الآن وليس غداً!

بقلم: الأديبة جولي مراد

 julie-mrad-1jpgمات وديع الصافي. عملاق آخر اسدل شراعه للريح. ليس لرحيل العمالقة جلبة العاديين. إنهم يرحلون بخفر، بصمت قاتل كأنهم برحيلهم الهادئ هذا يكتمون حياة امضوها في ضوضاء كاملة، ويسطرون بأفولهم المهيب خاتمة هامدة تماماً، كما يختم قائد اوركسترا لحناً موسيقياً بقفلة وقورة ساكنة.

ليست القصة هنا، فـ”كل ابن أنثى وأن طالت سلامته يوماً على آلة حدباء محمول”. عزاؤنا أن أمثال الصافي لا تقاس حياته بوحدات زمنية، لا تنفع مع أمثاله معادلة الفناء، فهؤلاء يكسرون جبروت المنية بتغلغلهم في خبايا ذاكرة أجيال متعاقبة، فلا عبد الوهاب أفل، ولا أم كلثوم امحت، ولا عبد الحليم غاب. هؤلاء قهروا الموت. أشربوه كأس بقائهم حتى الثمالة.

ليست المشكلة هنا. فكلنا على هذه الدرب سائرون، بل الطامة في تعامل وطن مع عمالقته بهذا الأسلوب المقيت المقزز. فأي وطن هذا يعطي الاولوية لكل ما هو سياسي أو “فضائحي” على حساب كل ما هو فكري أو إنساني أو اجتماعي؟ الذي لا يجيد احترام كباره، إلا في الجنازات ومناسبات النحيب؟ أي وطن هذا الذي يمعن في تجاهل “ثرواته” ولا يجيد الإشادة، إلا حين لا ينفع الكلام، وحيث لا ينفع الندم؟ وحتى حينها تتحول المسألة حفلة مجاملات واهية واستعراضات بالية.

نعم، لقد تعامل هذا الوطن مع أمثال الصافي بخفة. لا نقصد بالوطن هنا كيانه السياسي. ليس الوطن مجرد “نظام سياسي” يختصر في حكومة أو سلطة. إنه ثالوث “الجغرافيا والسلطة والشعب”. أغمض الصافي عينيه يوم الجمعة. لم نمنحه في لحظة غيابه، إلا شرف التحول إلى خبر خجول يظهر على شريط “الخبر العاجل” في أسفل شاشاتنا. كان غياب صوته وتاريخه الغنائي من الشاشات اللبنانية ليلة وفاته مدوياً أكثر بكثير من موته الجسدي.

وحده “تلفزيون لبنان” انصفه بساعات متتالية من أرشيفه يوم مماته وبعده. لم يرتق الخبر إلى مستوى تعليق البرامج التلفزيونية أو تخصيص البث لحلقة مباشرة عن الصافي مع أهله وجيرانه ومعاصريه وشعراء كتبوا له او فنانين غنوا له، لم يرتق الصافي إلى أن يكون حاضراً في برنامج مثل “كلام الناس” مثلاً، والذي يحل أحياناً في لحظات استثنائية خارج الأطر التقليدية يمليها الحدث.
safi

 لم يرتق الصافي بموته إلى مستوى الحدث فهو ليس من قماشة ناصر قنديل أو وئام وهاب أو معلقينا السياسيين الكرام. لم تخصص حلقة من هذا النوع له، إلاّ على شاشة الـMTV  وبعد 3 أيام من وفاته. وما الذي كان يمنع أساساً من تكريمه قبل أن يتوقف قلبه عن الخفقان؟ هكذا نحن اللبنانيون، لا نقيم وزناً لـ”كبارنا” في حياتهم ولا حتى في مماتهم.

مات وديع الصافي. بكاه الوطن. ولكنه في شهقة بكائه كان يبكي صباح، وفيروز، وسعيد عقل. كان ينتحب كثراً من أمثالهم، بعضهم مضى قبل زمن، وبعضهم الآخر ما زال حياً يرزق، ولكنهم جميعاً يتقاسمون “طعنة التغييب” المؤلمة عبر التجاهل الصارخ. فهل أوجع من الغدر متجسداً في “قلة وفاء” يمارسها الجيل الحالي مع اجداده؟

أي من تلفزيوناتنا يذكر اليوم: رياض شرارة، شوشو، حكمت وهبي، فيلمون وهبي، نور الهدى، نجاح سلام، ايلي صنيفر، نصري شمس الدين، سمير يزبك، عصام رجي، مارون بغدادي؟ لم نعرف يوماً برنامجاً يكرم ذكراهم، لا نرى على شاشاتنا الا استعراضات لمواهب مبتورة ببريق زائف، لحناجر أقل من عادية، تفرض نفسها عنوة وبوقاحة بين مصاف النجوم.

لماذا لا نجيد استحضار عمالقتنا إلا نادراً، كنيازك لا تمر في سمائنا إلا كل عقد، فقد خصصت الـMTV حلقة لرياض شرارة منذ فترة ليست ببعيدة، ولكن ما الذي يمنع هذا النوع من التكريم من الحصول بوتيرة أكبر؟
لماذا لا نجيد الاحتفاء بعمالقتنا إلا لماماً وفي مناسبات موسمية؟ لماذا أساساً لا نتقصد تكريمهم قبل رحيلهم؟ ما الذي يمنع الدولة، أو وزارة الثقافة أو أي متموّل أو رجل أعمال لبناني، أو أي محب للوطن مثلاً من أن يبني تمثالاً لوديع أو فيروز أو صباح أو سعيد عقل في وسط بيروت، في ساحة من ساحاتها، لا تكون ملكاً خاصاً؟ لماذا تقتصر تماثيلنا على السياسيين؟ هل هؤلاء وحدهم من يستحق شرف التخليد؟

لعل اكثر ما قدرته في “وطني الثاني” أرمينيا لدى زيارتي لها هو تسميتها شوارع عاصمتها “يريفان” وساحاتها كافة بأسماء أدباء أو شعراء أو موسيقيين. ما الذي يمنع لبنان من ممارسة هذا النوع من الاحترام الراقي؟  وصباح هذه، التي تختصر بروحها “لبنان الزمن الجميل”، والقابعة في مجاهل فندق بارد مظلم، ما الذي يمنعنا من أن نؤمن لها سقفاً دافئاً؟ من أن نظهر لها الآن وقبل فوات الأوان كم نحبها ونقدرها قبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة؟ وفيروز التي ما غنى أياً كان لبنان كما فعلت، التي لقبّناها بسفيرتنا إلى النجوم، لماذا لا نحملها على أكتافنا؟ لماذا لا ننتج فيلماً عنها؟ صالة وطنية تحمل اسمها؟ والرحابنة لماذا لا نبني لهم مسرحاً وطنياً يربي أجيالاً واعدة؟

  لماذا لا نطبع عن هؤلاء جميعاً كتاباً يدرّس في المدارس؟ لماذا عبر تلك المواهب التي نجزم يقيناً أنها لن تتكرر، لماذا لا نخلّد عبرهم “لبنان الحلم”؟ هل نخجل بهم؟ هل نهرب من “الحلم الجميل” الى “الكابوس القاتم” ونصفّق له مهللين؟

الآن كرموهم! الآن وليس غداً! فإن لم يتحرك عرفانكم لجميلهم، إن لم تنحنوا بتواضع أمام هاماتهم الشامخة، إن لم تقبّلوا أياديهم حمداً وتقديراً، إن لم تقيموا وزناً لماضيكم الجميل وزمنكم العابر محملاً بجواهر نفيسة فعبثاً تحيون وطناً شبع موتاً ولم يبك عليه أبناؤه!

اترك رد