تُرَاثُ لُبْنَانَ العَالمِيّ المُسجَّل على لائِحَة اليونسكو للتُراث العَالميّ

جولةٌ مصوّرةٌ بين المَاضي والحَاضر

د. خالد عمر تدمري

(بروفسور مهندس- لبنان) 

يهدف هذا المعرض إلى إعطاء فكرة عن وجه لبنان الأصيل عبر الصورة التي وحدها تستطيع أن تكون صدى القصيدة التي تكتبها الأرض العريقة في التاريخ، المشرقة جمالاً والشاملة في إنسانيتها، فلطالما عرّفت النصوص قديمها وحديثها لبنان بأنه مرادفٌ للجمال. وها هو لبنان اليوم أكثر من أي وقتٍ مضى يقولها عالياً ها أنذا.

في خِضمّ النزاعات الإقليمية التي تعصف في محيطه، وعلى الرغم من حربٍ ظالمة مريرة استنزفت دماءه وطاقاته واستهدفت وحدته وكيانه، يتحدّى لبنان البقاء بعزمٍ وعزيمة مؤمناً بديمومته مهيباً بالعالم الحفاظ على وجوده واحةً للفكر والحريّات والتسامح والجمال، جاهداً في تحقيق ذاته ورسالته، منتصراً في كل مرّة على المِحَن في تاريخه الطويل.

يتعدّى لبنان مفهوم الأوطان ليصبح غاية تُنال، فهو أسلوب حياة وصيغة حضارة ورسالة وجود فريدة في محيطه العربيّ الطبيعي، فهو حتمٌ يُمليه التاريخ وتفرضه الجغرافيا. لقد كان تكوين لبنان الجبلي ودَور المرافئ القديمة على شاطئه وراء كتابة تاريخه العريق. فهو ما كان لولا الجبل، ملاذاً وموئلاً للتقاليد والأعراف والحريّات التي عليها يحرص اللبنانيّون حرصهم على الحياة. وهو ما كان لولا عطاء مدنه الساحلية ومرافئها، حلقة اتصال أساسية بين عالمَين ومترجماً للحضارات منذ طفولة التاريخ.

هكذا، تركت الحضارات المتعاقبة على أرض لبنان شواهدها ماثلةً للتاريخ، وتوافرت فيه مواقع أثريّة تضاهي بجلالها وجمالها أشهر وأهمّ المواقع والمدن التاريخيّة حول العالم. وبهدف حمايتها والتعريف بها في المحافل الدوليّة والحفاظ عليها من متغيّرات الزمان وتشويه الإنسان، أعلنت منظمة اليونسكو عام 1984 تسجيل المواقع الأثرية في مدن جبيل وبعلبك وعنجر وصُور على لائحة التراث العالميّ، وأردفتها بتسجيل وادي قاديشا المهيب بقُراه وأديرته ومكوناته الطبيعية على اللائحة عينها عام 1998.

ولم تقف شهرة تراث لبنان العالميّ عند حدّ مواقعه الأثريّة، بل تعدته إلى الإبداع في مجال التراث المنقول الشعبي والتقليدي، فأعنلت منظمة اليونسكو عام 2013 زحلة مدينةً مبدعة في مجال فن الطبخ وأردجتها ضمن شبكة المدن المبدعة حول العالم.

عندما طرحت فكرة إعداد هذا المعرض على زملائي أعضاء اللجنة الوطنية لليونسكو لم يترددوا في إقراره وتبنّي تحقيقه، إيماناً منهم بأهمية التعريف بهذا التراث العالمي العريق الذي لا يعلم الكثيرون من أبناء الوطن عنه، فالشكر كل الشكر لكل فرد منهم والشكر موصولٌ لرئيس اللجنة الدكتور هنري العويط وأمينها العام الدكتورة زهيدة درويش جبّور على جهودهما ومتابعتهما الحثيثة لكل خطوات تنفيذه، ومراحل التجوال به لاحقاً في مختلف المناطق اللبنانية. وكل المحبّة والتقدير لراعي الثقافة وراعي معرضنا معالي الوزير غطّاس خوري الممثل بيننا بداعي السفر بحضرة مدير عام الأثار الزميل المهندس سركيس الخوري.

كما شاهدتم يرافق معرضنا تراث لبنان العالمي عرض عددٍ من الأفلام الوثائقية التي سبق وقمت بإعدادها ضمن معارض تراثية مشابهة، فيلم ذاكرة مدينة صور بالتعاون مع جمعية المحافظة على صور، وفيلم ذاكرة بعلبك بالتعاون مع اتحاد بلديات بعلبك(سامي رمضان، بسام رعد)، وعرض للصوت والضوء 3D Mapping شاركنا في إعداده عام 2013 وتم عرضه على البرج البحري لمدينة جبيل بدعم من شبكة مدن البحر المتوسط في الإتحاد الأوروبي وبالتعاون مع مكتبة الإسكندرية وبالطبع بلدية جبيل. وقد اعتمد معرضنا كما المعارض السابقة التي سبق وأعددتها حول الذاكرة المصوّرة للبنان على المحفوظات القديمة والنادرة، والتي يأتي في طليعتها الأرشيفات العثمانية في تركيا، وأتوجه بهذه المناسبة أيضاً بالشكر والتقدير لسعادة سفير الجمهورية التركية الأستاذ تشغاطاي أرجياس على شرف حضوره معنا، وعبره إلى وزارة الثقافة التركية على منحنا الأذونات الخاصة لإطلاع والإستفادة من تلك الخزائن القيّمة وتصويرها.

لقد قام لبنان منذ البدء على قاعدةٍ جوهريّة قوامها الحريّة والتسامح، تتفتح في أجواء الحريّة طاقاته الإبداعيّة والخلاّقة، فلا حقّ ولا خير ولا جمال بلا حريّة. وما عصفت بلبنان رياح إلاّ وكانت خارجية تزول ويبقى لبنان وطناً واجب الوجود، واحة حريّة في محيطه، وصِلة حضارية بين الشرق والغرب. اجتاز الصعاب وتغلّب على المحن وبرهن أنه جدير بالبقاء، فاستقطب اهتمام العالم بضرورة وجوده الذي يتحدّى الزوال مؤكّداً ذاته يوماً بعد يوم. وطنٌ كان مهد الحضارات يوم كان الجهل سيّداً على أنحاء كثيرة من المعمورة.

ولئن كان مفهوم الحضارة واحداً، فالحضارة اللبنانيّة متعدّدة المنابع والخصائص. واللبنانيّون يدركون تماماً رسالتهم هذه التي خصّهم بها التاريخ، فتعايش الطوائف المتعدّدة هو القاعدة، بل مبدأ الدولة اللبنانيّة التي قرّرت مختارة أن تكون جزءاً متمّماً للعالم العربيّ، ويبقى لبنان سيّداً حرّاً مستقلاً له شخصيته المميّزة ودوره الرائد. وطنٌ شعاره الأرز الخالد.

*****

(*) ألقيت في حفل افتتاح معرض “تراث لبنان العالمي” من تنظيم اللجنة الوطنية اللبنانية لليونسكو وإعداد البروفسور المهندس خالد عمر تدمري.

 

 

اترك رد