُ، أَدِيبًا حَسَنَ التَّرَسُّلِ، أَشرَعَ لِعُشَّاقِ الكَلِمَةِ النَّايِ، والرُّؤْيَا المُلهَمَةِ، والتَّأَمُّلِ العَمِيقِ، مَصارِعَ سَخِيَّةً ظَلَّت مُوصَدَةً لِسِنِينَ طِوال. كما أَتاحَ لَهُم، بِلُغَتِهِ الرَّفِيعَةِ العِمادِ، “سُلَّمَ يَعقُوبَ” يَرقَونَ بِها إِلى قُدْسِ أَقداسِ اللُّغَةِ المُعجِزَة.

مِن كُثارِ مَحامِدِكَ، يا حَمِيَّ الأَنفِ، أَنَّكَ أَخرَجتَ الدُّرَّ مِن مَكامِنِهِ العَمِيقَةِ، فانفَرَجَت أَسارِيرُ الرِّقاعِ لكَ، رائِدًا وَلَجتَ حُلكَتَنا بِمِشعَلٍ وَضَّاءٍ، لَكَأَنَّكَ غَوَّاصُ شاعِرِ النِّيلِ حافِظ ابراهِيم وهُوَ يَتَكَلَّمُ بِلِسانِ اللُّغَةِ العَرَبيَّةِ حَيثُ قَال:

أَنا البَحرُ في أَحشائِهِ الدُّرُّ كامِنٌ            فَهَل ساءَلُوا الغَوَّاصَ عَن صَدَفاتِي؟

حَبابَكَ أَن تَمُنَّ بالمَزِيدِ، وأَن تُوَسِّعَ للضِّيفانِ دارَكَ، يَعُودُونَ إِلى رِحابِكَ السَّخِيَّةِ فَيَستَصبِحُونَ بِسُرُجِكَ الدَّائِمَةِ الضِّيَاء.

رُحماكَ رَبِّي.. فَعُجماهُمُ، طُرَّاءُ هذا الزَّمَنِ العَجَبِ، تَنداحُ إِلى جُذُورِ فُصْحانا، كَقَطِيعِ ذِئَابٍ جِياعٍ بَينَ نِعاجِنا البِيضِ، والرُّعاةُ في غَفلَةٍ وسُباتٍ، حتَّى لَيَهلَكَ الفَجرُ في الغَبَشِ الفاغِر.

أَلَا كَثِّر أَمثالَهُ، سَلِمَت يَداه!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1): نَدامايَ بِيضٌ كَالنُّجُومِ وقَينَةٌ       تَرُوحُ عَلَينا بَينَ بُرْدٍ وَمُجْسَدِ

(مِن مُعَلَّقَة طَرَفَة بنُ العَبْد “لِخَولَة َأَطلالٌ بِبُرقَةِ ثَهمَدِ”)

(2): تَهُونُ عَلَينا في المَعالِي نُفُوسُنا؛    ومَن خَطَبَ الحَسناءَ لَم يَغْلُها المَهْرُ

(مِن قَصِيدَةِ “أَراكَ عَصِيَّ الدَّمعِ”  لِأَبِي فِراس الحَمَدانِي)

 

اترك رد