حين ألّف فرايزر إيغرتون كتاب الجهاد في الغرب: صعود السلفية المقاتلة، أراد تحصيل فهم أعمق للسلفية المقاتلة التي تعدّ واحدة من الحركات السياسية الأهم اليوم، تداركًا لنقص معرفي ناتج من أنها لم تنل الفهم الذي تستحقه، وذلك من خلال النظر في العوامل التي مكّنت وسهلت ما يسميه إيغرتون “المخيال السياسي” الذي يسمح للأفراد بتصوّر أنفسهم جزءًا لا يتجزأ من معركة عالمية بين قوى الإسلام والغرب.
يبيّن إيغرتون في هذا الكتاب الذي ترجمه فادي الملحم وأصدره حديثًا المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات (288 صفحة، موثقًا ومفهرسًا) كيف أدّى انتشار وسائل الإعلام الحديثة وشيوع التنقل والهجرات إلى إحداث تحوّل في معتقدات المسلمين الغربيين نحو تبنّيهم أيديولوجية تدعم سلفية مقاتلة ضد الغرب.
السلفي المقاتل
يتألف الكتاب من مقدمة وستة فصول وخاتمة. في الفصل الأول، مُلّا مجنون أم مقاتل من أجل الحرية؟ من هو السلفي المقاتل، يعرض إيغرتون ماهية السلفية المقاتلة، ويفضل هوية التشدّد، ويبين السرد الذي يلتزمه السلفيون المقاتلون، ويفنّد عاملين أساسين: المظالم السياسية والتفسير الديني. يقول المؤلف إنّ بعض الكتابات المستخدمة اليوم لتسويغ الجهاد العنيف يعود إلى نحو ألفي سنة، “وعلى الرغم من ذلك، كان يوجد دائمًا نقص واضح في مفهوم الجهاد العنيف، في معظم الأوقات، وفي معظم أنحاء العالم. لكن هذا الموقف لا يحظى بالأغلبية، كما كانت الحال دائمًا، الأمر الذي يعني أنّ الكلمات نفسها أقل أهمية من عملية تقبلها من طرف الأشخاص المختلفين الذين يتلقونها، ومن درجة الإقناع في الرسالة وشكلها”.
يدرس إيغرتون في الفصل الثاني، ما هي مشكلة هؤلاء الناس؟ أحد المناهج الرئيسة في شرح ظاهرة الاغتراب لفهم التشدّد بشكل أفضل إذا اعتُبر ردة فعل على فكرة الاغتراب. على الرغم من هيمنة هذه المقاربة على دراسة السلفية المقاتلة في الغرب، تحوم حولها تساؤلات موضوعية تتناول الشرعية والشعبية التي تحظى بها؛ إذ يقول: “إذا كان مفهوم الاغتراب يسمح بإدخال تفسيرات عدة، فلن تنحصر المشكلة في عدد قليل من المناضلين المقاتلين الذين يعانون الاغتراب، بل ستتطوّر ليؤثر الاغتراب في عدد أكبر من الناس الذين ينحازون إلى الكفاحية القتالية. وبحسب هذا الاختلاط التعريفي أو التوسّع في التعريف، يمكننا اعتبار عدد هائل من الناس من بين المصابين بالاغتراب. ويزداد هذا الأمر تعقيدًا عندما تصبح منابع الاغتراب وأسبابه مبهمة”.
ويرى المؤلف أن السلفية المقاتلة تعتمد على الحد من أشكال الهوية المتداخلة، لمصلحة هوية مسيطرة في النهاية، “أي هوية المسلم الذي يتعرّض مجتمعه للتهديد من أولئك المعارضين أساسًا وبالضرورة للإسلام وأتباعه؛ فدراسة ظاهرة المخيال السياسي يمكنها أن تكشف أمورًا كثيرة عن هذه العملية. لكنها تبقى، مع البنى التي تسهّلها وتتيحها، غير مكتشفة اكتشافًا كافيًا في سياق السلفية المقاتلة”.
مخيال سياسي مؤثر
في الفصل الثالث، يأخذنا إلى كل مكان: دور المخيال السياسي، يسأل إيغرتون: ما هي العوامل التي تُسهل على الأفراد بناء المخيال السلفي المقاتل؟ ويقول: “رأينا سابقًا أن المخيال السياسي السلفي يشتد حين يتخيّل المجاهد نفسه مدافعًا عن المسلمين في أنحاء العالم، أي في المعركة التي يشنها زملاؤه المقاتلون من مانشستر إلى مقديشو. ويتكون المخيال السياسي ويصير فاعلًا عندما تجتمع حوادث عالمية منوعة، وتتداخل مع حوادث محلية. وأصبح هذا الأمر ممكنًا بسبب تضافر قوى وأوضاع خاصة في هذه المرحلة الراهنة من الحداثة المعولمة. وبحسبه، تعتمد النظرة العالمية للسلفية المقاتلة على ممارسة المخيال السياسي، الذي يعتمد بدوره على شروط الإمكان في عصر الحداثة العالمية. ويُعتبر الإعلام وحركة الانتقال من أهم هذه الشروط”.
يشرح المؤلف في الفصل الرابع، وسائط المعلومات الشاملة وتكوين المجتمع المقاتل، الاستخدام المفرط لوسائل الإعلام وأهميتها الفائقة في حياة الأفراد والجماعات المقاتلة، ويقدّم تحليلًا وافيًا لتأثيرها في المقاتلين الذين شملهم الاستطلاع. في هذا الإطار، لصور قطع الرؤوس والتفجيرات والاستشهاديين وقع بالغ الشدة، فهي تسمح للمشاهد بإسناد المعنى وتنسيبه، وهو أمر لا تقوم به أي أشكال إعلامية أخرى. لذلك، يستطيع المشاهد البعيد توليف هذه الحوادث في سردية معينة، ووضع نفسه داخل هذا السرد مشاركًا ناشطًا. ولهذه الصور أيضًا دور مهمٌ في السماح للناس المتفرقين بتخيل أنفسهم متّحدين مع الآخرين ومشاركين في النضال العالمي نفسه.
يقول إيغرتون إن اتساع استعمال وسائط المعلومات الشاملة والتطورات الحاصلة فيها مكّن المهاجرين من الجيل الثاني والجدد من الحصول على معلومات عن الحوادث الجارية في العالم المسلم وتحليلات لها، “وسهّل هذا الأمر عملية تخيّل أمة هي عبارة عن كيان اكتسب الحياة عبر نقل الحوادث من مناطق مختلفة في العالم إلى غرف المعيشة”.
الانتقال والسرديات
يسلط الفصل الخامس، حركة الانتقال: من الفعلي إلى الأيديولوجي، الضوء على حركة الانتقال الواسعة في حياة السلفيين المقاتلين في الغرب، والنتائج التي تترتب على تلك الحركة التي تسهل قيام هويات معيّنة. ففي بيئة أكثر استقرارًا، تنطوي الحياة الاجتماعية على نشاط محلي كثيف، وهي تعكسه إلى حد كبير. أما حركة الانتقال، فتحرر الناس من قيود الأسلوب الذي قد يتصورون به أنفسهم سياسيًا. وهي تتميّز بأهمية حاسمة في الخيال السياسي السلفي المقاتل، في ما يتعلق بإعادة تصوره لمجتمع عالمي يشكّل هو جزءًا منه. يقول المؤلف: “نظرتُ في أسماء مئتين وخمسين سلفيًّا مقاتلًا في الغرب، فأظهرتْ المعلومات ارتفاعًا واضحًا في عدد المهاجرين بين أولئك الذين انضمّوا إلى الحركية النضالية المتطرفة. 23 في المئة فحسب ممن شملتهم الدراسة، غير مهاجرين إلى الغرب، وينحدر عدد قليل جدًا منهم من آباء غير مهاجرين. ويُعتبر هذا الرقم مرتفعًا مقارنةً بدراسات أخرى. أظهرت مثلًا، دراسة مستجدة لإدوين باكر أن 17 شخصًا فحسب من بين 242 من المقاتلين السلفيين الأوروبيين الذين شملتهم الدراسة من عائلات أوروبية. وهذا يعني أنّ أقلية كبيرة منهم، وإن كانت نسبة 38 في المئة أعلى كثيرًا من تلك التي في هذه الدراسة، وُلِدت في أوروبا. ومن مجموع 219 مقاتلً، هناك 8 فقط أقاموا في أماكن أخرى من العالم قبل انخراطهم في الإرهاب في أوروبا”.
أخيرًا، يقدم إيغرتون في الفصل السادس، لماذا أنا؟ دور السرديات الأوسع والوسطاء، تفسيرًا لأسباب امتلاك القوى الكونية تأثيرًا تغييريًا في قسم صغير جدًا من المجتمع، كما هو الشأن بالنسبة إلى السلفية المقاتلة. يرى أن جزءًا كبيرًا من الجواب يكمن في دفع السردية المقاتلة إلى حدها الأقصى عند السلفيين المقاتلين، فيما عناصر كثيرة من هذه السردية تحضر مخففة وغير مقاتلة في كثير من المجتمعات (الجماعات( الإسلامية في الغرب. وتنهل السلفية المقاتلة من سردية قائمة على الوحدة الدينية والعداء الغربي للإسلام، وتُبنى على مفاهيم ومعتقدات راسخة، يستحوذ عليها مناضلون، ويقومون بصوغها وتضخيمها. ومن أهم الوسطاء المساعدين في هذه العملية، الذين هم على قدر كبير من الاقتدار، الدعاة الجذريون والمجموعات الصغيرة المقطوعة الجذور عن المجتمع الأوسع. يقول: “معظم المسلمين يعتقد أنّ الغرب يعتمد النفاق في شؤون السياسية الخارجية، والعدوانية غير المبررة نحو البلدان التي تضم أغلبية مسلمة. والمنخرطون في الحراك النضالي يعملون على هذه السرديات عملً محددًا، فيعدلونها ويطورونها. ولا يُقصد هنا مساواة الإسلام بالإرهاب، بل الاعتراف بأن أولئك الذين ينخرطون في الحراك النضالي، يأتون من مجتمعات تنتشر فيها خطابات معينة”.
****
فرايزر إيغرتون: حاصل على شهادة الدكتوراه في السياسة الدولية من جامعة ويلز، أبريستويث، وهو حاليًا زميل باحث في مركز دراسات السياسة الخارجية في جامعة دالهوزي بكندا.
فادي ملحم: مترجم لبناني، يحمل شهادة البكالوريوس في الألسنيات من الجامعة اللبنانية. مارس الترجمة في مجالات علمية وأدبية عديدة.