بنات الملوك اللواتي يجمعنَ الذكاء مع الملاحة، والفطنة مع الصَّباحة، يفترُ النَّعيم أَلحاظهنّ ويرخِّم ألفاظهنّ، وتترقرق نضارة الصِّبا في وجناتهنّ مع خَمر الخَجَل، ويَبلِلنَ بَسماتهنّ بشتيت الدرّ، وينضحنَ بلطيف كلامهنّ عن أنوار الثقافة، وهؤلاء هنّ ” نساءٌ رائدات “.
املي نصرالله سرى أمامها أَرَج القَصّ فناسمته من أحاديثها بما هو أَقَرُّ لِعينه وأشهى الى نفسه، فما قطعَ كلامها من رعايته وحفاظه. وكانت العلاقة به كَغُنج الحركات، تلقائيّةً مُعجِبة، ودقيقةً متينة، لو جُذِب عضوٌ منها لانفطرت، وهي أشبهُ بندى الربيع الباكر على الزَّهر الرَويّ. وكأنّ فنّ القَصّ انتظر طويلاً، وبِتَحَسُّر، انكشافَ حجاب الحياة عن املي نصرالله، فانفرج فمه وكأنّه حلقة خاتم.
املي الرائدة في الرواية، يُستَظرَف سردها الرَّقيق، فلا يتمرّغ قارئها في التراب ولا يلطم وجهه. وإذا كانت البساطة تريد ما تَحجّ عليه الى الجَمال فما لها أصلَحُ من ” الجَمر الغافي ” و “لحظات الرَّحيل”. فالأوصاف التي كانت املي بَصيرةً بصنعتها، جاءت جذّابة بأسلوبها الذي يحمل على تَشَهّي المتابعة. وأمّا السَّرد فلم يكن أسمى ما تصبو إليه املي نصرالله تزويقاً، بقَدر ما تُنشئه جسرَ عبور للإعلان عن الظّواهر الإنسانية وهي غرضها، هذا الذي تنطلق إليه انطلاق السَّهم الى رميته. من هنا، كانت أقاصيصها أَمتنَ جدراناً وأَوثقَ بُنياناً وأَقوى أساساً، تَبينُ دواخلها وخوارجها نظيفةَ الأَعلاق، حتى قال مَن أبصرَها: بحياتي، لا اشتريتُ الحَلَقَ إلاّ منها.
إنّ لغة القَصَص عندها مُدَوَّناتٌ لمشاهدات وأحاسيس، لا تعتمد في جمالها إلاّ على دقّة الفكرة وصفاء الأسلوب، هذا الأسلوب الطَّلق الذي يَسرد في يُسرٍ ملموس ولكن من دون الغَرَق في السطحيّة، فتأتي الفقرات تمتاز بوضوح المعاني وبَسطها. لكنّ الأسلوب مع املي ليس جافاً، إنّه يصطبغ بألوان الرّوح، هذه التي تمثّل قوّة الأَسر فيه، فلا ينزع نزعةً علمية مُطلَقة يراد بها التَّقرير والشّرح والعَرض. وبالرَّغم من أنّ املي تعرف كيف تقع الكلمة من الكلمة، وكيف تضع الألفاظ على قدود المعاني، غير أنّها شاعرة أيضاً وذات طبيعة أسلوبية سخيّة تُحسنُ تركيب الإبداعات، فلا يخلو نتاجها من الفنّ الذي يوشّي الكتابة لتصبح أَخلَدَ في عالم البيان.
ربّ قائل إنّ املي نصرالله تولَّت قيادة السَّرد الفنّي في عصرنا، واهتمّت بتصوير الحياة الوجدانية والإجتماعية، واشتركت في الإنشغال بالأزمات الإنسانية في الحدود التي سمحت بها لقلمها، ما أعلنَ عن انسجام املي مع الكلّ الإجتماعي بدرجة عالية. وهذا أصدقُ ما “رَوَت لي الأيام”، فقد فاضت حيويّتها في شرح حقائق الحياة المتنوّعة ومن دون رموز، وفي الكشف عن سرائر النفوس وألوان مشاعرها، ولهذا لم يذهب شطر بَهائها، فجاءت كُتبها مثل مائدةٍ تختلف فيها مَذاقات الطُّعوم لاختلاف شهوات الآكلين.
لطالما كان التّعاطي مع الفنّ القصصي مغامرة لا يخرج منها الأكثرون باكتشاف أو بإبهار، فهنالك هامش واسع فيها للخسارة أو للإخفاق. أمّا املي نصرالله التي آمنت بأنّ الإنسان لم يُخلق ليسير جَنب الحائط، ما خابت عندها الثقة بالنجاح، ولا أضاعت تفاؤلاً به، لذلك كتبت من دون تردُّد وبِهِمّة غير اعتيادية لأنها تمتلك مهارات النجاح أو القدرة على التحدّي، بما في ذلك تحدّي نفسها. وهي لم تنسحب مرّةً عن المواجهة، لأنها تعتمد قانون التوقّع الإيجابي الذي ينظر الى النتيجة الباهرة ولا ينتظرها. من هنا، جاءت مقاييس قصصها ورواياتها مرتفعة فأتت نتائجها بالتالي مؤكَّدة.
إنّ أكثر الأساليب خطراً هو أسلوب التعاطي مع الأطفال، فالتوجّه إليهم يستوجب حَذَراً ودقّة. والتميُّز في هذا المجال يرتبط بالخطّة التي يُحكمها العقل والإحساس معاً لبناء الإنسان في هذا الكيان النّاشئ، قبل أيّ شيء آخر. ويتمّ ذلك من خلال إدخال المتعة الى نفس الطفل أوّلاً، والتي يستتبعها فعل التشويق الى المتابعة، وهكذا يحصل التذوّق والتفاعل مع السّياق لنماء المَدارك. إنّ الطفل مع املي نصرالله لم يكن مجرَّد مُتَلَقّ، لأنه كان هو بالذات الكاتِب والقاصّ والمُتَخَيِّل، فألقى قاموسُه بظلاله على الحصيلة الكاملة لقصصها. من هنا، لم يَرشح غيرها بقيراط ممّا كان لها، إذ لم يكن هذا الغَير،
مُقارنةً باملي، قاصّاً للصِّغار بقَدر ما كان لهم مُقاصِصاً.
لم تَرقّ حاشية حال املي نصرالله في التّجديد، فلم يهجرها مثل “طيور أيلول”، ولم تلتمس غيره في الحياكة فحصل لها بجِدٍّ صاعد. وإذا أخذَه غيرُها لمرّةٍ إخذَةَ خِلس أو اشتراهُ في عام المَجاعة فحُبِسَ حتى يَبِس، إلاّ أنّ التَّجديد سألها أن يجعل دارَه رهينةً لديها. وهو معها يُنبِطُ الماء من حجارة الرواية فتُسقى بالدَّهشة، ما يجعلها حُبلى ليس يُدرى ما تَلِد. والتّجديد ضَيف دائم استخلصَت رواياتُها لبّه، فاكتسبت نفاسةً ممّا غرفت من منابع الحياة وثقافة الناس، ومن تجاوزها القَصّ الحكائيّ القائم على السَّرد، الى القَصّ الذي يلتفّ على الزمان والمكان والوعي، ليطرح قضية تستجلي الآفاق الإنسانية ذاتها. وينسحب أمر التجديد أيضاً على طريقة الخُطاب الإصلاحية، فاملي نصرالله اللَّبِقة لم تتكلّف عناء صنعة الإيعاز المَمجوج في قصصها، لكنّها مرَّرته بأسلوب رشيق راقَ للعامة فتأمّلوا وتعلَّموا من دون تَبَرُّم.
ورسالة القصّة لا تبلغ مراميها مع املي نصرالله بمعزل عن الحوار الذي يُذَوِّب لحظات السَّرد. وهي تتقنه ليس فقط لمحاولة القُرب من القارئ، وإنّما لإيجاد القارئ المُشارِك، فلا يعود هذا الأخير تحت سلطة النصّ السَّردي وصاحبِه قُطبِ الإرسال فيه أو الإستنطاق، فتتّسع بذلك دائرة الفاعلين والمؤثِّرين في المكتوب. والحوار لم يكن يوماً اليدَ الرَّخوة في قَصَص املي بل عِظام صدرها، تَعتَمِده لتَنسيج مُقارباتٍ من مرايا متجاوِرة، ولتَنشيء ذهنية جديدة في عالم تشكيل النصّ القصصي والروائي. فمع الحوار يُحالُ السَّرد المنطفئ الى وَهجٍ مُتَّقِدٍ بالحيويّة، فلا يعود القَصّ حكايةً لِحالةٍ بل الدّخول في نسيجها بالذات.
املي نصرالله مَثَلُها في القَصّ مَثَلُ الصيدليّ البارع الذي يُحسنُ تركيب الدواء بمقادير يُؤخَذ بعضها بالقطّارة وبعضها بالميزان. فهي موصوفةٌ بعِلمها، خِلافاً للسّارِدين، بأنّ أجزاء القصّة، لو نقص منها جزء أو زيد عليه جزء، لَشَوَّه ذلك النَّسج، هذا الذي وإن راجَ كالخَرَز سُوقُه وصُنِعَت منه آلاف العقود، لن يصل في أيّ ذهن الى مُساواة اللّؤلؤ.