مُورِيس وَدِيع النَجَّار
(أديب وروائي وشاعر وناقد- لبنان)
(لِمُناسَبَةِ تَكرِيمِ الإِعلامِيِّ جورج طرابُلسِي، في الحَرَكَةِ الثَّقافِيَّةِ انطلياس، في 11-5-2017)
زادَكَ التَّكرِيمُ، في المَرْقَى، ارتِقاءَ وزَهَوتَ، اليَومَ، في الحَفلِ رُواءَ؟!
لا، فَلا حاجَةَ لِلقَطْرِ إِذا هَدَرَ السَّيلُ فَغَطَّى الوَعْرَ ماءَ
ثُمَّ هَل يُغنِي نَثِيرُ الدُّرِّ مَن شاءَ مِن إِشراقَةِ الخُلْقِ ثَراءَ؟!
أَو تُنِيرُ الأُفقَ سُرْجٌ شَعشَعَت، أَو يَزِيدُ المَدْحُ في الشَّمسِ سَناءَ؟!
لَكَ، يا فارِسَ حَرْفٍ ناضِرٍ، مِن رَفِيفِ الكِبْرِ، لِلعُمْرِ اكتِفاءَ
خُذْها، يا فارِسَ حَرْفٍ ناضِرٍ، مِن رَفِيفِ الكِبْرِ، لِلعُمْرِ اكتِفاءَ
وأَنا أُهدِيكَ مِن قَلبِي، ومِن شَهقَةِ الرِّيشَةِ حُبًّا وَوَفاءَ!
عَرَفتُهُ فَأَدهَشَتنِي الطِّيبَةُ تَتَجَسَّدُ أَعمالًا، سُلُوكًا، مَواقِفَ، وبَرِيقًا في المَلامِحِ، ونَشْرًا زَكِيًّا يُعَطِّرُ المَدَى، ويُنعِشُ المَلَأَ – لا تَفرِيقَ ولا تَميِيزَ – لَكَأَنَّهُ البَنَفسَجَةُ الخَجُولُ، يَضُوعُ عَبِيرُها، ولا تَتَصَدَّرُ المَكانَ المُشرِف.
هذا العامِلُ بِتَفانِي أُمٍّ رَؤُومٍ، صَمتُهُ المُهَيمِنُ أَفصَحُ مِن ثَرثَراتِ الكَثِيرِينَ يَغمُرُونَ المَدَى جَعجَعَةً مِن دُونِ طَحِينٍ، وصُراخًا يُشَوِّشُ هَينَماتِ الأَنسام.
هو المُتَجَهِّدُ لِعَمَلِهِ، يَرعَى بِحَدَبِ المَآقِي “صَفحَةً ثَقافِيَّةً” ناصِعَةً تَتَماوَجُ في أَثلامِها السَّنابِلُ، ويَرتاحُ إِلى عَطفِها جَرْسُ المَواهِبِ الفَتِيَّةِ الواعِدَةِ، ويَطِيبُ، في دِفئِها، عَطاءُ اليَراعاتِ المُقتَدِرَةِ في عَصرٍ يَضمُرُ فيه الرُّكُونُ إِلى الثَّقافَةِ والأَدَبِ والجَمال. وهي تَشهَدُ أَنَّهُ الكَفُّ المَلأَى بُرًّا وبِرًّا، وَهْجُهُ يُجَلِّلُ حُرُوفَها بِالتَّصمِيماتِ المُبتَكَرَةِ، وهو المُتَخَفِّي في خِدْرِها لا يَظهَرُ لِلعِيان. إِنَّ ذا لَعَمَلُ رُسُلٍ، يُعطُونَ فَلا يُرِيدُونَ جَزَاءً ولا شُكُورا(1).
ما رَأَيتُهُ يَومًا مُلتَزِمًا صِيغَةً مُعَيَّنَةً في انتِقاءِ الشِّعرِ لِصَفحَتِهِ، فَهُو مَلاذٌ لِلعَمُودِيِّ ولِلحُرِّ ولِلعامِّيِّ، ورَجاؤُهُ الأَوحَدُ جُودَةٌ غَيرُ مُتَزَمِّتَةٍ، لَكَأَنَّ مَذهَبَهُ الوَحِيدَ هو ما نادَى بِه الأَدِيبُ أَنطُون قازان: “الشِّعْرُ جَمَالٌ قَبْلَ كُلِّ شَيْء”.
كذلك في الأَدَبِ الوافِدِ إِلَيهِ، لَم يَشتَرِطْ مِعيارًا لِلإِبداعِ لا يَحِيدُ عَنهُ فَتِيلًا. إِنَّهُ الحانِي على الضَّعِيفِ الصَّاعِدِ، بِقَدْرِ ما هو المُحْتَفِي بِالرَّاسِخِ المَكِينِ، فَحِرصُهُ حِرْصُ أَبٍ، وحَنانُهُ حَنانُ أُمّ.
هذا المُتَأَنِّقُ في مَظهَرِهِ، المُتَخَيِّرُ أَلفاظَهُ كَأَنْ في حَضْرَةِ مَلِكٍ، المُتَأَدِّبُ في تَعاطِيهِ، الهاشُّ الباشُّ، تَطِيبُ مَعَهُ الجَلسَةُ، فهو المُحَدِّثُ الواثِقُ، والمُصغِي اللَّبِقُ، يُوَشِّي حُضُورَهُ بِالكَلامِ اللَّذِّ، والفِكرِ الثَّرِّ، واللَّطافَةِ الغامِرَة.
قَرَأتُ مُختاراتٍ مُوجَزَةً مِن كِتاباتِهِ، فَوَجَدتُ في طَيَّاتِها بَصَماتِ فَيلَسُوفٍ ما عَقَّدَتهُ النَّظَرِيَّاتُ، ولا عَقَّدَ النَّاسَ بِالطُّرُوحاتِ المُضنِيَة. إِنَّهُ المُفَكِّرُ، أُوتِيَ المَوهِبَةَ الغَنِيَّةَ، يَطرُقُ بابَ الشَّكِّ مُستَجدِيًا الحَقِيقَةَ، سابِرًا أَغوارَ النَّفسِ، باحِثًا عن الخَلِيَّةِ الهَيُولَى حَيثُ سِرُّ الأَسرارِ، ومِرآةُ كُلِّ خِيارٍ ومَسار.
في وَمْضَةِ تَفَكُّرٍ، تَحتَ وَطأَةِ ضَياعٍ مُطبِقٍ، يَتَساءَلُ، ذاتَ حَيْرَةٍ: “مَن أَنا؟ لا جَواب!”.
بَلَى، يا صَدِيقِي، أَنتَ هو الجَواب…
أَنتَ بَلَلٌ مُنعِشٌ على وُرَيقاتٍ ظَمْأَى…
أَنتَ حُداءٌ لِقافِلَةٍ أَجهَدَها السَّيرُ والسُّرَى، وأَنهَكَتها القِفار…
أَنتَ بَسمَةٌ تَصفَعُ الوُجُوهَ المُربَدَّةَ في زَمَنِ اليَأس…
أَنتَ سَنابِلُ يَنحَنِي أَمامَ رِفْدِها المُعْوِزُ، والعاجِزُ، والسُّلطانُ القَدِير…
أَنتَ نُسَيمَةٌ في هَجِيرِ الثَّقافَةِ، تُنعِشُ مَن يَرَونَ في الحَرفِ خَلاصًا مِن نَكَدِ الدُّنيا…
أَنتَ نُجْعَةُ “العِطاشِ إِلى بِرِّ” الحُبِّ والنَّقاءِ والرُّواء…
صَدِيقِي…
في حَفْلِ تَكرِيمِكَ، تَوَّجتَ المُناسَبَةَ بِكَلِمَةٍ، صُورَةٍ لِرُوحِكَ الكَبِيرَةِ، وشَذًا مِن طِباعِكَ السِّماحِ، فَأَتَت مُفعَمَةً بِالوِجدانِ الصَّادِقِ، مُجَلَّلَةً بِالثَّقافَةِ العَمِيقَةِ، والبُعْدِ الدِّينِيِّ الرَّاقِي، المُنفَتِحِ على الأَرْبَعِ الزَّوايا. لَأَنتَ الإِنسانُ آنَ يَتَجَلَّى، ويَتَرَفَّعُ عن الصَّغائِرِ، وتَتَمَدَّدُ رُوحُهُ في أَثِيرِ المَحَبَّةِ الصَّافِيَةِ الَّتي تُبارِكُ ولا تَلعَنُ، تَبتَسِمُ ولا تَعبِس.
فَيا سادِنَ الثَّقافَةِ المُخلِصَ، لَأَنتَ الغَيُورُ على جَمالِ العَطاءِ، تَسفَحُ أَيَّامَكَ، ومِزَعًا مِن لَيالِيكَ، مُتَسَمِّرًا أَمامَ طُوفانِ النُّصُوصِ المُتَدَفِّقَةِ عَلَيكَ مِن أَقلامٍ تَفاوَتَت في صَلابَةِ المُتُونِ، وعُذُوبَةِ النَّشِيدِ، لا تَصُدُّ آمِلًا، ولا تُقَطِّبُ الجَبِينَ في وَجهِ واعِدٍ، ولا غَرْوَ فَـ “المَورِدُ العَذبُ كَثِيرُ الزِّحَام”، وقِراكَ لا يَنضُبُ ولا يَنقَطِع.
أَنتَ الصَّفاءُ مُتَجَسِّدًا، سِلاحُكَ المَحَبَّة. حَتَّى في حَوْمَةِ الحَربِ الَّتي عَصَفَت بِلُبنانِنا، ما رَاوَدَكَ، يَومًا، خاطِرُ حِقْدٍ، بَل كُنتَ قامَةً سامِقَةً إِذا واجَهَتها الرِّيحُ الهَوجاءُ صَدَرَت عَنها رَنِيمًا كَشَجْوِ القَصَبِ في المَهَبِّ العاتِي.
وأَنتَ العابِدُ القانِتُ في مِحراِبَكَ، في نَشْقِ حِبْرِكَ، ونِداءِ رِقاعِكَ، وَ”كُلُّ عَمَلٍ صَالِحٍ عِبَادَةٌ” على ما سَمِعنا مِن عَمِيدِ أَدَبِنا طَهَ حُسَين.
كُنتَ في “الأَنوارِ” نُورًا ما خَبا، وفارِسًا يَلِيقُ بِمَسِيرَتِها المُضِيئَةِ، رَسَمَها عِملاقٌ مِن بِلادِنا يُدعَى سَعِيد فرَيْحَة، والَّتي ما زالَت نَبَّاضَةً بِالسَّخاءِ، تُصَعِّدُ، حِينَ أَوهَتِ العَقَباتُ الكَثِيرِينَ فارتَمَوا على حَصْبائِها مُنقَطِعِي اللُّهاثِ، مُسَمَّرِي الأَحداقِ الفارِغَةِ في كُوَّةِ العَدَم. وفي الصِّحافَةِ، عُمُومًا، كُنتَ “ابْنًا بِهِ سُرَّتْ” سَحابَةَ عُقُودٍ طِوال.
فَهَنِيئًا لَكَ قِبلَتُكَ الصَّعبَةُ، فَمَنِ “اختارَ العِطرَ تِجَارَةً، إِن فَاتَهُ رِبْحُهُ ما فاتهُ رِيْحُه”*…
أَدامَكَ اللهُ، وسَدَّدَ يَراعَكَ وذِراعَك!
****
(1): ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورا﴾ (القُرآنُ الكَرِيم، سُورَة الإِنسان، الآيَة 9)
(2): “إِخْتَرِ العِطْرَ تِجَارَةً، فَإِن فَاتَكَ رِبْحُهُ مَا فَاتَكَ رِيْحُه” (هذا ما قالَتهُ أَعرَابِيَّةٌ لابنِهَا)