الموقف الأدبي.. ممارسة شعوب منذ أقدم الأزمنة (*)

يتبنّى الكاتب والمؤرخ حنا عبود (*) مقولة الناقد الكندي نورثروب فراي في  “أن الأدب نظام مترابط وبنية عنيدة… وأنه شامل”. بمعنى أنه يشتمل على hana-aboud-1الحياة بكل مظاهرها وحركاتها، مفنّداً المبدأ الأدبي الذي عرضه الفيلسوف كاسيوس لونجينوس في القرن الثالث الميلادي، والذي يدور حول محور واحد هو السموّ، مبيّناً، وعبر أمثلة من التاريخ، كيف أن الأدب، والذي يتجلى في الموقف الجماعي وليس في الموقف الفردي فقط، هو نضال طويل وعنيد لتحقيق السموّ، وأنه أصعب وأقوى نضال في المجتمع، به يرتقي الموقف الجماعي إلى مستوى الموقف الوطني.

من أول كتاب نشره الناقد الكندي نورثروب فراي “النسق المخيف” Fearful Symmetry  عام 1947،  وحتى آخر كتاب “عالم في حبة رمل” A World in a Grain of Sand  عام 1991 وهو عام وفاته، وهو متمسك بمفهوم أدبي فريد من نوعه في العصر الحديث. فهو يرى أن الأدب نظام مترابط وبنية عنيدة… لكن الأهم من ذلك أنه شامل. ألم نقل إنه نظام عنيد؟ إذن فهو شامل، وإلا لما كان نظاماً. وشموليته لا حدّ لها. فراي يجعل الأدب يشتمل على الفولكلور واللغة الشعبية والإيماء والرسم والموسيقى والرياضة…

 باختصار أي حركة من حركات الإنسان، صغيرة كانت أم كبيرة، لا بدّ أن تتعلق بالأدب، حتى الابتسامة والتقطيب وحركات العينين والتثاؤب وتناول الطعام وشرب الشاي أو احتساء القهوة… بمعنى أن الأدب يشتمل على الحياة بكل مظاهرها وحركاتها ليس لتأبيدها بل لتأديبها، أي جعلها تخضع لسنن الأدب وقوانينه. وبمجرد أن تنظر إلى شارب الشاي مثلاً حتى تعرف أنه يشربها بأدب وتهذيب أم بعبثية النصف الثاني من القرن العشرين.

وقد ليم الرجل من قبل عدّة نقاد كبار، لأنه جعل الأدب يشمل كل شيء، فلا فرق عنده- مثلاً- بين أدب العامية وأدب الفصحى لأنهما معاً يخضعان لـ “النسق المخيف”، وكذلك بقية ما تحدث عنه في كتبه الكثيرة. وليم أيضاً على تكرار هذا المفهوم في كل كتبه من غير إضافة أو تعديل.

والواقع أنه اعتمد على المبدأ الأدبي الذي عرضه كاسيوس لونجينوس (وهو من حمص وقد اختارته مستشاراً زنوبيا، التي سعت إلى توحيد بلاد الشام في القرن الثالث الميلادي) في كتابه “الجليل في الأدب” The Sublime. فكل الأدب عند لونجينوس يدور حول محور واحد هو السموّ، السموّ في كل شيء. فالأدب نضال طويل وعنيد لتحقيق السموّ، بل هو أشقّ وأصعب وأقوى نضال في المجتمع.
fray

ومثل هذا المفهوم جدير بالتقدير وليس الاستخفاف، أو الاستنكار. فلو أمعنا النظر في كل شيء لبان لنا مدى السموّ، أو عدم السموّ، في أي حركة أو قول أو فعل للإنسان. وقد عكست الأساطير هذا المفهوم في أكثر من مشهد، ومنه أن ربة الجمال أفروديتي (فينوس) استعارت ناي الإله هرمس لتلعب عليها بعض الألحان، فضحك منها حالماً نفخت صغيرها إله الحب كيوبيد، فعرفت أن مظهر وجهها صار مضحكاً لانتفاخ خديها، فرمت الناي فوقعت في الغابة فعثر عليها الإله بان، ربّ الغابات.

وقد انتبه الإغريق إلى هذا التداخل بين الآداب والعلوم والفنون فجعلوا ربّات الفنون تسعاً لا يفرقون بين واحدة وأخرى، فجميعهنّ يقمن بالوحي للشعراء، سواء ربة الشعر الملحمي أم ربة الميلوديا أو ربة الهرمونيا أو ربة التراجيديا أو ربة الكوميديا، أو ربة الفلك أو ربة الرقص… إلخ.

ومشكلة الأدب قائمة في التعبير، أي تعبير، اللغة أو الصوت أو الحركة أو العمل أو التمثيل… فحتى في المشي أو الركض تكتشف من تدرب على السموّ وتميّزه ممّن لا يزال بلا إتقان ولا “أدب”. وقد تمسك العرب بهذا المفهوم الواسع جداً.

الموقف الوطني

ويتجلى الأدب في الموقف الجماعي أيضاً، وليس في الموقف الفردي فقط. ويرتقي الموقف الجماعي إلى مستوى الموقف الوطني إذا كان منطلقاً من موقف أدبي، وليس من مصلحة خاصة لفرد أو جماعة أو شركة أو تروست أو كارتل، فهؤلاء لهم مواقفهم البعيدة عن الموقف الأدبي، مهما سعوا لإضفاء مسحة الأدب عليه، ومهما دبجوا له الدعايات “الأدبية”.

وهناك أمثلة كثيرة نجدها في التاريخ، وسوف نذكر بعضها. وأول ما خطر في ذهننا موقف الأميركيين والإنكليز من القهوة والشاي. وهو ما سبّب اندلاع حرب الاستقلال والثورة.

غبّ زيادة الضرائب على الشاي المستوردة من بريطانيا ضجّ المواطنون في الولايات المتحدة، ورست سفن الشاي في ميناء بوسطن. وفي ليلة السادس عشر من شهر كانون الأول (ديسمبر) لعام 1773 تسلّل خمسون أميركياً إلى ظهر السفينة وهم يتنكرون بزيّ الهنود الحمر، وقذفوا بـ 342 صندوقاً من الشاي في البحر، وقفلوا راجعين من غير أن يصاب أحد بأذى.

وفي اليوم التالي خرجت نساء بوسطن، بعدد يقدر بخمسمئة امرأة في عرض كبير في الشوارع. ولا بدّ أن يعرف القارئ أنه عرض بالمعنى الأميركي show وليس عرضاً لمنظمة “الطلائع” الكورية، أو “منظمة الكومسومول” السوفييتية. وقد جبْن الشوارع وهنّ يحملن أكواب القهوة بأيديهنّ، معلنات أنهنّ لن يشربن الشاي بعد الآن.fry-1-1

انتشر الخبر وحذت حذوهنّ نساء المدن الشمالية في الولايات المتحدة، وسار على نهجهنّ كل مواطني الشمال، ممتنعين عن شرب الشاي. وانتشرت هذه العادة في كل البلاد، باستثناء فئة أطلقت على نفسها اسم “حزب الشاي”. ولذا تجد كثيراً من المبتكرات الإلكترونية خاصة بالقهوة وليس بالشاي.

في المقابل نجد البريطانيين يميلون إلى شرب الشاي، فمنذ ذلك الوقت صار للشاي طقوس أشبه بطقوس ديانة الأسرار، فلها تقاليدها في كل أوقات النهار. هناك أمة يجب الحفاظ على شخصيتها، وإلا ضاعت. ومثل هذه المواقف ضرورية أدبياً حتى تخرج الأمة من الهلامية وتكون أكثر تماسكاً.

وعلى هذا النحو يكون الموقف وطنياً إذا كان عليه ما يشبه الإجماع الشعبي، إن تعصَّبَ، صار شوفينياً، وإن اكتفى بالموقف الوطني، زاد في تماسك الأمة. فالشرط الأول للموقف الوطني نأيه عن المصلحة الفردية.

قدوة معممة

منذ القديم وحتى العصر الحديث، نجد مثل هذا الموقف عندما يسود الموقف الأدبي الإنساني، الذي لا يتهاون في الكرامة الإنسانية. وحين نسمع بمثل هذا الموقف في العصور القديمة، نقول إنها أساطير، ولكنها تحدث أمامنا حتى هذه الأيام، ففي الهند أعلن غاندي موقفه الأدبي، واقتدى به المواطنون، فكان حجر الأساس لانطلاقة الاستقلال. وفي الدانمرك عندما ترتفع أسعار الزبدة مثلاً تعلن لجان حماية المستهلك موقفها في الامتناع عن شراء الزبدة، فتكسد فتضطر الشركات إلى تخفيض السعر إلى سابقه… وهكذا.

وفي ثمانينيات القرن العشرين وقعت حادثة أشبه بحادثة نساء بوسطن، ولكن بأعداد أقل هذه المرّة، فهنّ لم يبلغن المئة والخمسين امرأة. فقد قررت الشركات الكبرى في الفيليبين تسوية أرض واسعة تحت السدّ المائي، وهي عبارة عن سهل بين جبلين، يعيش فيه شعب الكالنجا. وهو شعب ورث الأرض عن آبائه. لا توجد ملكية، بل يعمل السكان فيها ويعيشون على منتجاتها. وفي المحادثات التي جرت بين الشركات وشيوخ الكالنجا عبثاً أمكن الوصول إلى نتيجة، فكان السكان يقولون إنهم ملك الأرض وليس العكس، فالأرض لا يملكها أحد، بل هي التي تملك، لأنها هي التي تنتج، وعلى إنتاجها يعيش شعب الكالنجا. كيف يملك الأرض من لا يعيش طويلاً، بينما تعمر الأرض إلى الأبد ويملكها الفانون؟

وعندما حانت عملية المسح لإقامة المنشآت، لم يستطع الشيوخ والعقلاء إقناع الدولة التي أمدت المسّاحين بفيلق من العسكر. وخشي النساء على أزواجهنّ من أن يصرعهم رصاص الجنود، فأخذن المهمة على عاتقهنّ. قمن بـ “عرض” ولكن ليس كعرض البوسطونيات، بل كان عرضاً هجومياً. أدرجن ثيابهنّ على شكل مقاليع وهاجمن المسّاحين والعسكر، وقد ارتبك الجميع وهربوا من أمام النسوة المهاجمات بشراسة، وكنّ يصرخن “إننا نقاوم! إننا ضدّ هذا العمل الذي سوف يقتلنا كشعب”؛ وبذلك أثبتن حق الأرض في امتلاك أبنائها، وأبَيْن أن يسمحن بأن يمتلكها أولئك الغرباء، فليذهبوا إلى الأرض التي ولدوا “منها” وليخدموها حتى تعيلهم…

والأمثلة كثيرة من بلدان مختلفة ومن أزمان مختلفة، كلها توحي بأن تعميم الموقف الأدبي شرط أساس لقيام مجتمع مدني يقف في وجه الطغيان والاستبداد، وحتى لا تنشأ حكومات ولا يظهر حكام خارج الموقف الأدبي الذي يفرضه الجمهور.

هكذا نضمّ صوتنا إلى صوت نورثروب فراي. فالموقف الأدبي ضروري للأمة حتى لا تتعنصر، وللوطن حتى لا يتعصب، وللفرد حتى لا يستعلي. وعلينا أن نكشف زيف الشعارات الوطنية التي تتمترس خلفها بقايا العصور الوسطى من أحزاب وتكتلات طوائفية، وأحلام عنصرية، وأوهام إقليمية.

والموقف الأدبي ليس ارتجالاً، بل ممارسة شعوب منذ أقدم الأزمنة. ويدلّ التاريخ أن الزوغان عن الموقف الأدبي، سيفسح المجال أمام التعصب القومي والعرقي والإقليمي..إلخ.

*********

(*) مؤسسة الفكر العربي، نشرة “افق”

(*) ناقد وباحث من سوريا

كلام الصور

1- الأديب والمؤرخ حنا عبود

2- غلاف “النسق المخيف”

3- غلاف “عالم في حبة رمل”

اترك رد