قلتُ:
“… وإذا بي أبتكرُ حُبّيَ ـ النِّعمة! أبتكِرُ حياتي الآتية!”
فماذا يعني؟ وكيف يكون؟
أَلصَّنعةُ غيرُ الابتِكارِ. تتطلّبُ الصّنعةُ معرفةً مادّيّةً تِقنيّة. وتتطلّبُ مَهارةً يدويّةً. وتتطلّبُ تعبَ جسدٍ. وتكونُ نتيجةَ إرادةٍ وعَزْمٍ ورغبةٍ وتصميم. وتكون ذاتَ مقاساتٍ معلومةٍ بدِقّة، بشكلٍ وحجْمٍ ولَونٍ، وتنتهي في مكانٍ محدَّدٍ، خلال زمن مُحَدَّد، وقد تكون ذات صَلاحيّةٍ معلومةِ التّاريخِ… وإلّم تنجحْ، يعاود الصّانِعُ عملَه ـ صَنعتَه. ويستمرّ يُحاوِل، حتّى يتسنّى له النّجاح. ويستطيعُ العامِلُ ـ الصّانِعُ أن يُنتِجَ نماذجَ كثيرةً عن “المُنْتَجِ” نفسِه. فهو، إذًا، عملُ صِناعةٍ يدَويّة. عملٌ صناعيٌّ فوقَ ما هو عملٌ فنّيٌّ.
أمّا الابتِكارُ فخَلْقٌ على غير مِثالٍ. يتطلّب قُدرةَ خيالٍ خَلّاقةً. ويتطلّبُ مَهارةً روحيّة معنويّة تَصَوُّريّة. ويتطلّبُ كَدَّ روحٍ وذِهنٍ ووِجدانٍ وخَيال. ويكونُ نتيجةَ لاوعْيٍ وعزمٍ ورغبةٍ وشَغَفٍ؛ ونتيجةَ مُعاناةٍ صادقةٍ، قويّةٍ، عميقةٍ، صاخِبة. ويكون، كلَّ مرّةٍ، جديدًا، ويتجدّد باستمرار، بناءً لتَصَوُّرٍ خَياليّ لا على مِثال؛ بحيث يتكوّن، كلُّ ابتكارٍ، بانسِجامٍ وتَناغُمٍ، فيتمُّ نَسيجُ وحده. وهو أبديٌّ، لا مدّة صلاحيّة تاريخيّة له. وهو غيرُ خاضِعٍ لدُرْجة. وهو ابتكارٌ لا يستطيع الفنّانُ إعادةَ إنتاجِ شبيهٍ له. يبقى صورة نفسِه. فهو، إذًا، عملٌ فنّيٌّ جماليٌّ مؤثِّرٌ وموحٍ، فوق ما فيه من صِناعة.
وقد نجد، في كلٍّ منهما، مَلامحَ من الآخر، ولو قليلةً ومن دون أهمّيّة. ففي الأوّل لمعةُ جمالٍ وفنّ تميّز صانعًا من آخر، وإن كانت الغاية الأساسُ مادّيّة، لكسْب العيش. ولا نُنكِرُ، في الثّاني، عمل اليد، وإن أقلّ أهمّيّةً من عمل الرّوح. وتجب الإشارةُ إلى أنّ غايتَه الأولى تبقى “المُتعة” الفنّيّة، وليس الكسْب المادّيّ.
فكيف يُبتَكَرُ الحُبُّ، الحُبُّ ـ النِّعمةُ، ولا يُصْنَعُ!؟ وتاليًا، كيف يُمكن، للحياة الآتية، أن تُبتَكر!؟
ليس الحُبُّ مادّيًّا، ولو نتج، في أحيانٍ، عن إرادة وعزم ورغبة وتصميم. ولو كان مَقَرَّه القلبُ، أو الرأْسُ. ولو كان “موضوعُه” مادّةً بذاتها، كشكلِ الحبيبِ، مثلًا، أو جسدِه. وإن كانتِ الغايةُ مادّيّةً؟ لا يكون حُبًّا. يكون “رغبةً”، “شَهوة”، “شَبَقًا”، حاجةَ جسدٍ لا حاجة روح! في حين أنّه، أساسًا، حاجةُ روحٍ لا حاجة جسد.
وعليه، فالحُبُّ ـ النّعمةُ لُقيا الحياة. لا يحصُل كلَّ يومٍ، لا يتكرَّر. فأنت لا تستطيع تصنعُه. ألرّوحُ لا تُصنَعُ. تحلم، أنتَ، بخِصال، بقِيَم، تريدُها في إنسان، وإذ تجدها حالّةً فيه، مُجَسَّدةً، منه تنبُع، عنه تنبثِقُ، تشعر بدَغْدَغَةٍ في الرّوح، تَحلّ فيكَ نَشْوَةُ إيقاعِ المُحالِ وقد تَقَمَّصَك. تحسُّ بالتّحليق، وقد صفّاكَ منك، طهّرك من رُسوبيّاتِك، بنيران النّعمة صهرك، جعلك تكتمل، وبالاكتِمال تستكين، مُطمئنّ الفكرِ والقلبِ والرّوح!
وهذي الخِصالُ ـ القِيَم، قد لا تكون مُجَسَّدةً في إنسان، لكنّك، أنت، ولسبب ما في وِجدانِك، تُسْقِطُها عليه، من ثَمَّ تروح تؤمن بأنّ الإنسانَ هذا يمتلكُها، بأنّه يَحياها، بأنّه يوزِّعُها، في السِّوى يَغرسُها، ويتراءى لك أنّها، حقًّا، قائمةٌ فيه، مُرَقِّيةٌ له، به مُحَلِّقةٌ، وتشعر، مصَدِّقًا نفسَك، بأنّك منغرِسٌ في “تُرْبَةٍ نورانيّة، معًا تُحلّقان.
تصل إلى المرحلة هذه، على إيقاع الفكر والوِجدان والقلب؟ تبتكر حياتَك الآتية!
من دون قصدٍ، ولا انتباهٍ، يحصُلُ الأمرُ الشَّعْشَعانيُّ الـْ أنت عامِل، أساسًا وأبدًا، في سبيلِه. وإذ يتحقّقُ لك الأمرُ، تتقمّصُك، أو تتقمّصُها، أنت، “غيمةُ الأسرار”، فتكتشف أنّها تحيا، هي، فيك؛ وفيها، أنتَ، تحيا، نَشوةَ الأبد، إلى الأبد!
ألأحد 24 تمّوز 2016