بقلم: الوزير السابق وديع الخازن (رئيس المجلس العام الماروني)
عندما طلب مني المؤلّفان غقل كيروز وعصام عطالله إلقاءَ كلمةٍ في هذه المناسبةِ الكريمة في حفل توقيع كتابهما الجديد، وافقت بلا تردّد، وكيف لا أوافق، وكتابُ “فصل السلطات وسيادة القانون” يشدّك إليه من عنوانه، إلى جانب أنّه من منشورات جامعة الحكمة، هذه الجامعة، التي تربطني بها وبوليّها سيادة المطران بولس مطر ورئيسها العزيز المونسنيور كميل مبارك ورؤسائها المتعاقبين، أكثر من قضية ومنهج ومسار، بالإضافة إلى أهمية هذا الموضوع، في هذا الوقت بالذات، الذي نحن أحوج ما نكون فيه إلى صرخة علمية، وثقافية، ووطنية، من شخصيات أكاديمية تدرك كيفيّة الاضطلاع بالمواضيع التي تخص الإنسان المواطن من ناحية عملية، بعيدًا عن المصالح الفئوية الضيقة، أو المنافع السياسية لهذه الفئة أو تلك.
لقد عاش لبنان أكثر من أربعماية سنة تحت الحكم العثماني، برغم المساحة الحرّة التي تميّز بها الجبل اللبناني من خلال معاهدات ونصوص، سيّرت العلاقات آنذاك بين لبنان المتصرفية، والباب العالي، من خلال نشوء قوانين عدّة، لكن العنف والاضطهاد كانا سيّدَيْ الموقف إلى أن أتت معاهدة فرساي، التي أتاحت المجال أمام العديد من العرب إلى القفز إلى الأمام بحثًا عن الحرية والهوية، إلى جانب التنمية المستدامة.
بناءً على ما سبق، نجد الكتاب يغوص في الوضع الذي قام بعد إتفاقية سايكس- بيكو عام 1916، عند إعلان لبنان وسوريا بلدين مستقلين لكل منهما خصائص مختلفة عن الآخر، خصوصاً من خلال وجود طوائف عديدة في لبنان الذي يتمتع، لغاية يومنا هذا، بعلاقات مميّزة مع محيطه الشرق أوسطي إلى جانب العلاقة مع فرنسا ودولة الفاتيكان، فضلاً عن البعثات الثقافية من قبل اليسوعيين، والفرنسيسكان والبندكتيين وغيرهم.
من هذه البعثات تخرّج العديد من الرجالات والقيادات اللبنانية، محاولين إستنساخ، أو إجتراح نظام يستند إلى الخصائص اللبنانية، تحديداً من ناحية مفهوم فصل السلطات، والاحترام الكامل لحقوق الإنسان، وذلك من أجل وطن لبناني ديمقراطي ذي سيادة.
لكن الحقائق الوطنية الكبرى، والإقليمية المأساوية، كان لنا التأثير الكبير على النظام اللبناني الذي ما لبث أن أصبح رهينة البيروقراطية غير المشروطة والبدائية إن صحّ التعبير، ما أدى إلى سلوكيات تُرجمت إلى صراعات على أرض الواقع من مخالفات دستورية، ومصائب أخرى، خاصة الطائفية الدينية والتمييز العنصري أو الأدهى ما يسمّى بالتوافقية السياسية التي بحد ذاتها تضرب مبدأ فصل السلطات، كما يؤكدّ الكاتبان.
أفخاخ المافيات
عندما يغوص القارىء في المحتوى، يجد أن الكتاب يتناول موضوع فصل السلطات، وطريقة تطبيقه بشكل مخالف للقوانين، أحياناً عدّة، ما يبعد الوطن عن أي تطوّر أو حداثة، وذلك من خلال الأحلام بالتمني على حساب القانون، أو شعارات غسل الدماغ لبلسمة الجراح، فيسقط الوطن بين مهزلة وأخرى، وكذبة وأخرى، لكسب الوقت أحياناً لمجموعة على حساب مجموعة أخرى، فتعمل المجموعة الأقوى على تعديل الدستور وفقاً لمصالحها. غير أن هكذا تعديل قد يسترضي المشكلة أو الحالة على المدى القصير، لكنه، بالممارسة، أخفق بإيجاد الحلول على المدى الطويل، لا بل كانت الحلول الآنية سببًا لقيام مشكلات أكبر في المستقبل، وعدم دستورية ما تمّ الاتفاق عليه داخل السلطة المنوطة بالخيارات السياسية، أو من خلال شعارات يتحفنا بها رجالات سياسية كمثل التعايش السلمي، وإلغاء الطائفية السياسية، والرئيس الضامن للدستور ودون صلاحيات للتصرف، إلى جانب المساواة بين المسلمين والمسيحيين ولكن لا يمكن لهذا او ذاك اختيار ممثّليهم، فهناك من سيفعل ذلك عنهم.
إن الشفافية، والموضوعية التي نجدها في هذا المؤلّف، تساهمان في مساعدة المواطنين اللبنانيين للهروب من الأفخاخ التي قد يضعها لهم عدد غير قليل من المافيات، الذين لا يرغبون في التخلي عن قبضتهم على السلطة الوطنية على حساب قادة مثقفين، وموهوبين، لا تخلو منهم البلاد، ما يدفع الشباب إلى الهجرة، أو مَن يبقى، عليه أن يكون مطواعًا على أسس خدّاعة، ومحرّمات دينية وطائفية أحياناً كثيرة ما يجر على البلاد، مفاهيم وثقافات غريبة عن نظامه، ولا تتلاءم مع مبدأ فصل السلطات، التي تصبح أحياناً كثيرة رهن إرادة المتسلطين على حساب سيادة القانون.
إنني، إذ أعبّر عن اعتزازي بالمؤلّفين العزيزين لإنجازهما هذا الكتاب الصرخة، من خلال مضمونه وأسلوبه، الذي سيق من زاوية علمية موثّقة، نَادرًا ما يتطرق لها أحد من المؤلفين أو الباحثين، سيما وأن الكتاب تناول آراء المواطنين، من مختلف المناطق اللبنانية، عن نظرتهم، ليس فقط، إلى مبدأ فصل السلطات، لا بل عن كل واحدة من تلك السلطات، وقد تم جمع المعلومات من أكثر من 700 شخص من جميع المحافظات اللبنانية، لمعرفة درجة الوعي لمفهوم فصل السلطات، وتظهيرها بالرسوم البيانية والجداول الإحصائية.
وعليه، فإني أعتبر أن هذا الكتاب مرجع في ميادين وأنشطة عديدة إدارية، سياسية، قانونية وثقافية. فهو قيمة إضافية على حياتنا اليومية، وسيكون بلا شك مرجعاً في الحقوق والواجبات التي على المواطن الإطلاع على مضمونها لما فيه الخير العام.
بالإضافة الى ما سبق، يلفتك في الكتاب، سهولة أسلوبه، ومفرداته البسيطة، ولو كانت بالإنكليزية، التي تميّزه عن غيره من الكتابات.
تطور الوطن
هذا الكتاب محاولة لطرح بعض الأفكار والآراء التي قد تُسهمُ في تطور الوطن، وتقدّمِه، ويرفع نسبةَ الوعي لدى القارىء، وهو مقدمةٌ ودعوةٌ لفتح البابِ أمام المهتمينَ والباحثينَ، نحو مزيدٍ من الأبحاثِ والدراساتِ والآراء، لبناء ثقافة قانونية هي فعل والتزام، وليست حكراً على رجال القانون، ومن خلال تطبيق ثقافة قانونية وطنية مجتمعية، بتحقيق التطورِ المستمر، الذي هو ضرورةٌ دائمة للمحافظة على ريادة لبنانَ، وذلك يتطلبُ عملاً دؤوباً من قبل الإداراتِ الرسمية، والمؤسسات غير الحكومية، ومواكبةً مستمرةً من قبل الهيئات المختصة، والجامعات والمؤسسات التعليمية.
من الواضح أن اختيار هذا الموضوع ضروري في هذه الآونة، أكثر من أي وقت مضى، لأن النظام السياسي، والإدارة اللبنانية أخفقا، لغاية اليوم، في تعزيز واستدامة التطور الديمقراطي في البلاد، لأسباب كثيرة، تتعلّق على وجه التحديد، في الصيغة، وتنفيذ المبادىء المعترف بها، وقد تأثر النظام اللبناني بمصالح ومحرّمات الطوائف الدينية فيه وتعارض مع مبدأ فصل السلطات والعلمانية.
ولم يخفَ على المؤلّفَين، التركيز على كتابات العلماء، والفلاسفة في موضوع فصل السلطات، لا سيّما مونتسكيو، ولوك، وروسّو وآخرين، عُرفوا في مجال علم الاجتماع والقانون والإدارة بهدف الوصول إلى الغاية المنشودة للمحتوى الغني بالأفكار والآراء التي قد تصحّ لتكون خارطة طريق لبناء وطن سيّد ديمقراطي، يحترم فيه الإنسان المواطن، بغض النظر عن الطائفية أو المذهبية أو حتى الحزبية. فالجميع سواسية تحت سيادة القانون.
الجمهورية الثانية
في جزء آخر من الكتاب، يتمّ التركيز على الممارسة وعلى كيفية تطبيق الدستور في مرحلة أوّلية منذ العام 1926 حتى وقتنا الحاضر، أيّ ما بعد إتّفاق الطائفـ حيث ترد تفاصيل القضايا الدينية، والسياسية، والاقتصادية، والقانونية، التي لا بد لها من أن تتأثر بطريقة تطبيق القوانين، وعليه حلّل الكتاب البيئة السياسية الداخلية، والإقليمية، وتأثيرها على النظام اللبناني، وأيضا نجد اهتمامًا خاصًا من قبل المؤلّفَين الباحثَين عن الجمهورية اللبنانية الثانية بعد الطائف، في مقارنة مع بلدان أخرى، مُبرزَين أوجه القصور في تطبيق الدستور والنظام في ما يتعلق بمبدأ تقسيم السلطات، وتطبيق الديمقراطية.
وإسمحوا لي في هذا السياق أن استذكر ما قاله العميد ريمون إدّه في جلسة إعطاء الثقة لحكومة الرئيس كرامي عام 1969 عندما قال: “إن الخطر على الديمقراطية في لبنان ليس من الطائفية… بل الخطر على الديمقراطية هو من تدخل هؤلاء الجماعة الذين بالزمان كانوا يوقفون سيارتك يا صبري بك (رئيس مجلس النواب آنذاك) عندما كنت تخوض العملية الانتخابية في منطقة بعلبك، قبل أن تتحسن علاقتك مع بعض المراجع”، ويضيف: “هؤلاء هم الذين يفسدون الديمقراطية. وإني أجزم أن وراء كل وزير من الوزراء الذين يتولّون حقيبة سياسية، شخصًا، هو بالواقع الوزير الحقيقي”. كلام معبّر قد يصحّ لترجمة الواقع الحالي تمامًا، لكن ضمن ظروف وأوضاع مختلفة، وكل ذلك جرّاء التهاون في تطبيق القانون.
خارطة طريق
أمّا في الجزء الأخير من الكتاب فيقدّم لنا الدكتور عقل كيروز، والدكتور عصام عطالله توصيات تصلح لتكون خارطة طريق من أجل تأمين تنفيذ مبدأ فصل السلطات في لبنان، التي أترك لكم التشوّق بقراءتها، والتمعّن بها من أجل الوعي وإدراك ما يجب أن نقوم به كلّنا، كمجتمع حضاري، لنعود ونحمل راية الفكر والمعرفة والإبداع كما يستحق لبنان أن يكون.
بالإضافة إلى كل ما ذكرت، لفتني مفارقتان خلال تمعّني بقراءة كتاب الصديقين الدكتور عقل كيروز، المعروف بخلفيته السياسية وحبّه للوطن وإيمانه به من خلال التزامه الأكاديمي والبيئي، هو من درّس في الجامعات الأميركية، وفي جامعات لبنان، حيث يلهِم الكثيرين من مستمعيه إلى الإيمان بلبنان وطنًا للحرية والكمال. والدكتور عصام عطالله، الذي عرفته منذ سنوات عدّة، عند زياراتي المتكررة إلى جامعة الحكمة، هو من نجده أحياناً كثيرة محاضراً على منابرها، فصيحًا في الكلام، مديرًا لندوات عدّة، وإحتفالات شهدتها هذه الجامعة، إلى جانب تميّزه في كتاباته الصحافية، التي، على أساسها تمّ اختياره من بين شخصيات إعلامية في هذا الشرق ليكون أحد اعضاء المنتدى الاعلامي لثقافة سيادة القانون، مع مجموعة من الإعلاميين الدوليين.
المفارقة الأولى هي ما كتبه جون كوري في مقدّمة الكتاب، عن أهمية الموضوع الذي عالجه الكاتبان على صعيد إرساء حضارة الديمقراطية، مستذكرًا مسيرة الولايات المتحدة في العمل على إرساء ثقافة قانونية، علمًا بأن كاتب المقدّمة المذكور أعلاه، هو أحد الكتّاب البارزين، والحائزين على جوائز عالمية لكتاباته عن ثقافة سيادة القانون، وهو شريك أساسي في هذا المشروع مع “مركز الدراسات والمعلومات الاستراتيجية الوطنية” في واشنطن، ما يضيف إلى قيمة الكتاب تنويهًا دوليًا يتخطّى حدود الوطن.
امّا المفارقة الثانية هي ما كتبه المؤلّفان في تمهيد الكتاب الذي كرّساه إلى أطفال لبنان، وإلى شبابه وشاباته، والنساء والرجال والشيوخ، وإلى جميع مَن تمَّ استخدامهم كدروع بشرية، ومَن قُتِل وعُذّب جسديًا أو عقليًا بوحشيّة. كما يتوجه الكاتبان إلى من ضحّوا بحياتهم وإلأى ضحايا الجرائم السياسية، وإلى الأغلبية الصامتة من اللبنانيين، الذين، لأسباب اقتصادية أو أمنية، يخافون من الوقوف والمطالبة بحقوقهم.
ختاماً لقد سرّني ما كتب في إهداء الكتاب إلى أصدقاء ما زالوا في ما بيننا وآخرين رحلوا خصوصاً الصديق المشترك صاحب السيادة العلاّمة المطران ميخائيل الجميل، الذي كتبا عنه بأنه كان مصدر إلهام من خلال إرشاده وتوجيهه، هو مَن عُرف بمحبّته للبنان. واكرر مع الكاتبين الإلتزام والمحبة للارض التي احتضنت كبارًا كعبود، ومالك، والريحاني، وجبران، آملاً بأن نشهد قريباً سيادة ثقافة المحبة والسلام في ربوع لبنان.
هنيئًا لكما هذا الإنجاز، هنيئًا للجامعة بمؤلّف يضاف إلى عطاءاتها الفكرية، التي تسهم في بناء الإنسان والوطن.
*************
(*) كلمة ألقيت في احتفال توقيع كتاب « “فصل السلطات” للدكتورين عقل كيروز وعصام عطالله في جامعة الحكمة- بيروت.
كلام الصور
1- جان- جاك روسو
2- ريمون إدة