الحياة بين الحاجة ومحاولة الإشباع
في ظُلُماتِ الدّهرِ ومآسي هذا الزّمن، انبثَقَت روايةُ “تماثيل مصدّعة” للكاتبة مي منسّى، تأخذ قارئَها للغوصِ في الإنسانيّة المُعذّبة، لا سعيًا وراء الحياةِ وحسب، بل بحثًا عن الذّات وفيها، تلبيةً لحاجاتٍ تصرخُ من الدّاخل الإنسانيّ طلبًا لإشباعِها.
روايةٌ اجتماعيّةٌ، انسانيّةٌ، ونفسيّةٌ، تبتدع عالمًا، هو أقربُ من الواقعِ إليه، يحمل وجعَ الإنسان من لحظةِ وجودِه، متأثِّرًا بمواقفَ قد طبعت حياتَه. فشخصيّاتُ هذه الرّوايةِ عديدةٌ، لكلٍّ قصّتُه ومأساتُه الخاصّة، لكلٍّ تجاربُه، تصقل شخصيَّتَه وتحوّلها، فيكون ضحيّةَ الشّرِّ الموجودِ في هذا العالم. وقد طوّعت الكاتبةُ لغتَها لتكونَ خيرَ مثالٍ، تؤثّر في متلقّيها، فيتألّم مع آلام الشّخصيّة، ويفرح لفرحِها. ليس هذا وحسب، بل وفي بحثِ الشّخصيّةِ عن نفسِها، تجعله يسبر أغوارَ الماضي والطّفولة، ويدخل إلى عمقِ ذاتِه ليدرِكَها.
فالعنصرُ الأساسيّ في هذه الرّوايةِ هو البحث، ولكن ليس أيَّ بحثٍ، بل هو بحثٌ في الذّات عن حاجاتِها، ومحاولةٌ من النّفس لإشباعها في سبلٍ عديدة. وقد جنّدت الرّوائيّةُ شخصيّات روايتِها لمهمّةِ البحثِ الدّائمِ، تعيشُ كلُّها الصّراعَ عينَه، لكن بصُوَرٍ مختلفةٍ، فكلُّ شخصيّةٍ تجوع إلى حاجاتٍ، هي أساسيّةٌ، تحاول إشباعَها ولاتقدر.
والحاجةُ دافِعٌ أو حالةٌ داخليّةٌ أو استعدادٌ فطريٌّ أو مكتسبٌ، يثير السّلوك الحركيّ أو الذّهنيّ. وهي، بحسب “أبراهام ماسلو/ Abraham Maslow”، ما يثير الكائنَ الحيَّ داخليًّا ممّا يجعله يعمل على تنظيمِ مجالِه، بهدفِ القيامِ بنشاطٍ ما لتحقيقِ أهدافٍ معيّنة.
وقد قسّم ماسلو الحاجات بشكلٍ هرميٍّ ذي مستوياتٍ متدرِّجةٍ، وتتضمّن هذه الحاجاتُ قسمَين هامَّين هما: الحاجاتُ الأساسيّة (الفيزيولوجيّة والأمان) والحاجاتُ النّفسيّة (الحبّ والانتماء والتّقدير والاحترام وتحقيق الذّات).
- أوّلًا: الحاجات الفيزيولوجيّة أو البيولوجيّة وهي تشكّل قاعدةَ الهرم وتتمثّل بتأمين الغذاء والشّراب واللّباس والشّعور بالدّفء وغيرها، وهي بطبيعتِها جسديّة.
- ثانيًا: الحاجة إلى الشّعور بالأمان، وهي شعورالفردِ بالاطمئنان والسّلامة والأمن الجسدي والنّفسي.
- ثالثًا: الحاجةُ إلى الحبّ والانتماء، وتتمثّل في حاجةِ الفرد أن يحبَّ وأن يكونَ محبوبًا، “فالإنسان كائنٌ اجتماعيٌّ”، لذلك غالبًا ما يحاول الانخراط ضمن جماعةٍ معيّنة.
- رابعًا: الحاجة إلى الشّعور بالاحترام والتّقدير، فيحاول فيها الفرد تحقيقَ قيمتِه الشّخصيّة والشّعور بالتّميّزِ والتّقدير والاحترام، وغالبًا ما يرتبط إشباع هذه الحاجة بالنّجاح الأكاديمي.
- خامسًا: الحاجة إلى تحقيقِ الذّات، وهي في قمّة الهرم، وتكمن في معرفة الذّات، والرّغبة في بلوغ الفرد أقصى استعداداتِه وإمكاناتِه ليؤكِّدَ وجودَه الفعّال في مجتمعه.
وتظهر هذه الحاجات في مسيرةِ شخصيّات الرّواية وخصوصًا في حياة بطلِها. فهاني العاصي، الرّجل الخمسينيّ، سجينُ الطّفولةِ والماضي الأليم، وضحيّةُ شذوذِ الوالد واستهتارِ الوالدة، يحاول جاهدًا الهروبَ من هذا الماضي الّذي طبعَ حياتَه ببصماتٍ لا تُمحى.. وقد أشبع حاجاتِه الفيزيولوجيّة والبيولوجيّة، حيث بات يشمئزّ من الغنى بما فيه من مظاهرَ ومصالح، ويقدّر الفقرَ الّذي بفضله، يحاول الأهل التّعويض بالحبّ والاهتمام الّذين كان يفتقر إليهما. فلم يَعُد يُعنى بالحاجات الأوّليّة، لتوافرِها في حياتِه أوّلًا، ولغلبةِ حاجاتِه النّفسيّة ثانيًا. فنراه يصارع ذاتَه محاوِلًا إشباعَ حاجاتٍ شكّلت فراغًا في حياتِه لم يمتلئ.
- في إطار حاجتِه إلى الأمان: هرب من منزل والدِه الّذي انتهك جسدَه وحمّلَه خطيئةً ارتكبها فيه، إلى فرنسا مُحاوِلًا الفرار من “الوحش الّذي يدّعي السّلطة والأبوّة”، بتحفيزٍ من صديقه روكو بكلماتٍ ظلّت رفيقةَ دربِه حتّى النّهاية: “أنت ثائر يعني أنّك حيّ!”
- في إطار حاجتِه إلى الحبّ والانتماء: اتّضح لنا من بدايةِ الرّواية حاجة هاني العاصي إلى الحبّ والاهتمام الّذي لم تنعم به أمّه عليه، فلا ينفكّ يراها تبعده عنها بمروحتها، فلا يبقى من طيفها سوى عطرُها الّذي يفوح من غرفتها. ولم يجد سبيلًا لإشباع هذه الحاجة فجسّدها في جبلةِ الطّين والحصى أطفالًا، رؤوسُهم منحنيةٌ على البدن وأيديهم ممدودةٌ إلى الأمام تستعطي رحمةً. كذلك حاول التّعويض عن حرمانه من عطفِ والدتِه بتمثال الأمّ المرضعة. فكانت منحوتاته سبيلًا للإفصاح عمّا في داخله من حاجاتٍ متأصّلة لا سبيلَ للهروبِ منها.
ولسدّ حاجتِه للانتماء، انتقلَ من إفريقيا حيث فقد الأمان إلّا في منزل صديقِه روكو، إلى فرنسا الّتي أعطته جنسيّتَها ولم تستطع أن تشعره بالانتماء، فقال: ” على أيّةِ جبهةٍ كنتُ أناضل، حين اشتعلَت ثورةُ أيّار 68 الطّلّابيّة، طالبًا بين طلّاب باريس، فرنسيًّا بالهويّة، لا شيءَ بالانتماء..” ثمّ قرّر العودةَ إلى وطنِ الأجداد، لبنان، علّه يجد الانتماءَ فيه وإليه.
- أمّا في إطار الحاجة إلى الاحترام والتّقدير، فنجده يسعى إلى التّطوّر في مجاله الفنّيّ الأكاديميّ، إلى أن نال جائزة كانت هي مصدرَ الانتماء بالنّسبة إليه، فهو لا ينتمي إلّا لمنحوتاتِه، وبتقدير اللّجنة في ميونخ أعمالَه، جعلته يشعر بالانتماء والاحترام فقال: “شكرًا لميونخ لأنّها بتقليدي مفتاح دارها اعتبرتني واحدًا من أبنائها”.
- وفي إطار معرفة الذّات وتحقيقها، يبحث عن طفولتِه الضّائعة، مُحاوِلًا إعادة بنائِها من خلال جبلة الطّين والحصى، في تماثيلَ، لا تبرح تكتمل حتّى يحطّمها مشيرًا بذلك إلى طفولتِه المدمّرة. وكما يقول “سيغموند فرويد/ Sigmund Freud” “الطّفل هو أب الرّجل” لذلك، ولتحقيق ذاتِه رجلًا، يحتاج هاني العاصي إلى طفولةٍ سليمة، فيحاول نيلَها من خلال طفلَيه، فيقول :” عليَّ أن أستعيدَ طفولتي القابعة في عتمةِ الخوف، كنتُ أتوقّعُ أن تلدَني من رحمها كما جاد وتينا فأتعلّمُ على غرارِهما ألف باء الحياة من لحظة التّكوين”، وقال: “عشرون عامًا وأنا أستنسخ من طفولةِ ابني طفولتي ومن مراهقتِه مراهقًا ثابت الخطوات”. ويحاول تحقيقَ ذاتِه فيبحث عن الرّجل المفقود الّذي لم يكتمل في داخله، إثر ما تعرّض له صغيرًا ممّن كان يُفترض أن يكونَ له مثالَ الرّجولةِ، فيحاول إثباتَها من خلال علاقته بسيمون الفرنسيّة الحرّة من كلَّ القوانين، ومن خلال زواجِه بميساء فيُثبتَ لنفسِه ومجتمعِه تخطّيه آثار الخطيئة الّتي وُسِمَ بها طفلًا، فقال: “اعتقدتُ أنّي بالزّواج سأحقّق ذكوريّتي بطبيعةٍ نقيّة، مُعفاةٍ من الشّذوذ الجنسيّ الّذي زرعَه والدي في تربتي الرّخصة، وددتُ أن يكونَ الزّواجُ من الفتاة الّتي أحبَبْت دواءً لجراحي الماضية”.
واستنادًا إلى ما سبق، تُعتبَر حياةُ هاني العاصي، مسيرةَ بحثٍ عن سبُلٍ لإشباعِ حاجاتٍ كانت وظلّت هي المُسيطرة، فهي افتقادٌ في نفسه دفعه إلى التّحرّك لا إراديًّا، ولكن بوعيٍ متأخّرٍ مُظهرًا إيّاه من خلال خطاباتِه وأجوبتِه في عيادة الطّبيب النّفسيّ. وهذه الحاجات تؤكّد أهمّيّةَ الرّواية وقيمتَها، فتماثيل مصدّعة تحمل في طيّاتِها وجعَ الإنسانيّةِ وآلامِها، وتُظهرُ جليًّا آثارَ طفولةِ الأمس في تَشَكُّلِ إنسانِ اليوم.