قرأتُ، صباحَ هذا النّهار، على صفحة أحدِهم “الفايسبوكيّة”، جملةً شهيرةً بالفرنسيّة، هذا تعريبُها: “نُخطئُ، مرارًا، في ذي الحياة، فنُعطي لإنسانٍ ما، مكانةً في حياتنا، لا يستحقُّها أبدًا!”
كم صحيحٌ هذا القول! كم خائبٌ مَن كتبَه، ومَن جعله على صفحته!
هذا القولُ صحيحٌ، بَدْءًا، لأنّه نتيجةُ تجربةٍ إنسانيّةٍ واقعيّة حميمة صادقة جارحة، في إثر تجربة. يتحدّث، هو، أوّلًا، عن معاناة خاصّة وعامّة. فكم أخطأْنا في اختيار “صديق”. نصدّق مَظهرَ صدقِه قولًا وعملًا. نقرّبُه. نَثِقُ به. نفتحُ له بيتَنا والقلوب. نُصارحُه. نبوح له بما نعتبرُه من أسْرارنا. لا نُخفي عنه شيئًا، بحيث لا نُبقي لنفسِنا ما لم نكشفْه له. نُكاشفُه، حتّى، بما نفكّر فيه من مشاريعَ مُستقبليّة، في ما نحلُم به، ونتوقُ إليه، ونتمنّاهُ، فلا يكونُ منه إلّا الغَدْرُ والخيانة. وإنّكَ إذ تَمْحَضُ “الصًديقَ” هذا، محبَّتَكَ كلَّها، وتُفاخِرُ به، فلا تبخلُ عليه بشيء، مادّيًّا ولا مَعنَويًّا، في كلّ زمن، وكلِّ مناسبة، يُشَلِّعُكَ أنّهُ سريعًا ما يعملُ على “نَهْشِكَ” غيرَ مقدِّرٍ لك ما وَجَبَ. وأنتَ تَصْفَحُ!
لكنّ آلَمَ ما في الأمرِ، والأكثرَ فَجائعيّةً، أن تُصفَعَ منه، نفسُه، غيرَ مرّةٍ! كيف!؟ بريءٌ! أنتَ. بريءٌ وساذج. تُطعَنُ وتغفر! يُغدَرُ بك وتَصفَحُ. يَخونونك وتُسامِح.
تَغفرُ، تصفح، تُسامح! فإمّا أنتَ صاحبُ غَباوةٍ لا تُدانيها غَباوة؛ وإمّا صاحبُ سَذاجةٍ لا يمتلِكُها أحد؛ وإمّا صاحبُ صَفْحٍ قُدسيّ إلهيٍّ يفوقُ صَفْحَ القدّيسين! تصرخُ: “إرحمْني، يا أللهُ! كعظيمِ رحمتِك، وكمثل كثرةِ رأفتِك، امحُ مآثمي. إغسلْني كثيرًا من إثمي، ومن خطيئتي طهِّرْني..!” ويستغلّ الخَوَنةُ طيبتَكَ! والغادرونَ تَواضُعَكَ! يعتقدون أنّك المُذنِبُ، وها أنّك تُصَلّي، تبتهلُ، تتضرّعُ، ليغفر اللهُ ذنوبَك تجاههم، ومَساوئكَ إليهم. ولا تَتوب. تستمرُّ على طبيعتِكَ الهادئةِ، وأخلاقِكَ المِثال. ولا تندمُ، أنتَ، لا! لا! لا تندمُ!
إذًا، لستَ غبيًّا، أنت! ولا ساذجًا! تمتلك، أنتَ، مَلكةَ صَفْحِ القدّيسين! تؤمن بتوبتِه، “صديقـ”ك أو “حبيبـ”ك!
ويتحدّثُ، تاليًا، عن طبيعة، في النّاس، سيّئة شرّيرة. لا يعني هذا أنّ النّاس، جميعًا، سيّئون أشرار. قد يكونون قلّة. لكنّهم قلّة تطغى على الكثرة. فالسّوءُ والشّرّ أسرعُ انتشارًا. إنّما المأْساةُ، المأساةُ الأكثرُ عُمقًا، والأقدرُ نفاذًا في الوِجدان والقلبِ، فرديًّا وجَماعيًّا، شُعورُنا بأنّ الأقربَ إلينا، هو الأمْيَزُ غدرًا، والأبلغ سوءًا وشرًّا. فهو، ولا شكّ، قادِرٌ بكونه الأكثرَ قُرْبًا. وبكونه يعرفنا، ويعرف أحوالَنا وشؤونَنا ومَصالحَنا و”كلَّ ما هو لنا، أو علينا!” لِذا يأتي غدرُه مُحْكَمًا، أكثرَ إحكامًا. والمَثَلُ الأشدُّ وضوحًا، والأنفذ جراحًا، غَدْرُ “الحبيبِ” و”خيانتُه” و”إهمالُه” و”سُكوتُه” حين يتوجّبُ الكلامُ: توضيحًا لغياب، دعْمًا لرأيٍ، إفصاحًا عن موقف، إقرارًا بنَقصِ اهتمام… هذا يؤذي “الحبيب”! وأنت تعرفُ أنّ “أذى” حبيبِك هو الأشدُّ عُتُوًّا، الأعمقُ تأثيرا، الأبعد إيحاءً بـ”التَّخَلي”!
هذا يُيبِسُ، فيك، الشّوقَ؛ يُطفِئُ الشّغف؛ يُبرِز طَعمَ الرَّماد!
وكم خائبٌ مَن كَتَبَ هذا القَول! ومَن جعله على صفحته شهادةً للعابرين! هو يُشير إلى آلامه عن كاتبه ـ مُختبرِه، وعن نفسِه. وهو إمّا غُدِرَ به، وامتُهِنَت كرامتُه، وأُذِلَّ، غيرَ مرّةٍ، فما استطاع يحتملُ! وإمّا تراءى له ذلك، أحَسَّ به، ضُيِّقَ عليه حتّى الاختناق. حتّى فيضان القهر في نفسه والرّوح، وتبخَّرتْ، فيه، الرّغائبُ والآمال. وإن “مَقدودًا” من صَخر! فالعاشقُ الحقُّ أوهى من فَراشة! أرَقُّ من ضَوعِ بنفسجةٍ متواضعة!
“فمَن له أذنان سامعتانِ، فلْيسمعْ”!
الأربعاء 27 تمّوز 2016