أَيْنَ يبدأُ الإنْقاذ؟

           

 

 

 

 

 

 

 

نحن في عالمٍ يتحوَّل، وكثيرٌ مِنَ الأُمورِ الَّتي كنَّا نراها مَلْجَأً، كالطَّبيعةِ بغاباتِها وأَنْهارِها وثُلوجِها، كالبَيْتِ بحُبِّهِ وَحَضْنِه وعَطْفِه، كالإيمانِ بِهَدْيِه وأَهْدافِه، كُلُّها تَزولُ أَو تتغَيَّرُ وفْقًا لمزاجِيَّاتٍ اسْتِهْلاكيَّةٍ تِجاريَّةٍ رَفْضِيَّة، وربَّما نتيجةً لجَهْلِ الأَسبابِ والغاياتِ أَو ربَّما رَغْبَةً بالوُصولِ إلى عالَمٍ مُخْتَلِف.

غريبٌ وواقعيٌّ في الوَقْتِ نَفْسِه، أَنْ نرى الكائنَ العاقلَ على الأَرضِ يَسْعَى وحيدًا بَيْنَ سائِرِ المَخْلوقاتِ، إلى زَعْزَعَةِ هذه الثَّوابت. لَمْ تُصِبْ هذه الأَزمَةُ الفكْريَّةُ السُّلوكيَّةُ سائِرَ مَخْلوقاتِ الأَرض. فالإنسانُ وَحْدَهُ يَصِلُ إلى عَبَثِيَّةِ الوُجودِ حَيْثُ لا غايةَ ولا أُسُسَ ولا أَهْداف. والسُّؤَال كَيْفَ يُمكنُ أَنْ نعيشَ ونَسْتمرَّ في الحياةِ من دون سَبَبٍ ولا غايةٍ لهذه الحياة؟ فإلى أَيْنَ تَسْعَى البشريَّةُ وإلامَ تتطَلَّع؟

مَن يستطيعُ أَنْ يُنْبِئَنا بِمَا ينتظرُنَا في المستقبل؟

وهل أَمامَ البشريَّةِ الوَقْتُ الكافي لتَلافي الكارثةِ، أَو على الأَقلِّ للاستعداد لمواجهتِها إذا مَا حَصَلَتْ؟ نحنُ نسيرُ مُغْمَضِي العَيْنَيْن نَحْوَ مجهولٍ يفوقُ تصوُّرَ الَّذينَ صَنَعوا آلتَهُ وكانوا سَبَبَ حصولِه.

إذا قلتُ مَا قلتُ، لا أَنْفي فَضْلَ مَا وَصَلَ إلَيْهِ العِلْمُ، لا بَلْ أَنا أُقِرُّ أَنَّ هذا التطوُّرَ لَحِقَ بالعَقْلِ البَشَريِّ فتوسَّعَتْ مَدارِكُه وباتَ أَقْرَبَ إلى ابْتِكارِ أُمورٍ جديدةٍ بأَسْرَعِ وَقْتٍ مُمْكِن. فهوَ بَعْدَما ظلَّ آلافَ السّنين، لكي يَصِلَ إلى الشّراعِ، ثمَّ مِئَاتِ السّنين ليَصِلَ إلى البخار فإلى البترول فإلى الذرَّة، أَراهُ اليومَ قادرًا إلى سِبَاقِ نفسه بنفسه كلَّ يومٍ، إنْ لمْ يَكُنْ كلَّ ساعةٍ. فالَّذي تراهُ جديدًا بَيْنَ يدَيْكَ باتَ قديمًا برأْسِ مَنْ يُسَرِّع وَتيرةَ التَّجدُّد بالتقنيَّات المتلاحقة. والعجيبُ أَنَّ هذه السرعةَ مستمرةٌ ومتزايدةٌ، بحَيْثُ أَنَّها لا تَتْركُ مجالًا أَمامَ الأَخلاقِ والرُّوحانيَّات، لكَيْ تلْتقِطَ أنفاسَها وتَلْحَقَ بالرَّكْب. وكأَنَّ الَّذي يدْفَعُنا إلى التَّقدُّم تقْنِيًّا وعِلْمِيًّا لا يُقيمُ وَزْنًا للأَخلاق، أَو، إذا كُنْتُ متفائِلًا، يَدْفَعُ المُهْتَمِّينَ بهذا المجالِ إلى يَقَظَةٍ تُلزِمُهُم باسْتِعْمالِ أَساليبَ مُتَجدِّدةً لمُواكَبَةِ ما يَجْري بالسُّرعةِ المَطْلوبة.

إنَّ أَخْطَرَ مَا في الأَمْرِ، أَنَّ التَّحوُّلَ الَّذي أَتحدَّثُ عَنْه، لا يُصيبُ المَوْجوداتِ فقط من آلاتٍ ومُدُنٍ وسُبُلِ اتِّصالٍ ونَقْلٍ ومُبْتَكَراتٍ، بل يَصِلُ إلى تَكْوينِ الأُمَمِ والشُّعوبِ الثَّقافيِّ، ويتعدَّاهُ إلى جواهرِ الأُمورِ مُتَجَاوِزًا الأَعْراضَ، مُسْقِطًا من حسابِ أَصحابِه كلَّ هواجسِ الحِفاظِ على المقدَّساتِ والمحرَّماتِ والأُسُسِ الَّتي قامتْ علَيْها البشريَّةُ مُنْذُ وَعَتْ وجودَها، كالعائِلةِ والدِّينِ والفضائِل والقِيَمِ والحبِّ والتَّعليم  حتَّى وَصَل العَبَثُ إلى عالم التوالُدِ والإجهاضِ والمَوْت. لقد تحوَّلَ مَفْهومُ الحياةِ وتغيَّر تحديدُ الطَّبْعِ البشريِّ، وربَّما يَصِلُ الأَمرُ عِنْدَ مَصَبِّ هذا النَّهْرِ الجارِفِ من التَّحوُّلات، إلى تَغْيير مفهومِ الله، سَبَبِ وَغَايَةِ كلِّ مَا يُرى ومَا لا يُرى.

وهنا أَسْأَل إذا كان اللهُ هو الضَّابطُ الكلَّ وهو الَّذي وَضَعَ القانونَ الطَّبيعيَّ لسُنَّة التَّطوُّر هذه، فلماذا لَمْ يناغِمْ بينَ المادَّةِ والرُّوح كَيْ يساعدَ على جعْلِ التَّطوُّرِ الرُّوحيِّ والأَخْلاقيِّ يوازنُ ذاك التقنيَّ العلميَّ؟ أَمْ أَنَّ الأَمرَ عكسُ ما نراه في واقع الحياة، أَي أَنَّ انْهِيارَ الأَخلاقِ الَّذي نَلْحَظُه غالِبًا نتيجةً لعَدَمِ ضَبْطِ التقنيَّات، هو سببٌ لهذا التَّراخي والانْفِلاتِ منْ كلِّ رَقيب؟

بكلامٍ آخَر لِمَ لا يكونُ الانْهِيارُ الأَخلاقيُّ قد سَبَقَ هذا التَّطوُّرَ التقنيَّ؟ ومَا نحن بانْتِظارِهِ اليَوْمَ أَو غدًا، قد وَقَعَ سَبَبُهُ بالأَمْس. وبهذا يكونُ الجَوابُ على السُّؤالِ الَّذي طَرَحْتُه حَوْلَ اللهِ الضَّابطِ الكلَّ. فالتَّناغُمُ يَبْدو قائِمًا بَيْنَ الأَخلاقِ والمادَّة، فحينَ انْهارَتِ الأَخلاقُ سَيْطَرَتِ المادَّةُ، فلماذا نُفَكِّر أَنَّ سَيْطَرةَ المادَّةِ سَوْفَ تؤَدِّي إلى انْهِيارِ الأَخلاق؟ المهمُّ أَنَّ التَّرابُطَ بَيْنَ الأَمْرَيْن وَثيقٌ، وهذا أَمْرٌ حَسَن، بحَيْثُ أَنَّنا إذا أنْقَذْنا واحدًا منَ الاثْنَيْن نُنْقِذُ الآخرَ. فكَيْفَ إذا جنَّدَتِ البشريَّةُ قُدراتِها على جَعْلِ الأَمْرَيْن يسيرانِ المَسارَ الصَّحيحَ لكَيْ يَبْقَى للحياةِ مَعْنَاها الَّذي أَرادَه مُبْدِعُها؟

اترك رد