قلتُ في نفسي: أبَدًا، لا! لم تُهمِلْني! ولن! هي منشغلة! إلّا أنّ الشّكَّ الخبيثَ ظلّ يُشعِلُني. وحاولْتُ أُجري “حِسابًا” بسيطًا. فماذا وجدتُ؟ وماذا اكتشفتُ؟ وماذا استنتجتُ؟ وماذا قرّرتُ؟ وجدتُ انشِغالاتٍ، لها، كثيرة. كثيرة حتّى لَيَضيق الوقتُ فلا تستطيع القيامَ بها جميعِها. وهذه حالةٌ نابضةٌ بالحياة، لا أعتبرُه تقصيرًا منها، ولا ضيقَ وقت! تهوى الحياةَ الاجتماعيّةَ الضّاجّةَ بالشّأن العامّ. هنا خدمة لجيران. هناك دَعْمٌ لأصدقاء. هنالك مساعدةٌ لمظلومين. فتُمضي نهارها في استقبال ووداع، والنّاسُ أَفواجٌ أفواج. حتّى مَن لا مشكلة له يلزمها حلٌّ، يتواجد. وجهُها بَشوشٌ دائمًا، حسنةُ المظهر، لائقةُ التَّصَرُّفِ، فلا تعبس بوجه أحد. تريد خدمةَ الجميعِ.
ووجدتُ أنّها تُضَحّي، في سبيل ذلك، لا بوقتها فحسْبُ، بل بهناءتها وسكينتها وصحّتها. تعجز عن إيجاد الوقت لعيادة الطّبيب! بوساطة الهاتف تسأله استشارة أو ما زاد على ذلك، لها، وللسِّوى. وهي، يوميًّا، تعجز عن تناول الدّواءِ في وقتِه.
فكيف، إذًا، أتّهمُها بإهمالي!؟
من هذا، كلِّه، اكتشفتُ أنّها تهوى الغير فوقَ ما تهوى نفسَها! في هذا قِمّةُ التّضحيةِ، فهل “أعظمُ من هذا، وهو أن يُضحّيَ المرءُ بذاته في سبيل الآخر!؟” هي التّضحيةُ الفائقةُ، أقلُّه، الموازيةُ للحبّ: “وما من حُبٍّ أعظم من هذا، وهو أن يبذلَ الإنسانُ نفسَه، في سبيل من يُحِبّ!”
وبهذا اكتشفتُ أنّها تحيا القِيَم! فكمِ ارتفعتْ في عينيّ، في قلبي! فأنْ تحيا القِيَمَ يعني أنّها لا يُعقَلُ أن تنساك، أو تبتعدَ منك، أو تُهمِلَك. فماذا يحصُل!؟ يحصُلُ أنّها تُساويك بنفسِها! تُضحّي بوقتها، بصحّتها، بنفسِها، في سبيل السِّوى، أفَلا تُضحّي بي، أنا الحبيب!؟ فـ”مَن ساواك بنفسه، ما ظلمَك”!
فهل يُمكِنُ، إذًا، أن أتهمَها بالإهمال، إهمالي!؟
ومن هذا كلّه، ماذا استنتجـتُ؟
أرغب في استنتاج أنّ الحُبَّ غيرُ مُنقَسِمٍ! فلا حُبَّ للشّأن العامّ ينقسِمُ عن حُبّ الخدمة، خدمة الآخر، وإن كنّا لا نعرفُه! ولا حُبُّ الخدمةِ ينقسِمُ عن حُبِّ الأهل، الأقرباء، الجيران، الأصدقاء، الآخرين الّذين لا نعرفُهم، الإنسانيّة جمعاء. ولا ينقسِمُ هذا الحُبُّ عن حُبّ الحبيب!
ألحُبُّ حُبٌّ! وكَفى. هل يُنعَتُ بغيره!؟ أيُّ نعتٍ يُضاف إليه، هو إمّا من خارجه، فيبقى غريبًا عنه، بعيدًا منه، لا يُشبِهه في شيء؛ كأن يُقال: الحُبُّ الكبيرُ، مَثَلًا، فهو نعتٌ باردٌ لا يُضيفُ، ولا يُعَرِّفُ. وإمّا هو نابعٌ منه، فَيضٌ من فَيضه، فهو قيمةٌ من قِيَمه! كأن يُقال: الحُبُّ الصّادقُ! لكنَّ الحُبَّ، في جوهره، صادقٌ. ألصّدقُ قيمةٌ من قيمه، فما يكون أضاف، هو الآخر، أيَّ نعتٍ مُفيد!
وأستنتج، تاليًا، وبعدُ، أنّ الحبَّ حُبٌّ! فحين نقول: ألحبُّ الإلهيّ، أو الصّوفيّ، أو العُذريُّ، أو العميقُ… راغبين في التَّمييز، نكون وقعنا في التّمييز الشّكلانيّ. ألشّكلُ ليس قيمةً، ليس جوهرًا. وحين نقول: ألحُبُّ العقلانيُّ، أو المادّيُّ، أو الجسديُّ… نكون وقعنا في تمييز في غير محلّه! فهذا النّوعُ، أو الشّكلُ، من “الحُبّ”، ليس حبًّا. إنّه أمرٌ آخر. أمرٌ آخر مختلِف.
والسّؤال، الآن: ماذا قرّرْت!؟
بالبساطة المتناهية إلى حدود السّذاجة، قرّرتُ الإبقاءَ على حُبّي! أرى أنّها لم تنسني! لم تتخلّ عنّي. لم تُهمِلْني.
ألدّليل!؟ إحساسي لا يريد دليلًا. إنّه دليلُ نفسِه! لا أزالُ اُصدّق، بل أومنُ، بأنّها أُنثى القِيَم! وأُنثى القِيَمِ من نَسْلٍ قُدْسيّ، فهي تحِبُّ، تُحِبُّ، لا تخون! حبيبتي حبيبةٌ حقيقيّةٌ!
ألاثنين 1- 8- 2016
elie.khalil@hotmail.com