خمَّارُ التّجربة!!

 سليمان يوسف إِبراهيم

(كاتب- لبنان)

منذ العام التّاسع بعد الألفين وفي التّشرين الثّاني منه، دخلتُ نادي العزيز جورج طرابلسي، الّذي شيّد له قصرًا ثقافيًّا في دار الصّياد عبر صرح الصّفحة الثّقافيّة من منشوراتها، صحيفة الأنوار. ومن يومها، بتُّ مُدمنًا على نور نُصحه ومواكبته مُذ وجَدَ بعين العارف المدقِّق، في مقالتي وقولي ما يصلح، لأن أمتطي صهوة القلم دخولاً إلى قلوب النّاس وعقولهم، فصار رأيه بي شهادةً لي أَعتزُّ بها، وأعملُ جاهدًا على حفظ مكانتي عنده.

فإن كان مَن يُكرّم الوطن في هذه الآونة من وطن القمر- مشغرة – فالأجلّ والأعظم، أَنّه ملك على عرش ثقافةٍ بنى لها في “الأنوار” الحبيبة وطنًا لأهلها، وهي تجري في عروقه، تعشِّش بفكره، ويستوطن أَحبّتها كما أسيادها قلبَه ووجدانه: فيلاحق أحداثها ومهرجاناتها، ملاحقة النَّهِم الولِع، فيسبر أغوارها ويغوصُ في أَعماق حدث السّاعة في ميدانها، فيستخرج درّه، ليقدِّم صاحبَه للنّاس، جواهريا بما خقَّقَ، فيأتي نشرُه خادمًا للأثر المنقود أَم للقراءة الموضوعة، مُساندًا لمسيرة صاحبه، ملقيًا على المضامين إشعاعات من أنوار حذقه أصول المهنة، على تواضعٍ جمٍّ يمتاز به الكبار فقط؛ على سمو خُلقٍ ومحبّةٍ متوقِّدةٍ يصبو الطرابلسي من خلالهما، للسموّ بالمنشور وصاحبه من غير تجريح ٍأو مواربةٍ.

جورج طرابلسي وزوجته حنان خلال حفلة تكريمه

الكلّ يعلم أنّه من الصَّعب التزام الموضوعيّة في كلامنا على  مَن نحبّ. فكيف هي الحالُ بي وأنا أتحدَّث عمَّن أحبَّنا نحنُ أَصحاب الأقلام؟ ساعدني ربّي، على التزام معظم صفات الباحث الحقّ، في كلامي على الأستاذ جورج طرابلسي، بمناسبة تكريمه الّذي يتكرّم من خلاله كلّ صاحب كلمة.  

شخصيّةٌ فذّة في عالم الصِّحافة ومراسح الكلمة هو. على قدرٍ عالٍ من مستوى المعرفة ومنسوب الإطّلاع على مُجريات دنيا الثّقافة ونشاط أهلها. منفتحٌ على الآخر، يفتح لكَ- أنت المتهيّب الدّخولَ محرابَ الكلمة – باب التلاقي بمفتاح مودّةٍ صادقةٍ، فتنفتح لكَ جراء طيب حديثه وعمق مآله، أبوابًا مرصودةً لأُوَلي الألباب، على مِسحةٍ من ظُرف الدُّعابة الرّصينة واللّطف البادي اللّذان يُشرّعان أَمامكَ سُبُلَ دخول رحاب الكلمة، بتواضع الكبار؛ من بابٍ يودي بكَ إلى فسيح المآل ووفير المنال في عيون وقلوب قرّائكَ.

د. ناتالي خوري غريب تقدم درعاً تكريمية لجورج طرابلسي خلال حفلة تكريمه

إنْ تبدّت له ملاحظةٌ حول أمرٍ أو فكرةٍ في موضوعٍ ترسله إليه ليُنشَر، تراه يُبدي رأيه ويُسدي نُصحه كتضوّع عبير بنفسج الحقول، فتتلقف تمنِّيه اللّطيف وتسير بهديه، كما تغتسل عيون الفجر بشعاع شمسٍ: فتدفأ لرأيه، وتنعم بطلاوة حديثه، لِما فيه خير مقالك وسموّ وصوله إلى النّاس بأقرب السّبل وقشيب الحُلَل.

إنّ جورج طرابلسي، هذا الكبير في دنيا الحبر والكلمة، الّذي يحتفي به أهل الفكر والثّقافة والصِّحافة اليوم، بدعوةٍ من الحركة الثّقافيّة في انطلياس،فخرنا أنّنا عاصرناه وعايشناه، مرحّبا بالأقلام الفذّة مهادنًا موجّها للأقلام الطريئة،حتّى بات أصحابها ممّن درجوا بخطىً مكينةٍ على سلالمَ يرتقونها باتّجاه انتشارهم أَسماءً وكلماتٍ، من غير تصلُّف ولا ادعاءٍ، مُبتعدًا عن ردٍّ طالب نشرٍ أو مريد انطلاقٍ، إن حظي في حصاد قلمه ما يؤهله أن يغدوَ زارع كلمة حاصد ثناء على ما يبدر في عقول القرّاء من فِكَرٍ ومعارفَ. بكلمةٍ، إنّ العزيز جورج طرابلسي، عاشر الكبار ورافقهم، كما ماشى وهادى خطو المبتدئين والمريدين والمنطلقين خلف حميّة الحبر والورق… فهو لم ينتظرهم حتّى يكبروا ليماشيهم ويعاشرهم بل مشى ويمشي معهم مشوارًا أتمنّاه دهريًّا؛  مخففًا من أمامهم حصى العثرات وقتاد الدّروب…داعيهم إلى صوانه العامر، الصّفحة الثّقافيّة في صحيفة الأنوار المشعّة حضورًا، والأمل يحدو عينيه الخضراوَين بلون الأمل السّاكن قلبه وفكره، بأن يسلّم شعلة الثّقافة إلى كثيرين أفذاذ متنوّرين من بينهم، يحملون الشّعلة بجدارة الكبار على تواضع في الأداء والمعاطاة.

جورح طرابلسي وعائلته خلال حفلة تكريمه

ختامًا، وليس لموسم الكلام معكَ وعنكَ جورج طرابلسي صديق الفكر والوجدان، من نهاياتٍ نقف عندها. لأنّنا، مع أنوار الكلمة عند كل فجر صبيحةٍ، لنا معكَ لقاءاتٌ ومواعيدٌ من عطرٍ ولحن ولونٍ، يعبَقُ من نَشرِها عبيرُ الأَنَفة والصدق من عمق خابية معارفكَ التي لا تنضب منها خمورٌ، يا خمّار التّجربة…

فغاية فخري أنّني جزتُ مصنعَكَ فمكثتُ؛ وأهوى المكوث العمرَ في مختبركَ، لنُطلِعَ معًا شهيّات الأرغفة ممزوجةً بفاخر الحبر نبيذَ ألبابٍ، قرّاءٌ بها ينتَشون.                                                                                                          عنّايا، في 9- 5-  2017

*****         

  (*) كلمةٌ أعددتُها في الصّديق الغالي الأُستاذ جورج طرابلسي، بمناسبة الحفل التّكريمي الّذي ستقيمه له “الحركة الثّقافيّة- إِنطلياس-“، في يوم الخميس الموافق 11-5- 2017.

اترك رد