نسيب عريضة

 

 

 

 

 

 

 

هنالك كلام يحيا على لسان صاحبه، وكأنه يقول: في ميدان الضَّحايا مُتَّسَعٌ للجميع. وهنالك كلام لا يقع نهباً واختلاساً، وإذا أبى الإنقياد لكثير من النّاس، غير أنّه يتّفق أن يدور على ألسنتهم لما به من عُلُوّ المنصَّة ورهبة الجَلال، فلا ينصرفون عنه عامِدين.

نسيب عريضة سِكرُ الوَشي في أدب المهجر، أو هو الشِّعريّ العَبور في تطعيم قرارة أدب الحنين باضطرام التصاوير. كانت له ظلالٌ تفيَّأها زَهر الأدب، وتمايلت في أرجائها رشاقته وعذوبته واتِّساقه، حتى أنّ القلوب تشرب ذَوبَه لسلاسته. إنّ غصن نسيب عريضة طَيِّبٌ كَسَيَل القَطر، وعشرتَه عطريّة، وشِعرَه مُشَرَّبٌ بأنفاس الحنين. والحَنين للبعض مَأخذ، لأنه يدخل في حُكم المُبتَذَل بكثرة المُراجعة، وهو لونٌ من ألوان العَبث يُفسد في أنساب العواطف وفي قَرابات الأخيلة، وذلك من عظيم عيوبه إذ يحجب أَشطُرَ الأدب أو يقَنِّنها في إطار ضيّق. وهذا حُكم جائر، فالحنين بابٌ من عِلم النَّفس لا يعجبه أن يُقَرَّظ في وجهه، لأنه منسوجٌ بِخيط القلوب، وهو خَيار لا دَخلة فيه، يتلوّن وفاقاً لإلفتنا له، من هنا، لا يُخاف على عريضة سقوطٌ في معرفته، ولا تقصيرٌ في وصفه، فقد تَطَعَّم عمره بالحنين يحتضنه من دون قناع. والحنينُ مَدينٌ لعريضة، وما في جوف بيته درهم.

نسيب عريضة الصّافي النَّبعة على حِرَق، لم يهنأ بفُسحة فرح ولو رَقَّت غلائله، فقد شُدَّ بأعناق النَّوى ولم تُقطَع معه جاذبيّتها، وشكا شوقاً لم يبخل عليه كَبدُه بوَجَع. وكأنّ الدَّهر لا يأبى معه إلاّ وُلوعاً بِشَملِ وَصلٍ يشرّده، ونظام أُنسٍ يبدِّده بمِخلب ظلم. وهل على الدَّهر عَتَب، والزمانُ ليس عَثوراً، والأَقدار تجري كما شاء مُجريها، فلا تُقضى الآمال وتُدرَك المآرب إلاّ بالحُكم المَقدور؟ ومهما ركضت الليالي، فسرجُ حصانها هو نفسه، يفترشُ اللُّبدة نفسها، وهل أَفصحُ قولاً في ذلك من قول عريضة :”سيّان….يا نفسُ. فالآتي مِثلُ الذي يمضي”.

نسيب عريضة

في شعر عريضة اتّجاه حِكَميّ يقارب الفلسفة، أسعفَ في استنشاده ما طُوِيَ عليه الشّاعر من نُسَخ الألم والتَلَهُّف، وكأنّ مرارة الغُربة عِيالٌ على مرارته. لقد ألبسَته الأيام كَدَراً، وعجزَ عن نَزع ما أُلبِس، لكنّ سهامَ خواطره لم تكن شَرودة، فلم تعجز عن إصابة أغراض الكلام. لقد مثَّل القلق والغموض في الحياة بديلاً عمّا يوقِنُه المتطلِّعون إليها بأنّ فيها كنوزاً، فالذّهبُ الدَّفين ليس سوى أَكداسِ خَزَفٍ وتراب، وأَنفُ الحياة ليس أنفَ حبيب، ونغمتُها ليست نغمةَ مُطرِب. هي الدّنيا مُحَبَّرة بريشة الخُطوب، وقد ألقَت عليها النَّوائبُ مراسيَها، يترنَّمُ إنسانها تَرَنُّم الحَمام بهمَّةٍ نالَها خَفض من كثرة الإنحناء، ولا ينطوي إلاّ على نُفور وبكاء. هذا العجزُ الناتج عن الغُربتَين، غُربةِ الجسد وغُربةِ الرّوح، حدا بالشّاعر الى مَسار التأمّل عند ” المَعرّي ” في حياةٍ سُرعانَ ما يأتي أُفولها، فقال: ” … ليس الحياةُ إلاّ مرحلةً بِدؤُها خِتام”.

لكنّ عريضة الحائر في أفقٍ سحيق، لم يستسلم تماماً للحواصل السّالبة التي زحمَت منكبه، ولم يُضرِب عن مكاتبة سُقيِ المُدام في انضمامه الى مجلس وَصل وشُرب. لكنّه، وفي غمرة دعوته نديمه الى ” الكأس وشعشعة الخمرة “،  كان قليل الرَّوح المُلتهِب، فلم يُجلِ خاطره عمّا لَصُق في ضلوعه من حنين وما اعتاده من ولوع، فكأنّه قتيل الهموم بين الأَحياء، ودَفين الأسى بين أهل الدنيا. أو هو رهين الشكّ تقتتل فيه مَظانّ الخطأ ومواقع الصّواب، وتنزل به نوازل الظّنون، واليقينُ غير مستقيم الوزن. لكنّ الشكّ لم يدفع بعريضة الى الهروب المُطلَق، أو الى هَلوسات الإنكار التي تفتك بِنتائج العقل، بالرَّغم من السوداويّة التي أعلنت الجَفاء بينه وبين مجتمع الناس. فعلى مسرح الدنيا مَشاهد سفّاكة يقلبها عريضة ليكشف الظّنون، فيرى أنّ الكلَّ ” يلعب دوراً غير ما يخفي الضّمير”، والكلَّ ملتصِقٌ بجاهٍ ينقضي، وبشهوات ” تُنزل الحُبّ الى سوق الفُجور” ، والكلَّ هِمَمٌ مفقودة وحالات وقتٍ، وأسرى يستسلمون لحياةٍ تقضي الدّيون بإساءة عِشرة.

لقد حضرت وطنية عريضة في شعره تُزاحم كَرَمَه في الحيرة، والوطنية حظٌّ يتشابه فيه رجال المَهجر خصوصاً، فهم أَشَدُّ الناس إحساساً بكراهة الأحوال في أوطانهم، وامتعاضاً من خُبث مصائرها. لكنّ عريضة الذي امتهن إعزاز الوطنية وأراد كلَّ فصولها ربيعاً، لم يَشِح عن واقع جريح يستلذّ أصحابه ألسنَتَهم وينفرون من العمل، فهم ” …شَعبٌ ميتٌ ليس يَفيق “، فالثّار والعار والنّار لم تُحرّك ساكناً فيهم إلاّ اللسان، ( وما أشبهَ اليومَ بالبارحة ). إنّ الوطنية الكامِنة في شِعر عريضة لا تحتاج الى التَزيُّن بزينة مُتَّخَذة من خارج، ولا بألوان مُحَصَّلَة من صنوف الأصباغ، فالرَّجل في ذلك، حِسُّه طَبعٌ لا مُكتَسَب. ولمّا كانت أمنيته الباقية التي يحلم بتحقيقها حين يوافيه أَجَلُه، أن يُدفَن في ثرى بلاده، فذلك كَشفٌ لوحشته النّازفة وهو حَيّ، ولِقُشور الغربة في أيّامه، تلك الغربة التي ما طابت فيها الإلفة ولم يسيطر فوقها رواق العزّ، فالغربةُ لم تكن أبداً معه سوى استعارةِ حِدادٍ في عُرس.

إنّ حياة نسيب عريضة “أرواحٌ حائرة” توزَّعت في خلايا أيامه فطبعتها بصوفيّةٍ تشتهي ولا تجد، لذا كانت حياته عنده أوَّلَ مالٍ ذاهب. ولمّا لا تقوم السّاعة إلاّ على شِرار الخَلق، فهذا الرَّجل العَقول، عاشق ذخائر الحنين الذي له فيه عِدَّة وافرة، لم تردّ له الدنيا فضل أنفاسه، ولم يشرب صَفوة الحياة ليكون في بضاعته رونقُ فرح، ولو ارتدت هذه أجمل الملابس وآنقها. وبالرَّغم من أنّ دقائق نَسجه كانت آهِلةً برِقَّةٍ هي أَخَفُّ على القلوب من الآذان، غير أنّه سفكها على مذبح صوفيّته المُتَرَفِّعة، فهو لم يعتب على الزّمان حين ساء صنيعُه، وحين فَسُد القياس وأصبح وجهُ الأرض قبيحاً مُغْبَرّاً. وفي الختام، ما أظلمت الأيام فقط  مع نسيب عريضة، وإنّما امتدَّ الظّلام. 

       

اترك رد