كنت أتوقع من جدتي أن تطير فرحا عندما أخبرتها أن معلم الجغرافيا حدثنا عن البحر الميت، لم أكن أتوقع أن انبش في داخلها عن كميات من الوجع، وما أن ذكرت لها البحر الميت حتى أخرجت الآآآآآآآآه من أعماقها بحجم لا يتصوره العقل وهي تطلق صوتها المبحوح المتهدج الحزين:
طَويلَهْ يا دَمِعْ عِيني طَويلَهْ عَلى اللْي ماشِي اْلدَّرِبْ طَويلَهْ
وَانَا لَ ادْرِي ه الْغِيبَه طَويلَهْ قَبِلْ مَا مَشيتْ وَدَّعْتِ لِحْبَـاب
لم أصدق أني رأيت دموعها.
كثيرا ما كانت تحدثنا عن بحر يافا وموسم النبي صالح، عن البيادر والكروم، تحدثنا بفرح ممزوج بالحسرة.
لماذا البكاء يا جدتي ؟؟ قلت بصوت خفيض
مسحت دموعها بطرف “خرقتها” وقالت: هل أخبركم كيف مات؟ أو لماذا مات.. ؟
ابتسمت وقلت: لا يا جدتي، هم أطلقوا عليه هذا الاسم لعدم وجود حياة للأسماك فيها بسبب ملوحة الماء.
هزَّت رأسها وقالت: اسمع يا ولدي، كان البحر من أجمل بحار العالم، والأحياء الموجودة فيه لا يوجد منها في كل البحار، تراها تتراقص، تقفز فوق الماء وتعود مرة أخرى، وفي بعض الأحيان كانت تخرج إلى الشاطئ ترتاح قليلا ثم تعود.
قالوا كان فيه حوريات يخرجن عند المساء يتبطَّحن فوق رمل الشاطئ ثم يعدن إلى البحر تغمرهن النشوة والماء العذب.
عادت جدتي لدموعها وعدت لحيرتي، حاولت أن أقول شيئا، نهرتني وتابعت كلامها:
في شهر الهجرة،
ـ تقصدين شهر النكبة. قلت
ـ قلت لك لا تقاطعني، في شهر الهجرة خرجنا طردا من قرانا تلفنا أشعة الشمس، كانت أقوى من شمس آب اللهاب، الذئاب تطاردنا من كل الجهات، والرصاص ينهمر من السماء كأنه مطر كوانين، هدنا المسير والبكاء.
ـ والأطفال يا جدتي؟
قالت: من لم يمت بالرصاص مات عطشا، مات رجال ومات شيوخ، وعندما اقتربنا من البحر نحمل عار النكبة تلاطمت الأمواج، سمعنا هديرا.. صراخا.. بكاء.. صوتا يقول: لا ترحلوا لا ترحلوا لا ترحلوا، وعندما أيقنت الأسماك أننا لا نريد سماعها، بكت دموعا مالحة مالحة، وعندما وصلنا إلى الضفة الأخرى سمعنا دوياً ملأ الفضاءات زلزل الأرض تحت أقدامنا التي جرحتها الأشواك وحجارة الصوان، وعندما وصلنا عمان بعد يومين أو ثلاثة سمعنا أن البحر قد مات قهرا وحزنا فحرَّمت الأسماك على نفسها أن تعيش فيه.