الاستشراق الجديد: صراع مصالح أم حوار حضارات؟ (*)

بقلم: د. وفاء مرزوق (*)

 لم يتغيّر الاستشراق الجديد عن نظيره القديم سوى بالأساليب وترتيب المصالح الجديدة والأولويات. كما أن الولايات المتّحدة، ومنذ بروزها كقوة عالمية بُعيد logo fikrالحرب العالمية الثانية، سعت إلى استلام دفة الدراسات الاستشراقية ومنافسة أوروبا في هذا المجال؛ بيد أنها ما لبثت أن أخضعت هذه الدراسات لسياساتها الاستراتيجية، بل سعت إلى أكثر من ذلك من خلال إعادة تفكيك صورة الإسلام وإعادة تركيبها ببراغماتية تتفق ومصالحها وقيمها الرأسمالية وتوسعها في العالم، وبخاصة في الشرق الأوسط من الهند إلى الأطلسي.

 يختلف الدارسون في تحديد بدايات الاستشراق فمنهم من يرجعها إلى العصر الأندلسي، ومنهم من يعود بها إلى أيام الحروب الصليبية، ومنهم من يؤكد على وجود دراسات استشراقية منذ العهد الأموي في القرن الثاني للهجرة حين ظهر كتابان مهمان للراهب يوحنا الدمشقي يناقشان حياة المسلمين، حيث حمل الكتاب الأول عنوان: “حياة محمد” فيما كان الثاني حول: “حوار بين مسيحي ومسلم”.

وأياً كانت بواعث الاستشراق، فإن بدايته الرسمية يؤكدها قرار مجمع فيينا الكنسي الصادر في العام 1312 والمتضمن إنشاء عدد من كراسي اللغة العربية في عدد من الجامعات الأوروبية، غير أن مفهوم الاستشراق بعيداً عن اللاهوتية لم يظهر في أوروبا إلا مع نهاية القرن الثامن عشر، وبحسب المؤرخين والباحثين في هذا المجال، يكون الاستشراق قد مرّ بثلاث مراحل رئيسة، بدءاً بمرحلة التأسيس منذ صدور قرار فيينا الكنسي إلى نهاية القرن الثامن عشر مروراً بمرحلة الازدهار التي استمرت من نهاية القرن الثامن عشر إلى نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث ارتبط الاستشراق بالتوسع الاستعماري الأوروبي، ثم مرحلة الاستشراق الجديد التي بدأت من نهاية الحرب العالمية الثانية وامتدت إلى اليوم.

 بين استشراقين

 عندما كتب المفكر المصري أنور عبد الملك مقالته عن أزمة الاستشراق التي نشرت في العام 1963 ثم مقالته الثانية “هل مات الاستشراق؟” في العام 1974، انطلق من فكرة ضرورة نقد الاستشراق ووجوب إعادة النظر في مناهجه وأدواته وفقاً للمتغيرات الدولية الجديدة التي أفرزت تحرر كثير من الدول من هيمنة الاستعمار، وهو ما يتطلب اعتماد توجه جديد للانتقال من مأزق الاستشراق الكلاسيكي، الذي يفتقد إلى منهج واضح ومدروس كباقي المناهج- ما جعله أداة في يد القوى السياسية الاستعمارية- وإلى دراسات أكثر موضوعية.anwar

 لقد أراد أنور عبد الملك أن ينصف العالم الإسلامي بالتركيز على وجوب مراعاة الدراسات الشرقية للأدوات التي تليق بنقل تاريخه الجليل بمكوناته كافة. لكن أزمة الاستشراق اختلفت في الغرب عمّا كان ينظر له من الجانب الإسلامي حول مواكبته علمياً، فكان تطوير الأدوات وسيلة لتطوير الأهداف التي توسعت، ولم تعد الدراسات تقتصر على فقهاء اللغة، وإنما شهدت دخولاً حافلاً لبحّاثة مختصّين من مختلف المجالات، حيث انتشر الحديث في تلك الآونة عن نهاية الاستشراق، لكن حقيقة الأمر هو انتقاله من طوره القديم إلى طور جديد أعيد فيه تفكيك المفهوم الكلاسيكي للاستشراق وإفراغه في قوالب متعددة تفيد معنى الاستشراق الجديد.

بين الاستشراقين القديم والجديد عاش العالم العربي والإسلامي مسلوب الإرادة، بفكر عاطل غير قادر على الإنتاج، فمعظم الدراسات كانت تنظر له من هذه الزاوية، بدءاً بتلك التي حرفت السيرة النبوية الشريفة وكلمات القرآن الكريم، وحتى حياة المسلمين الأوائل، مروراً بالدراسات التي حاولت زرع بذور الشك والريبة وعدم الثقة في الأوساط العربية والإسلامية وفق منطق “فرق تسد”، حيث تغدو كلّ الحقول متاحة وممكنة وجاهزة لأي إملاءات أو تدخلات أجنبية.

 الاستشراق بين أزمتين

قبل الحرب العالمية الثانية كانت فرنسا وبريطانيا تسيطران على معظم المستعمرات والأراضي في العالم، وقد كان لهما قصب السبق في تناول كل ما يتعلق بالشرق من دراسات، ومع نهاية هذه الحرب المدمرة انتهت حقبة الاستعمار بظهور حركات التحرر واستقلال معظم الدول آنذاك، وبرزت الولايات المتحدة كقوة كونها المستفيد الأول من هذه الحرب، بحيث أظهرت منذ ذلك الوقت اهتماماً بالغاً بالشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وسعت إلى منافسة أوروبا في هذا المجال، غير أن قلة معرفة الباحثين الأميركيين بالشرق وخباياه أدّت إلى طرح فكرة ” دراسات المناطق” بتشكيل وحدات بحثية تضم مجموعات من الباحثين تتولى كل منها دراسة منطقة معيّنة، وذلك انطلاقاً من دافع أن الشرق لا يشكل كتلة ساكنة كما كان سائداً في السابق وإنما هناك تغيرات سياسية واجتماعية واقتصادية تستوجب المواكبة.

وهكذا بدأت ملامح استشراق جديد في الظهور تتخذ شكل دراسات أكاديمية، ومراكز أبحاث، إلى جانب ما تنتجه وسائل الإعلام المختلفة، وهذا ما أسهم بشكل واضح في دعم صناعة القرار السياسي وتعبئة جمهور الشعب، وبالتالي الانتقال من الاستشراق الديني الأيديولوجي إلى الاستشراق السياسي القومي. وهو ما يؤكده أولفييه موس أستاذ التاريخ المعاصر في جامعة فريبورغ في سويسرا حيث يرى أن الاستشراق الجديد هو: “مذهب ثقافوي جديد يقوم على تجديد وإعادة تأهيل الأطروحات الاستشراقية الكلاسيكية، ومتطلبات الدفاع عن قيم الحضارة والديمقراطية في سياق يتميّز بأدلجة متنامية للعلاقات بين الشرق الأوسط والدول الغربية، تعمل على تشجيع العودة إلى قراءة ماهوية للمجال الإسلامي”.

بعبارة أخرى إن مهمة الاستشراق الجديد هي إعادة إنتاج الأطروحات الاستشراقية القديمة وتحديثها، فالقول بنهاية الاستشراق إذاً هو قول بعيد عن الصواب، والأصح هو أنه وسّع أهدافه، خصوصاً مع بداية الصحوة الإسلامية التي شهدتها سنوات السبيعينيّات ومشروعها النقدي للاستشراق، وهو ما أصبح يشكل نداً وخصماً للحركة الاستشراقية التي سعت إلى خدمة حكوماتها وفق أجندات وأهداف مرسومة، حيث يؤكد موس إن “الهدف الرئيسي للاستشراق الجديد، ليس أداة فهم التحديات السياسية والاجتماعية التي يتورط فيها الفاعلون الإسلاميون، بل في التحرر من الوقائع التي لا تتوافق، أو تتوافق بصعوبة، مع مصالح هوياتية، أو مهنية، أو سياسية”.

 والواضح أن أزمة الاستشراق التي تحدث عنها أنور عبد الملك وإدوارد سعيد تمثل وجهة نظر عربية تنشد حوار الحضارات وردم الهوة بين الشرق والغرب من خلال تغيير المناهج والمضامين والأهداف التي اعتمدها الاستشراق الكلاسيكي لفهم الشرق واستيعابه، وبالتالي نقل ما يمكن نقله، ودراسة ما يمكن دراسته. أما الأزمة التي رآها الغرب، فكانت تكمن في تطوير الأساليب وتوسيع الأهداف، بما يخدم مصالحه الرأسمالية البراغماتية، فهو لا ينظر للشرق كأساس وإنما كهدف، فهل وقع الاستشراق في أزمتين؟

 الاستشراق الجديد والسياسة الأميركية

بعد الحرب العالمية الثانية، حاولت الولايات المتحدة الأميركية الاستيلاء على معظم المخطوطات العربية وضمّها إلى مكتباتها وإنشاء عديد من الكراسي المختصّة بالدراسات الشرقية على غرار أوروبا، كما عمدت إلى دعم الحملات التبشيرية للإحاطة بكلّ تراث الشرق وعلومه، إلى جانب نشر الديانة المسيحية، وقد أنفقت أموالاً ضخمة في دعم مراكز الأبحاث ووسائل الإعلام من أجل مشروعها للدراسات الشرق أوسطية، حيث أظهرت منذ البداية اهتماماً بمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا عبّرت عنه سياستها اللاحقة تجاه هذه المناطق التي تمثل العالم العربي والإسلامي، وهي سياسة لا تختلف كثيراً عن السياسة الأوروبية، عدا من جهة ترتيب المصالح والأولويات.Edward_Said

 لقد كان لأحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 أثر بالغ على السياسة الأميركية تجاه العرب والمسلمين. فكل أصابع الاتهام حينها كانت موجهة ضد “الإسلاميين المتشددين” وعبارة متشددين تأتي هنا كصفة وليس استثناء، فالمقصود هو العالم الإسلامي برمته وعدائيته لأميركا، لماذا افترض المستشرقون الأميركيون هذه العدائية إذا لم يكونوا مضمرين لعدائية كبيرة للإسلام كدين وللفكر الإسلامي كتوجه وخيار، لماذا جوبه الإسلام بشراسة وتم وصله بالأطروحات الاستشراقية القديمة، ولماذا كان ينظر دائماً للعربي أو المسلم على أنه حامل لجينات الإرهاب، وحتى الذين نبهوا إلى أن الإرهاب ليس من صميم الإسلام، راحوا يبحثون عن عوامل بروز هذه الظاهرة في العالم العربي والإسلامي وينظرون لها وكأن المسألة لا تخرج عن نطاق هذا الشرق المسلم المغلوب على أمره.

سعت أميركا منذ بروزها كقوة عالمية بعيد الحرب العالمية الثانية إلى استلام دفة الدراسات الاستشراقية ومنافسة أوروبا في هذا المجال، بيد أنها ما لبثت أن أخضعت هذه الدراسات لسياستها، بل سعت إلى أكثر من ذلك من خلال إعادة تفكيك الإسلام وتركيبه بطريقة براغماتية تتفق ومصالحها وقيمها الرأسمالية، فليس على سبيل المصادفة أن هوجمت دراسات الشرق الأوسط في عقر دارها، حين انتقد المستشرق الأميركي مارتن كريمر ذلك في كتابه “بروج عاجية على الرمال: فشل الدرسات الشرق أوسطية في أميركا”، وإنما قصد كريمر بناء دراسات مشروطة بخدمتها للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط، وكذلك فعل دانييل بايبس عبر موقعه الإلكتروني “مرصد الجامعات”.

بهذا المنطق سيبقى العالم العربي والإسلامي مفعولاً به ومفعولاً فيه، ما لم يغيّر من نهجه كمتلقٍ ليصبح صاحب الكلمة، وبغير العلوم والفكر الراشد والسياسة الحكيمة التي تعكس ديمقراطية مجتمعاته وحضارتها لن يتسنّى له أن يكون فاعلاً دولياً له موقعه على الخارطة السياسية.

****************

 (*)مؤسسة الفكر العربي، نشرة “أفق”.

(* ) أستاذة في كلّية الحقوق، جامعة قسنطينة-الجزائر

كلام الصور 

1- أنور عبد الملك

2- مشهد من أحداث 11 سبتمبر

3- إدوار سعيد

اترك رد