1400 قطعة أثرية من عصور ما قبل التاريخ إلى الحقبة الصليبية
تستعد مدينة صيدا في جنوب لبنان لافتتاح متحفها قريباً الذي يضمّ نحو 1400 قطعة أثرية من الألف الرابع قبل المسيح حتى وصول الصليبيين إلى المدينة عام 1098، وتكمن أهميته في أنه يشيّد في موقع أثري زاخر بالمكتشفات الأثرية والتاريخية، وسيتيح للزوار الاطلاع على كنوز تعود إلى العصور القديمة.
يحتلّ جزء من مدينة صيدا القديمة الطابق السفلي في المتحف بينما يضمّ الطابق العلوي الآثار المكتشفة خلال التنقيب. وحرص المهندس خطيب العلمي على أن يكون مبنى المتحف جوهرة تحتضن مجموعة الكنوز التي عثر عليها خلال الحفريات التي أشرفت عليها كلود ضومط سرحال، رئيسة بعثة المتحف البريطاني في لندن المشرفة على المشروع، وهي تعمل منذ 1998 على التنقيب عن الآثار في المدينة القديمة التي تعود إلى آلاف السنين.
تسلسل الطبقات التاريخية
استطاعت بعثة المتحف البريطاني بالتعاون مع مديرية الآثار في لبنان، الكشف، للمرة الأولى، عن تسلسل الطبقات التاريخية الأثرية في المدينة، لذا تقدم زيارة المتحف الأثري في صيدا، تجربة فريدة من نوعها، إذ يطلع الزوار على البيوت الدائرية التي تعود إلى الألف الرابع قبل الميلاد، وتنتهي بالحملة الصليبية السابعة التي قادها الملك لويس التاسع، فضلاً عن آثار تعود إلى الحقبة بين 1160 و1256.
على غرار المدن الفنيقية، تأرجح تاريخ صيدا بين الحريّة والخضوع، ذلك أن موقعها الجغرافي الإستراتيجي على الساحل أدى إلى ازدهار تجارتها، وأثار أطماع الغزاة في الوقت نفسه، فتعرّضت للاحتلال مرات عدة عبر حقباتها التاريخية. لكن على رغم هذه التحولات وتعاقب حضارات مختلفة عليها، حافظت المدينة، على مدار العصور القديمة، على هوية خاصة وطابع مميز، معتمدة على تجربتها في صيد السمك والتجارة ونقل المعرفة.
ورد اسم صيدا 38 مرة في الكتاب المقدس، تحديداً في العهد القديم، باعتبارها أولى المدن الكنعانية. كذلك ورد اسم صيدون في الإلياذة لهوميروس إذ يتحدث هوميروس عن الفنيقيين والصيدونيين ويحكي قصة إناء الفضة الذي قدّمه الصيدونيون إلى إيتاكا، ويشكِّل رمز الاتصال والتجارة في البحر المتوسط في العصور القديمة.
يقول المؤرخ بيار رويارد: «عندما نتحدث عن الفنيقيين نرتكب هفوة كبيرة، إذ نفكر في الناس واللغة والكتابة والأواني الفخارية والمدن، فيما في الحقيقة لم يحدِّد الفنيقيون بلدهم ولم يتكلموا عنه قط».
كنوز أثرية
تقسّم كلود ضومط سرحال الكنوز الأثرية المكتشفة في الموقع إلى نوعين: الأول قطع أثرية جميلة أكتُشفت على مرّ العصور والسنوات، ولكل واحدة قصة مختلفة (1400 قطعة)، والثاني يكتسب قيمة فريدة وهو إعادة بناء تاريخ المدينة من خلال الحفريات.
من أبرز الآثار التي عثر عليها في صيدون، مجموعة من الجواهر: عقود، وأقراط، وحلي من الحجارة الكريمة والذهب، فضلاً عن خاتم من الذهب يعود إلى عام 1730 قبل المسيح، كان موضوعاً في قبر امرأة يعتقد أنها كانت تنتمي إلى طبقة راقية.
كذلك عثر على أطباق وآنية من مادة الطين مصنوعة في صيدون وأخرى مصدرها جزيرة كريت تعود إلى نحو 1800 سنة قبل الميلاد، وتعتبر أقدم قطعة مستوردة في الشرق الأوسط، من بينها واحدة مزدانة بنحت لدلفينين ممددين على الشاطئ.
في مقارنة بين القطع الطينية الصيدونية وتلك المستوردة من جزيرة كريت، يبدو ثمة تقارب بينها، فيما الاختلاف الوحيد في مادة الطين وشكل الجرار. لا شك في أن هذا الاكتشاف يبرهن مرة جديدة أهمية موقع صيدون على البحر المتوسط، ووسط العالم القديم.
خلال أعمال التنقيب في 2005، اكتشف لوح مكتوب عليه بالمسمارية، يعود إلى 1400 سنة قبل الميلاد، ويعتقد أنه من بلاد ما بين النهرين، فضلاً عن قطع من الحقبة الرومانية من بينها: دروع وتماثيل ورؤوس مزينة بتيجان شبيهة بتلك الموجودة في بعلبك، وتمثال لأفروديت من الرخام بعلو 30 سنتم. كذلك اكتشفت ثلاثة هياكل في صيدون يعود اثنان منها إلى الألف الثاني قبل الميلاد، والثالث إلى العصر الفنيقي.
قالت كلود سرحال ضومط: {يؤدي علم الآثار دوراً حيوياً في بناء هويتنا الوطنية، ويرتبط ارتباطاً وثيقاً بمفهوم الانتماء والجذور المشتركة والولاء للماضي، الواجب معرفته. هنا تكمن أهمية العمل الميداني الذي يبيّن الانتماء إلى هذه الأرض منذ خمسة آلاف سنة من دون انقطاع، وفرادة موقع مدننا الفنيقية على شاطئ البحر المتوسط. وحدها القراءة بلا هوادة في ماضينا ستساعدنا على وضع خطة للمستقبل وتفتح أمامنا آفاقاً جديدة}.
*****
(*) جريدة الجريدة.