لم أكن قد سمعتُ باسم الكاتبة السودانية ليلى أبو العلا، في الأدب العربي. قد يعود السبب الى أنها تكتب بالإنكليزية. هذا ما علمته لاحقاً، بعد مصادفة تعرفي عليها. وكان ذلك بفضل مكتبة المدينة، التي رعت ورشة كتابة إبداعية شاركت فيها الكاتبة كضيفة وكاتبة مقيمة في المدينة. مصادفة طيبة فتحت أمامي نتاجاً كنتُ أجهله، برغم أنني أسكن في هذه المدينة منذ مدة طويلة.
حصلت كتب ليلى أبو العلا على جوائز مهمة، منها جائزة كين(Caine) الأولى للكتابة الإفريقية، عن روايتها ” المترجِمة”. وقد صنفتها النيويورك تايمز من ضمن المئة كتاب الأكثر تميزاً للعام 1999، فور صدورها. والتي وصلت للقائمة الطويلة لجائزة سالتير(Saltire1) وللقائمة القصيرة لمسابقة أورانج (2 Orange). وكذلك وصلت لنفس المسابقة روايتاها اللاحقتان: “زقاق الأغاني” و”المنارة”. والأولى نالت جائزة الكتاب السكوتلندي. ووصلت للقائمة القصيرة لجائزة الكومونولث. ترجمت أعمال ليلى أبو العلا لأربعة عشر لغة وهي تعيش حالياً في أبردين، سكوتلندا. آخر رواياتها “لطف الأعداء”(3).
هنا عرض لروايتها المترجِمة، التي تمت إعادة طباعتها ست مرات، حتى اليوم. تسردُ الرواية سيرة شخصية لسيدة سودانية، اسمها سمر، تعمل في الترجمة. وتعيش في أبردين، المدينة السكوتلندية الباردة، بعد أن يتوفى زوجها بحادث سير عبثي. كان زوجها طارق يعبر الطريق بدراجته الهوائية نحو المستشفى الذي يتخصص فيه، فصدمته سيارة، لم يتمكن سائقها من رؤيته، بسبب شعاع الشمس المبهر للعين.
وتتحول سمر فجأة من زوجة الطبيب الشاب الطموح والأم الشابة، إلى أرملة وحيدة لا تعرف أحداً في هذه المدينة الباردة الرمادية. المدينة التي لا يسطع نور الشمس فيها إلا ما ندر، وبشكل مائل.
ستكون طقوس جنازة طارق، التي امتدت لأسبوع، مناسبة لتعرّف سمر على بعض أعضاء الجالية المسلمة في مدينتها تلك، ممن تكفلوا بغسل الجثمان والصلاة عليه في مسجد المدينة، ومساعدتها في أمور ترحيله إلى الخرطوم لدفنه في مدينته. دون أن يفارقوها، هي و وحيدها أمير، ابن السنتين.
تستقل سمر الطائرة التي تحمل جثمان طارق، ممتلئة بالحسرة والقهر والضياع، عاجزة عن استيعاب أسباب ونتائج ما حصل معها.
ستقرر سمر العودة الى سكوتلندا،هاربةً من واقعها كأرملة، وخوفاً من أن تصبح زوجة ثانية أو ثالثة لأحدهم. بعد أن اقتنعت برأي عمتها محاسن، التي تكفلت برعايته. لم تكن خطوة العودة تلك، التي رسمت لمصير سمر مساراً آخر، ناتجة عن قوة شخصيتها. فهي من النوع التابع، غير طموحة وتفتقر للمبادرة الذاتية. ولذلك فقد كان لإصرار عمتها عليها بأن تبدأ انطلاقة جديدة في حياتها. خاصة وأنها تحوز على الجنسية البريطانية.
حين تستشير عمتها بقبول طلب الزواج الذي عرضه عليها أحد أقربائها المتزوجين، الذي يقوم بواجبه الديني تجاهها كأرملة؛ تغضب عمتها منها. وتمنعها بحزم:
“امرأة مثلك متعلمة، وتتقن الإنكليزية.. بإمكانك تدبير أمرك وأمر ابنك، ولست بحاجة للزواج. وهو يستطيع إنفاق حسناته بعيداً عنا”.
بعد عودة سمر إلى اسكوتلندا، ستجد عملاً كمترجمة في قسم الدراسات السياسية والعلاقات الدولية، في جامعة أبردين، مع زميلها “راي” وأحد ألمع أساتذة القسم. والذي يعتبر من المحللين السياسيين المعروفين على مستوى المملكة المتحدة، والمتخصص بقضايا الشرق الأوسط والإسلام. تبدأ سيرة شبابه بتجربة فاشلة ومؤلمة، في المغرب، حيث جرب زواجاً عنيفاً بسرعة حدوثه ونهايته إثر إنجاب طفل ميت أيضاً.. فكان أحد محطات رحلته، في تتبع خطى عمه، المتهم بالخيانة، كجندي إنكليزي، اختار العيش والزواج في مصر. أثناء تواجده في المغرب تعلّم راي اللغة العربية. ليقوده لاحقاً اختصاصه الجامعي واهتمامه بالإسلام إلى فرصة عمل كمدرس أيضا في القاهرة، بعد تخرجه وزواجه الثاني من طبيبة تعمل في منظمة الصحة العالمية. سينتهي زواجه الثاني أيضاً بالطلاق، وطفلة تركها تعيش مع جدها وجدتها لأمها في إدنبرة.
ترمل سمر الشابة وعملها كمترجمة في القسم، مع راي المطلق والوحيد؛ سيهيئ لنشوء علاقة الحب بينهما. وسيظهر اهتمام راي بالإسلام في الرواية، بوصفه أكثر من مجرد تعاطف مع السيدة التي يحب، أي سمر، بل يتجاوزه كرأي راسخ بأن تشويه الإسلام وتناوله بشكل تقليدي، في الإعلام الغربي، ليس أكثر من أسلوب سياسي طائش ومقصود في إدارة الأزمات من قبل الغرب.
يتعرض راي لاتهامات كثيرة وشتائم من قبيل: تدافع عن الإرهابيين، اذهب إلى الجحيم أنت وأولئك المجرمون الخ كلما علق إذاعياً أو إعلامياً على حادثة تتعلق بالإسلام والمسلمين.
في سياق هذه المعطيات يحدث التقارب بين سمر وراي ويتبادلان المشاعر والعاطفة القوية والبوح الطويل، عبر أحاديث طويلة في عدة أماكن منها بيتهُ.. حيث تكون سمر في رفقة زميلتها الباكستانية المسلمة.
تسرد سمر أحاديث طويلة تتعلق بحياتها بين عالمين، السودان وأبردين، عبر رسم التفاصيل والوصف الدقيق لليوميات، من شروق الشمس هنا وهناك. إلى ألفة صوت المؤذن.. إلى الفارق بين إقامة فريضة الصلاة في السودان أينما كان، سواء على الرصيف، في البيت، في الحقل..الخ وبين إقامتها في أبردين، بصورة متقشفة حبيسة غرفتها او مكتبها في الجامعة. أو متعة الصيام في بلدها، برغم صعوبة الطقس والحرارة والعطش، والإفطار على ضوء شمعة في الخرطوم التي تنقطع عنها الكهرباء.
تفاصيل الغرفة الصغيرة في سكن طلابي حيث تتقاسم معهم هاتفاً عمومياً تمضي مع راي عبره ساعات من الأحاديث التي كانت نافذةً نقلتها إلى واقع جديد وغريب، لم تكن تتوقعه في حياتها. عشق شخص أجنبي، غير مسلم، تخيّل تفاصيل تطور هذه العلاقة بعد أن تصبح زوجته وتطبخ لراي، وتوافق على أن تعيش معهما ابنته الوحيدة من مطلقته السابقة.
لكن أحلام تحقق الزواج تتلاشى، حين تطلب من راي أن ينطق بالشهادة، لكي يصبح زواجهما مسموحاً في شريعة دينها. دونما حاجة لأكثر من وجود شاهدين، يمكن أن يكون أحدهما فريد وهو زميل لراي، فلسطيني لبناني ويسكن في ستيرلينغ.
“سأحدثك عن الشهادة، عما تعنيه؟ تنفست بعمق واسترسلت. إنها عن شيئين معاً، تبدآن بكلمة أشهدُ. ومعنى أشهدُ، أن تثبت تصريحك وولاءك لشيء غير ملموس وغير مرئي، لكنك تعرفه في قلبك، لا إله إلا الله، لا يعبد سواه.أما الشق الثاني: أشهدُ بأن محمداً رسول الله، ليس فقط للعرب الذين رأوه وسمعوه بل لكل شخص وفي أي زمن.”ص120
“أتعلم ماذا يعني قبولك لنطق الشهادة؟ نعم أعرف، لطالما عرفت معنى ذلك.”
لم يكن زواجها من طارق يشبه ما تقترحه لراي. بل يشبه الزواج حين عاش الناس بالإسلام الأول فقط. في زمن الرسول لزم الأمر شاهدين وهدية، هدية بسيطة حتى لو كانت آيتين من القرآن. حفظهما الزوج عن ظهر قلب إن لم يكن لديه ما يمكنه من شراء هدية”. ص122
ياسمين الزميلة الباكستانية المسلمة، توقظ سمر من أحلامها، إذ تقول لها: “هل جننت؟ لن يشهر إسلامه سيكون ذلك بمثابة الانتحار المهني له”.
حين يرفض راي طلب سمر بوضوح ودقة، أي رفض الشهادتين، ويطلب منها أن تتركه وشأنه، لن تتردد هي الأخرى بفعل ذلك حرفياً.
فستسافر لإنجاز مهمة الترجمة التي أوكلها إليها، حول بعض الوثائق المتعلقة بقيادات أحد الحركات الدينية المتطرفة في القاهرة. وهناك تقرر السفر إلى بلدها، عازمة على البقاء في سكينة البعد، وعدم العودة إلى المكان الذي جمعها بـ راي.
ستمر عليها بضعة أشهر هناك، دون أن يموت وأملها في تلقي رسالة من راي، تحمل الطلب إليها بالتراجع عن قرار استقالتها، أو حتى فقط أن يسألها عن حالها. في الأشهر التي تمنت فيها سماع أي خبر من زميلتها ياسمين يحمل أية معلومة عنه، ولو كان ذلك من قبيل تعيين موظفة بديلة عنها، لكن ياسمين كانت قد غرقت في عالمها الجديد، الأمومة، وتستعد للانتقال للعيش في قطر حيث وجد زوجها عملاً في قطاع النفط.
لكن المعجزة العاطفية تحصل، حين تتلقى سمر رسالة من فريد، الذي طلب منه راي أن يستقصي فيها مشاعرها تجاهه، وإمكانية قبول زيارته لها ولعائلتها؟
تكثفت حالة سمر العاطفية في آخر الرواية برسالة جوابية مختصرة منها لراي” أنا هنا ستجدني بانتظارك”.
وتنتهي الرواية بزيارة راي العاشق، لعائلة سمر في الخرطوم. حين يدق بابهم ذات صباح حار، وتكون سمر بانتظاره منذ ساعات بل منذ أشهر.
***
في الرواية قصة حب بين عالمين مختلفين بالمطلق، ليس فقط في المناخ والطقوس الاجتماعية، بل وفي التناقض الجذري في التعاطي مع دور الدين في الحياة. بين سمر التي يحدد دينها جوهر نظرتها لنفسها وللحياة، وبين راي كمسيحي المنشئ نشأة وكملحد سلوكاً لا يضيرهُ بالعمق أن يتبنى هوية ما جديدة كي يظفر بما هو أعمق، أي الحب. معتبراً الدين شيئاً ثانوياً، يمكن العيش بدون رأي حاسم فيه.
النهاية التي اختصرت عملية التصالح بين الهويتين المختلفتين، لم تأت على أرضية القبول بالخلافات أو التفاهم عليها، بل أظهرت تغلّب الحب من الطرف المتحرر من سيطرة الدين.
وهو ما تجلى في إشهار “راي” لإسلامه من أجل حبه، مقابل سمر التي لم تتنازل عن شرطها على “راي” بترديد الشهادة، بل ذهبت أبعد في ردة فعلها، وتركت وظيفتها في بلد محترم منحها جنسية وعملاً.
إشكالية تضارب الهويات، والتي نشهد تجلياتها كثيراً الآن في بريطانيا والعالم، تعيق عمليتي التلاقي والاندماج بين الثقافات. وبخاصة المتناقضة منها كالهويتين الإسلامية والغربية. وهنا يمكن للقارئ أن يستخلص قابلية العنصر الغربي- ممثلاً براي- للانفتاح أكثر على الأخر.
في سياق المشاعر المتصاعدة بين العالمين، ممثلين براي وسمر، يفشل الرهان على الحب كأداة سحرية لحل معضلة الاندماج بين الهويتين المتناقضتين، بغض النظر عن التحصيل العلمي للطرفين.
لا تقدم الرواية أي رؤية أو طرحاً خارقاً لإمكانية حلول مثل هذه المفارقات الهوياتية. بل أحرزت نجاحاً سهلاً لصالح سمر- كممثلة للهوية المسلمة- بصمتها وهدوئها، وعدم تطلبها لأكثر من إشهار الإسلام من قبل شريكها. برغم تأكيدها على أنه شرط شكلي، بالنسبة لها. ولكنه أساسي بالنسبة لمجمعها.
يمكننا أن نلمس تكثيفاً لموقف الروائية ليلى أبو العلا، من موضوعي الهوية والاندماج، في النص الصغير التالي، الذي اقتبسته من الكاتب السوداني الأشهر الطيب صالح:
“في اليوم الثاني لوصولي، استيقظت وقد انقشع الضباب، في فراشي المألوف في غرفتي التي شهدت الأحداث العادية من طفولتي وبداية مراهقي وشبابي.
سمعتُ هديل حمامة، ونظرت عبر النافذة فرأيت شجرة النخيل في باحة درانا. نظرتُ لجذعها المستقيم وفي جذورها الضاربة بقوة في الأرض وفي أغصانها الخضراء المتدلية بارتخاء من قمتها. واختبرت شعور الطمأنينة. لم أشعر بأنني ريشة في مهب الريح بل شعرت بأني كشجرة النخيل، مخلوق لي أرض وجذور”.
*ليلى أبو العلا: كاتبة سودانية تقيم في أبردين صدرت لها عدة روايات نالت استحساناً نقدياً مهماً وكذلك جوائز مهمة على صعيد أفريقيا وبريطانيا.
(1) و(2) جائزتا أورانج وسالتير هي جوائز إبداعية مهمة في بريطانيا وسكوتنلدا على التوالي.
(3) روايتها الأخيرة: لطف الأعداء صدرت 2015 وترجمت إلى العربية في بلدها السودان.
*****
(*) الرواية نت