بقلم: أنطوان ابو رحل
الأديب والمحامي سليم باسيلا، إذ يغادر هذه الفانية مغموراً بالرحمات،إنما هو قطعة من لبنان الأدب الصافي والراقي تتوارى، قطعة عزيزة ثمينة، مرصعة كمقابض السيوف، بذهب الأصالة وآيات الإبداع. طالما استهوتني مقالاته، معجباً بالاسلوب الانيق، وبسحر الكلمة ورشاقة التعبير، وعمق الثقافة.
في مكتب الشاعر شوقي أبي شقرا في “النهار”، وهو المعلم والحادب، خرّج أجيالاً في مهنة الحرف… وكان كل هؤلاء يؤمون مكتبه ” المسحور”، وصدفة تعرفت إلى سليم باسيلا، وأنا على الزغب في التعاطي مع الكلمة… ويوم تعرفت إليه كان بذاته دنيا من أدب. التقيته على خفر وخوف، وبالكاد تحدثت إليه حديث استحياء… إلا أنه انطبع في ذاتي حين سمعته يهمو، وأعجبت وقلت: هذا أديب له هيبة تحضر من دون مرافقة، ووسامة تسحر من غير إدعاء. وبقيت أقرأه كلما أطلَّ بمقال يزين به الصفحات الثقافية وكانت إطلالاته قليلة إلا أن ظهور مقاله، لأهل الكلمة، حدثٌ له الدوي الصاعق… وفيه صياغات لا تدرك إلا في الندرى.
ومن حظي الرائع أني التقيت باسيل مجدداً على ضفاف البردوني، مع كوكبة من شعراء وأدباء زحلة يوم زارها عام 1992 للمشاركة في تكريم صديقه الشاعر خليل فرحات، يحوطه جوزف صايغ وأنيس خوري وأنيس مسلم وجوزف جحا ونفر قليل من عشاق الكلمة، وكنت بينهم أصغي لصاحب الصوت الجهوري البلوري استهل التكريم بالقول: “زحلة، يا ظمأً اليك لا يرويه إلا ظمأٌ آخر إذا ألح علينا خرج بنا الى رياض ورباع لم تجد لها اسماً إلا أنها بعض من صور الجنة، أو بعض من أمثلتها على الأرض.
زحلة، إذا لم أزرك قبل اليوم، إلا لماماً، فلا أنصرافاً عنك ولا جفاءً لك، ولا خروجاً على سلطانك، ولا جموداً عن حسنك، بل لان جمالك خلق لغير عيني الذابلتين.
فيا خليل ، يا ابن هذه الملاحة، الله! الله! للكلمة التي استحقت ريشتك وتباركت اليد التي وضعت كل هذا الذهب بين يديك.
ويا أخي أي زمان زهري كان زماننا معك في “حلقة الثلثاء”، و “مجلة الحكمة”؟
بل أي زمان كان زماننا منك؟
ومن يومها تملكتني نشوة الاستماع والاستمتاع بذخائره، وحلاواته، ولذائذه التي تتدفق تدفق بردوني هادئٍ حيناً أو هادر أحياناً.
خسارة سليم باسيلا، لمن يعرف الكلمة، هي خسارة أمير منبر في المحاماة وسيد قلم في الأدب.
هالني، الأسبوع الماضي، كيف مرَّ خبر رحيل هذا الأديب الكبير في” زاوية صغيرة” من ” صفحة الوفيات” ولا من أشار إلى نبذة ولو صغيرة عن حياته كأديب، ولا من نوه بمؤلفاته، أو ركز على سيرته الغنية، مستذكراً أو مسترحماً..!
أهكذا يغيب سليم باسيلا وهو الذي كانت مقالاته تزين صدر الصفحات الثقافية في ” بلد النور” وتثير ببلاغتها، وتدهش بحسن بيانها، وكانت قراءتها متعة وفرحة ينفتح فيها القلب وتبرز القيم…
أهكذا يغيب مبدع كبير من بلادي ؟! إنتابتني ضحكة ساخرة،وحاملة جرح المرارة على حملة الأقلام في بلادي.
حامل القلم في بلاد الناس، قائد مغامرة ورافع راية.
حامل القلم في بلادي يموت في اليوم الف مرة.
وبمرارة أعمق، وبأسى أكبر، أين كان أهل الفكر والقلم في يوم وداع كبيرٍ من كبارهم، غيابهم صفعة لهم، …وأين مجالس الثقافة؟!
سليم باسيلا من مدرسة الحكمة،مدرسة الشيخ عبدالله البستاني، وبشارة الخوري الأخطل الصغير، ووديع عقل، وبولس سلامة، وسواهم ممن استفاقت على بلاغاتهم آفاق العربية في مكان لها وزمان.
هزني أن ينزل سليم باسيلا في دائرة النسيان، ولا من يعوض عن انكسار قلم وانحسار قيم، وهو المحامي والقانوني والاديب البارع والناقد المثقف.
عاصر سليم باسيلا ” المكشوف” مع شقيقه جوزف، المحامي والأديب النادر بثقافته وغزارة معرفته، يوم كانت في صدر المجلات الادبية العربية. ويوم كان عمر فاخوري، وصلاح لبكي، والياس ابو شبكة، وتوفيق يوسف عواد، وخليل تقي الدين وجوزف باسيلا يكتبون في ما لا يزيد عليهم احدٌ، متعة كلمة، ولذة مقطع وجمال قرار…
وسليم باسيلا محام بمواهبه، بإخلاصه للقضايا الموكلة إليه بحصانته المناقبية، بزهده في المادة، برسوليته، ببذله الصادق، بتمسكه بمبادئ الحق والقانون، وهو الذي اخذ عن جوسران وروبييه وكابيتان، وسواهم من كبار اساتذة القانون وعلمائه في العالم. الى قصر العدل حيث عرف لسليم باسيلا الصوت العالي، والكلمة الممتعة المقنعة، والبراعة في تقليب الأدلة والبراهين. ومع الشقيقين المبدعين سليم وجوزف – ولو على غير نمط من سحر الكلمة – انما الجمالية بالنسبة اليهما كهانة وعبادة.
وكان سليم باسيلا يزن الكلمة ولا يكتبها إلا إذا حفرت أثراً، وتركت في الذاكرة مكاناً تومض منه، فاذا هو أديب بقلمه المغموس بقلبه وعقله، باسلوبه الكتابي، بثقافته المحلاة بسعة معارفه وعمق توجهاته، باختياراته، برهافته، ومعه تعرف كيف تتذوق نكهة اللعب الجمالي فتعايش قلمه وتغنى وتلذ، واذا اسلوبه ينسدل منه القمح وينساب الحرير. أوقل قلمه نزهة في حديقة حطت فيها رحال عطاري الحروف كحلاً وحنة عربيين، وأناقة وعطراً باريسيين ورست فيها المراكب أقلاماً وحروفاً…فإذا بسليم باسيلا يجالس اصحاب الفكر والفن والقلم في العالم، وعرف كيف ينافسهم ذوقاً وتحليلاً ونغماً. في كتاب المودات وحده اكثر من مئة كاتب وأديب ومفكر وعالم وحقوقي من الكبار الأفذاذ، في حقول المعرفة بدءاً باللاهوتيين الى الحقوقيين، الى الادباء والشعراء والفنانين.
وسليم باسيلا من سلالة من اسهموا في ترويض العربية لتجاري سواها من اللغات الحديثة، وفي الافصاح عن الأدب كسر وسحر معاً، صحيح انه كان مقلاً، لكنه المقل الساحر، وانها الحرب جعلت مصباحه يخفت، الا انه من الخيط الذهبي الغارز في ترابنا، وعرف كيف يتفنن في أدبه، وكان في موكب الحقيقيين.
وسليم باسيلا، مع شقيقه جوزف، تفردا وذهبا إلى قراءات معمقة في الأدب العالمي، من قديمه الإغريقي إلى حديثه في الشرق والغرب، وبخاصة في شارل موراس، وليون دوديه، وإمانويل مونييه والأب برومون، وسواهم من أساتذة الفكر الفرنسي. إلى قراءات في المنمق، والمرّوق، والضارب في العمق في الادب الفرنسي، ذهاباً من بروست، وكلوديل، ومورياك، وموران، وبرنانوس، وفاليري، ومالرو، وسواهم ممن اذا خلا سليم بقلمه، كتب عليهم من لطيف الطلاوة، ما يؤثر ويقرأ ويستعاد.
وينطبق على سليم باسيلا ما قاله الرئيس شارل حلو في شقيقه جوزف باسيلا يوم قدم لكتابه: “نوافذ على الشرق والغرب”، هو ” واحد من القلة التي تقرأ كثيراً”. إلا أن سامي الهاشم نظر إلى الأمر من منظار آخر فقال:” إنما أقول فيه ما قاله أحد أساتذة جامعة كولومبيا ميكايل رفاتيري في دراسته لإحدى قصائد الشاعر الفرنسي شارل بودلير، أقول فيه: ” كان قراء etait un archilecteur c’ ولا مبالغة فالقراء ليس من يكثروا قراءة الكتب وحسب، ولا من يجيدوا انتقاء الكتب وحسب، إنما، إضافة Yلى ذلك هو صاحب الرأي الحصيف، صاحب البصيرة النافذة، صاحب الكلمة التي لا تجامل ولا تخاتل.
قرأ سليم، كما شقيقه جوزف، ليستنهض همماً، وقرأ لينير السبل أمام السالكين… وله نظرات وأضواء في عدد من الشعراء والأدباء المبدعين عندنا، تميزت بالنفاذ والجديد والابتكار.
انه من الرعيل المصقول الذي كان يرن من شدة أصالته، وفرط اشتياقه الى اي علمٍ، أي جمال. وكان القاطف الذي يدرك حرفته هذه، فينشر ما عنده، يفلش ثماره دراسات ومقالات هي جزءٌ متين من تراثنا الادبي – الجمالي. وان نسينا هذه السطور المشعة نكون نجذف ولسنا اوفياء لما يؤلف لنا نهضة فكرية تمتد الى الوراء الثمين، كما الى الامام المليء بالاكتشاف.
لنتعرف الى سليم باسيلا الذي في بيانه سحر ولألىء، إقرأ معي ما كتبه القاضي طارق زيادة حول كتاب: “أوراق لم تذهب بها الريح:” أدركت أني وقعت على كنز أدبي ثمين لرجل يعشق الكلمة ويطرب لها وينتقيها ويختارها ويرصدها ويصطادها ويسافر فيها ويسفر عنها فيبسط لها وجهه، أو كما قال في مقدمة مؤلفه الآخر: “كتاب المودات”: ” أليس أن تكتب هو أن تبقي من شباب الفكر فيك، كالمصبوب في قالب لا عوج فيه ولا إنحناء، وأن يخوض منك جلاسك في كلمة تناهت إلى الغاية من حسنها، فتخرج من الورق إليك وتنشر من نفسها عليك، ثم تصير معها، وكأنما على زجاجة خمر، حتى إذا انقطع لك خصرها من دلال، واختلجت وأهدفت نفسها لك، وقعت بها، وكادت أن تغلبك عيناك من ليل طويل معها، فرّق بينكما الصبح المفرق”.
ولسليم باسيلا كتاب ثالث:” رسائل… إليها” اغتسلت عباراته بالشعر الجزل المنمق، وبالوشي الندي، وهو علامة فارقة بين صناعة الكلام وجوهر المعاني في الحب.
لتتعرف إلى عمق أعماق سليم باسيلا يكفي أن تقرأ مناجاته للقاضي والمحامي والاديب فريد ابراهيم الزغبي، في يوم إحياء ذكراه قال: ” … كلما سمعته يرافع تحس وكأنه يتغنى، حتى إذا خرج وقد عرته هزة من ذلك، سألته هل كان يرجو مما قال استدراج إعجاب، أو إستخلاص حقٍ أو إحداث صدمة جمالية ؟ فأجاب: هذا وذاك. وأضاف إنني تبع حق وحسن آخذ لائذ بهما، لا يزيدني وردهما إلا عطشاً إليهما”.
قلائل في كل العصور، اولئك الذين تشابهت شيخوختهم وطفولتهم، شبابهم وكهولتهم، فعاشوا براءة السلوك، وتجنحوا ببساطة الروح فانفردوا، وتزهدوا، وتعبدوا في محراب الكلمة حيث لا مكان ولا زمان.
سليم باسيلا، شيخ الأدب وفارس المحاماة، واحد من هؤلاء القلائل.
رحمه الله، لأنه من حملة الأقلام الأصفياء، الأنقياء، فقد جاء اإلى هذه الدنيا ولم يدخل إليها وخرج منها ولم تدخل إليه، بل عاش على قناعات كلماته التي آمن بها روحاً محييةً… وفهم الأدب كما المتصوفة، موئلاً وطريقاً للتأمل، ومحاولة للاقتراب من الحقيقة وسعياً إلى الشهادة والمشاهدة، وهي عنده تجربة ذاتية على مستوى عالٍ من التجرد والصفاء، وقد جانب الحالة النقدية ليدخل في الحالة الشعورية، وفي ما هو نوع من المسامرة الأدبية، وكرم الروح والريشة ليرسخ “موداته” أو كما جاء في بديعه: ” أن تجعل لأفكار الناس وموداتهم ومواجيدهم جسوماً وقامات”.
كلام الصور
1- الأديب والمحامي سليم باسيلا
2- غلاف أوراق… إليها
3- غلاف المودات… أيضاً