وقفة مع ق ق ج “العوز” للقاص زين الدين بومرزوق
نحن أمام أديب يتنفس صدره حروفا بأريحية و سلاسة، وتتجول الجمل على مرايا صفحاته بيسر وانسيابية ، لا يتلهى باللعب على حبال اللغة، فمصدر سحره ذائقة سليمة وخبرة طويلة صقلهما تمرسه بالقصة القصيرة وقتا طويلا.
ورغم أسبقيته وحرفيته الفنية في خوض فن ق ق ج فهو لا يميل إلى إرباك القارئ ، و لا إلى إزعاجه بطرح التساؤلات، لا يوظف الحذف، لا يستغل السرعة في الأحداث.. فما هي التقنيات الخاصة به التي يراهن عليها ؟هذا ما سنحاول توضيحه.
العوز ..عنوان مستفز، من من القراء أو من الطبقة المثقفة من لا يدين له ، ومن لا يريد أن يأخذ منه ثأرا؟ بهذا الاستهلال يصطاد فئة عريضة من المتابعين، فربما تكون قراءة هذه القصة مخففة نوعا ما من المعاناة. أعتقد أنه عرّف العنوان لغرض معين، و هو أن يطبع ثقل ظله على القصة كلها، يمارس تأثيره كأنه موسيقى حزينة ترافق القارئ طيلة العمل الأدبي. ولا يعني كاتبنا أن يكون عنوانه إجابة لانشغالات النص، فهو متحلل من كل عقد بينه وبين القارئ إلا المتعة والغرابة وفوق ذلك الاقتناع بحميمية العلاقة التي تربطهما معا.
والعوز صفة مشبهة تدل على الثبوت والدوام ، وهي تدل على الفقر الملازم لصاحبه فترة طويلة، مما يجعل المسألة ذات طابع إنساني صرف تستحق منا الوقوف إزاءها طويلا .
لقد استحال العوز مع مرور الوقت عند بطل القصة إلى عشق للشيء المحروم منه، و هو الأوراق النقدية، يشمها، لأن النظر إليها لا يشفي الغليل و كذلك اللمس، الشم وحده هو ما يطفئ بركان الحاجة، فعن طريق الأنف تدخل إلى الذات، و تصل إلى الدماغ، عساها أن تقنعه للحظة خاطفة أنه مالك من الملاك، لا يفعل هذا الأمر بعقلانية بل بلهفة جنونية لأنه يعرف أنها سائحة وغير وفية ، ستفارقه بعد قليل، ولن يتمكن من شم رائحتها وإن رائحتها لتشم على مسافة رمش عين من الخيانة و بيع الضمير.
مع بداية تفاعله مع هذه العملية، يكون قد وضع قدميه على عتبة الجنون، و إذا كان الجنون فنونا، فإن بطلنا فنان قدير وقديم، لا يتذكر متى بدأ هذا الفن، إنه إبداع من نوع خاص أن يستقبل الأوراق النقدية بأنفه، ترى كم يد مرت عليها؟ تختلط رائحة عرق الفقراء فيها برائحة الأغنياء، من يدري فلعلها خرجت الآن من خزينة غني؟ التبرك مطلوب، لعل عدوى الغنى أن تناله .
صفة شم الدراهم تحاصر صفات أخرى، غالبا ما تكون توائم، الطيبة، سمو الأخلاق، التعفف.. هذه مجتمعة إن لم تكن عنوانا للعوز، فذروتها الكفاف..لا يمكن أن تستمر حالة العوز والاشتياق إلى الدراهم دون أن تؤثر على حياة الإنسان، ظهرت الآثار هنا على شكل انهيار عصبي أودى به إلى المستشفى.. هبوط في المستوى النفسي جراء الإحباط من عدم تغير حياته أو تقدمها، و تدهور لحالة الجسد من قلة التغذية والسهر في التفكير في الوضعية المأساوية التي يعيشها .
هذا الانهيار بسبب احتياجه إلى المزيد من الدراهم لاشتمامها، وصل إلى درجة أنه لم يعد يشبعه هذا النزر القليل، إنها عتبة الإدمان، كأن الدراهم أصبحت من الممنوعات على هذه الطبقة المسحوقة تحت حذافير أطماع الأثرياء، و لا مبالاة أهل الكفاف.
لا يذكر القاص الزوجة إلا في النهاية، كأنه لا علاقة تربطه بها، فالفقير يدخل المنزل دون احتفاء به، لأنه لا يحمل معه شيئا، ها هي الزوجة المسكينة تتحمل تبعة العقد الذي يربطهما معا .
القصة لا تلخص لحظة آنية بل أحداثها قديمة، و إن شئت قلت حدثها الذي هو شم الأوراق النقدية له جذور ضاربة في تاريخ بطلنا، أما مزاحمة هذا الفعل للطيبة وسمو الأخلاق والتعفف فهي فعل ثانوي، و بالتالي رسميا تبدأ ق ق ج بعبارة (فجأة) حيث يبدأ تحفيز الذهن للمكائد اللغوية، باعتماده على تنامى الأحداث و تطورها لتنفجر في الأخير عند الموقف الذي أراد أن يضعنا أمامه .
لا يريد القاص زين الدين أن يقول كاد الفقر أن يكون جنونا، بل يقنعك أنه الجنون ذاته، و حالة مرضية مثل أمراض الإدمان .
و هو في هذه القصة يعالج موضوع العوز من الناحية النفسية مبتعدا عن الجانب الاجتماعي و السياسي، فالموقف لا يتسع لإيحاءات لا تخدم لب الموضوع، إضافة إلى أنها تشوش فكر القارئ وبالتالي تصعب لملمة الحصيلة من جديد للخروج بقفلة موفقة .
لا يتطلب منا فكرا ثاقبا لنعرف أن تقنية القصصية بارزة في النص أكثر من أي عنصر آخر وذلك بما تحمله من أسلوبية، لا يجدف كاتبنا خارج الحكي قيد أنملة، إنه التزام يرافقه مع كل نبض لحروفه، تليها المفارقة الجميلة في القفلة، و كذا َإضافة شخصية مهمة جدا في ختام السرد وهي الزوجة، ومخاطبتها، مما يجعلها ترث البطولة، والبطولة هي حمل ثقيل من تبعات الفقر، هذه الإضافة لها دورها في بعث دم جديد في القصة، ولها رمزية في استراحة البطل و انتقال وصايته إلى زوجته، و قد جسدت بكل براعة عنصر الدهشة. كما أن طابع الأنسنة يهيمن على الموضوع منذ بدايته، دون أن نغفل نصيبه من الجرأة اللغوية التي بدت في ذروتها عند توظيفه لعبارة (شمام مخدرات) لما فيها من الإيحاء بالصعلكة، ناهيك عن كونها عامية التداول رغم أنها فصيحة التركيب، كناية عن الإدمان .
تكمن جمالية هذا النص في هذه الخاصية التي لا يستطيعها إلا المتمرسون وهي توظيف جمل طويلة نسبيا في ق ق ج، و هي مفارقة الإبداع في العمل الفني، فنحن نرى عادة التزاما شكليا بقواعد هذا الفن وانسلاخا من مضمونه من قبل الكثير من الكتاب، في حين يغوص بنا القاص زين الدين في لبه دون استعانة بالشكليات التي من شأنها أن تسهل له المهمة أكثر، وقد طوّع له هذا الفن بصورة واضحة نوع من الذكاء الأدبي يعمل على تجميع الصور الشكلية في الدماغ ويمنحها للكاتب وقت الحاجة إليها في صور إنسانية، فالمؤكد أن الخيال قد أمد الكاتب بصور عديدة و مختلفة، و قد اختار منها بكل توفيق صورة الشم الملتصقة بالمخدرات، فمن الذكاء أن تحسن استغلال القوالب المخزنة التي تعرض عليك .
لئن حوت القصة رموزا عديدة عن طريق الإيجاب، ففيها رموز موحية عن طريق المخالفة، منها أن هذه الأوراق النقدية هي مخدرات بالنسبة لخازنيها، و سر عدم ظهور علامات التوتر عندهم كونها بين أيديهم طوال الوقت، مما حقق لهم الإشباع الكافي، يوم يفقدونها سيصل البيان إلى زوجة كل واحد منهم: زوجك شمام مخدرات..
القصة القصيرة جدا
العوز
كلما امتلك ورقة نقدية إلا ومررها على أنفه بلهفة جنونية يشتم رائحتها قبل أن يسلمها خشية أن لا يمتلك واحدة مثلها، حتى عرف بهذه العادة التي لم يعرف أحد وحتى هو متى توطدت فيه، هذه الصفة زاحمت طيبته، سمو أخلاقه، تعففه، فجأة تنهار قواه العقلية و الجسدي.
البيان الطبي : زوجك شمام مخدرات .