مارفن هاريس باحثاً عن ألغاز ثقافية

 

تحوي المجتمعات البشرية مظاهر قد تبدو غير عقلانية قياساً على ما قدمه التطور العلمي ومعها استخدام العقل. لكن هذه المظاهر في بعض المجتمعات تعبر، عند التدقيق قي جذورها، عن شيء من ثقافة هذا المجتمع او ذاك. وإذا كان مؤرخون يطلقون اسم أساطير او خرافات على اللامعقول في الظواهر الاجتماعية، الا انها تعكس ما في وجدان الشعوب من تمسك بموروثات ترى انها جزء من ثقافتها او هويتها التي يصعب محوها تحت وطاة التقدم العلمي والعقلي الزاحف في العالم. يشكل كتاب مارفن هاريس احد النماذج في دراسة انماط من العادات والتقاليد في عدد من المجتمعات البشرية، ويلاحق الكشف عن ألغازها. صدر الكتاب عن «المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات» في بيروت، بترجمة أحمد أحمد.

تغطي الحياة العملية للبشر الكثير من الأقنعة، بحيث تأتي أنماط الحياة مغلفة بالأساطير والخرافات. لكن هذه الأغلفة هي في الواقع ما تتسم به الشعوب من هوية اجتماعية وثقافية. لنأخذ بداية لغز موقع البقرة في الهند. فالبقرة عند الهندوس لها طابع من القداسة بحيث يحرّمون ذبحها، ويتركون لها موقعاً مهماً في حياتهم. تساءل كثيرون عن سر عدم ذبح الأبقار في وقت يعاني الملايين من الجوع، بحيث يمكن للأبقار النافقة كل عام ان تغطي قسماً كبيراً من آثار المجاعة في الهند. لكن الهندوس يرون في البقرة رمزًا لكل شيء حي، وهي أمّ الحياة. وعلى رغم الآثار الاقتصادية السلبية الناجمة عن تحريم ذبح الأبقار، ومعها الآثار البيئية وأضرارها، إلا ان الهنود ما زالوا يرفضون تشريع ذبحها للإفادة من لحمها. يشير الكاتب الى نظرة المهاتما غاندي الذي كان يرى ان البقرة بؤرة الصراع المركزية لرفع الهند الى مرتبة الأمة الحقيقية.

مثال آخر يتناوله الكاتب تحت عنوان «الذكر الهمجي»، والذي يتمثل بقتل الإناث كونه التعبير عن الفوقية الذكورية. فالتركيبة البنيوية ليست قانوناً لا رجعة عنه، بحيث ان «الاختلافات الجنسية الفطرية لا تفسر التوزيع غير المتكافئ للامتيازات والصلاحيات بين الرجال والنساء ضمن المجالات المنزلية والاقتصادية والسياسية». لقد اثبتت الدراسات انه لا يوجد شيء في الطبيعة البيولوجية للرجل والمرأة يقرر في حد ذاته ان يستمتع ذكور البشر بامتيازات جنسية واقتصادية وسياسية اكثر من الإناث. على رغم ان التاريخ البشري عرف نظمًا اجتماعية لعبت الأنثى فيها دوراً مركزياً في الهيمنة داخل الأسرة، وهو ما يعرف بنظام الأمومة، إلا ان تطور الحياة ومقتضياتها ادخلت الشعوب في حروب من اجل الحصول على الموارد الاقتصادية وبسط السيطرة على الآخرين. لعل هذه الحروب كانت السبب الرئيس في انتقال الهيمنة الى المجتمعات الذكورية. في هذا المجال ترى الحركات النسوية ان النساء ضحايا مؤامرة الذكور، لأن الرجال وحدهم تعلموا كيفية القتل باستخدام الأسلحة.

تحت عنوان «مهرجان الشتاء»، الذي يعود في أصله الى الهنود الحمر. يقوم المهرجان على ما يسمى الاستهلاك الاستعراضي والتبديد الاستعراضي، حيث يقوم المهرجان على التنافس بين اثنين حتى يمنح او يتلف احدهما ثروة اكثر من الآخر. فإذا كان القائم على المهرجان زعيمًا قوياً، فإنه يحاول إلحاق العار بمنافسيه وكسب الإعجاب الأبدي من أتباعه، عبر اتلاف الغذاء والكساء والمال. يشير الكاتب إلى ان مهرجان الشتاء كان في صميم أبحاث الكاتبة روث بنديكت في كتابها «أنماط الثقافة»، اعتبرت الباحثة ان مهرجان الشتاء هو جزء من نمط حياة ثقافة بعض قبائل الهنود الحمر، المتأثر بجنون العظمة في شكل عام. فكانه «كأس» منحها الله لهم ليتجرعوها. فكثيراً ما كان مهرجان الشتاء يذكّر بالاعتقاد القائل إن الثقافات هي إبداعات لقوى غامضة وشخصيات مجنونة. كما من أسباب عقد المهرجان هو حالة التعطش والهوس بالمكانة لدى زعماء القبائل حيث تقول بنديكت:» وإذا ما حكمنا على خطابات زعماء القبائل وفقاً لمعاينة جرائمهم، فهذا يدعى من دون ريب جنون العظمة».

تحت عنوان «عصي المكانس ومجمع السحرة»، حيث تشير التقديرات الى ان حوالى 500 ألف شخص كانوا قد دينوا بالسحر وأحُرقوا حتى الموت في أوروبا بين القرنين الخامس عشر والسابع عشر. وكانت جرائمهم: الاتفاق مع الشيطان، الرحلات عبر الهواء الى مسافات شاسعة راكبين على عصي المكانس، اللقاء مع الشياطين في الاجتماعات، عبادة الشيطان، تقبيل الشيطان… يتساءل الكاتب كيف يمكن ان يعتقد اي شخص ان السحرة يطيرون في الهواء على عصي المكانس، ولماذا أمكن لهذه الفكرة أن تحظى بشعبية واسعة في القرنين السادس عشر والسابع عشر؟ لقد أكد بعض المؤرخين ان هذا الخليط الشاذ والمعقد: الاتفاق مع الشيطان والطيران على عصا المكنسة الطائرة، والاجتماع بالشياطين، لم يكن حصيلة اعترافات من السحرة، بل كان اختراعاً من حارقي السحرة. كان التعذيب الوسيلة التي تجعل السحرة يعترفون بمثل هذه المسائل، فقد كان التعذيب يطبق بصورة روتينية حتى يعترف الساحر انه عقد اتفاقاً مع الشيطان وطار الى الاجتماع به. وإذا حاول الساحر التراجع عن اعترافاته، كان التعذيب يطبق في شكل مكثف حتى تستعاد الاعترافات الأصلية. ويترك ذلك الشخص المتهم بالسحر بين خيار الموت حالاً والسوق مباشرة الى وتد الحرق او العودة بصورة متكررة الى غرف التعذيب. معظم الأشخاص اختار الوتد. ومكافاة لموقفهم المتعاون، كان بإمكان السحرة التائبين ان يأملوا بالشنق قبل ان تشتعل النار.

تطرح الأمثلة المشار إليها، ومعها موضوعات من قبيل «محبو الخنزير وكارهوه»، و «عقيدة الأحمال الوهمية»، و «المخلصون»، و «سر أمير السلام»، و «هوس السحر الأكبر»، تطرح على الباحثين تعميق الدراسات الإنتروبولوجية للشعوب، لأن في نماذج أساطيرها ما يكشف النقاب عن طبيعة الثقافة والهوية وحتى السلوك النفسي لهذه الشعوب.

 

اترك رد

%d