الدُّكتُور ياسِين الأَيُّوبِي
(أديب وباحث- لبنان)
تَقَعُ الرِّوايَةُ في حَوالَى أَربَعمِئَةِ صَفحَةٍ مِن القَطْعِ الوَسَطِ، وتَشتَمِلُ على مُقَدِّمَةٍ لِلكاتِبِ حِكمَت حنَيْن، وثَلاثَةٍ وثَلاثِينَ فَصلًا مِن مَشاهِدِ الرِّوايَةِ وأَحداثِها، إِلى جانِبِ ثَلاثِينَ صَفحَةٍ مُلحَقَةٍ بِأَزجالِ الشِّعرِ اللُّبنانِيِّ، الَّتي كانَ لَها مَواقِعُ خاصَّةٌ في السِّياق..
أَبطالُها الرَّئِيسِيُّونَ خَمسَةٌ: باسِم كامِل، ونَعِيم خَيرَالله، وجِينا: حَبِيبَة باسِم، ورَيْحان: حَبِيبَة نَعِيم، ونَغَم: إِبنَةُ باسِم الوَحِيدَةُ، يُضافُ إِلى هَؤُلاءِ شَخصِيَّاتٌ أُخرَى يَربُونَ على العِشرِينَ، وهُم ذَوُو صِلَةٍ وَثِيقَةٍ بِالأَبطالِ الخَمسَة.
تَبدَأُ الرِّوايَةُ بَعدَ شَهرٍ مِن وَفاةِ البَطَلِ الأَوَّلِ، باسِم كامِل، تَروِيها ابنَتُهُ نَغَم، بَعدَما دَخَلَت بَيتَ والِدِها، وعَثَرَت في أَحَدِ أَدراجِ مَكتَبِهِ، على رُزْمَةِ أَوراقٍ مَخطُوطَةٍ مُحكَمَةِ الرَّبْطِ، فِيها وَصِيَّةٌ بِخَطِّ الرَّاحِلِ، أَنْ لا تُنتَشَرَ إِلَّا بَعدَ رَحِيلِه.
ثُمَّ يَتَوَلَّى باسِم الرِّوايَةَ الَّتي تَضَمَّنَتها الأَوراقُ الَّتي وَقَعَت في يَدِ نَغَم؛ وتَنتَهِي، بَعدَ كُلِّ الفُصُولِ والمَجرَياتِ، بِما عَقَّبَت بِه هذه الأَخِيرَةُ، وهي تَختِمُ قِراءَةَ الأَوراق. فَالبِدايَةُ مِن نَغَم والنَّهايَةُ بِلِسانِها. وما بَينَ البِدايَةِ والنِّهايَةِ، قَرابَةُ ثَلاثمِئَةِ صَفحَةٍ، بِقَلَمِ باسِم الَّذي صاغَ حِكاياتِهِ، بِطَرِيقَةِ المُذَكَّراتِ الشَّخصِيَّةِ، والمُراسَلاتِ في ما بَينَهُ وبَينَ صَدِيقِهِ الحَمِيمِ نَعِيم خَيرَالله الَّذي هاجَرَ إِلى البَرازِيل، بِسَبَبِ ضِيقِ ذاتِ اليَدِ، وانسِدادِ الأُفُقِ أَمامَ أَحلامِهِ العَرِيضَةِ بِحَياةٍ طَيِّبَةٍ مع حَبِيبَتِهِ رَيْحان وأَخَوَيه: وَرْدَة وسامِي.. أَمَّا أَخُوهُ الأَكبَرُ أَنطُونيُوس فكانَ نَمُوذَجًا لِلجَشَعِ والغَيرَةِ والأَنانِيَّة..
حَبٌّ كَبِير
تَمضِي الأَيَّامُ والأَعوامُ، يَقَعُ فِيها باسِم بِحُبٍّ كَبِيرٍ لِفَتاةٍ مِن بَناتِ صَفِّهِ الثَّانَوِيِّ تُدعَى جِينا. ويَتَعَرَّضُ حُبُّهُما إِلى فُصُولٍ مُتَقَلِّبَةِ الأَحوالِ لِكِلَيهِما، تَنتَهِي بِاضطِرارِ جِينا إِلى الزَّواجِ مِن رَجُلٍ تاجِرٍ مَيْسُورٍ، آخِذًا مَعَهُ كُلَّ خلجاتِ العِشقِ والتَّفانِي بَينَ الحَبِيبَينِ، مُخلِّفاً الحَسرَةَ والضَّياع. لَكَأَنَّ المُؤَلِّفَ أَرادَ أَن يُصَوِّرَ في رِوايَتِهِ المَصائِرَ القاتِمَةَ الَّتي يَحياها أَهلُ العِشقِ والحَياةِ الحُرَّةِ الكَرِيمَةِ، وهي مَجبُولَةٌ بِالجِهادِ والصِّراعِ الطَّوِيلِ، مِن أَجلِ بُلُوغِ جَنَّةِ السَّعادَة.. فَإِذا هي كَالسَّرابِ في كُثبانِ الرِّمالِ في الصَّحارِي.. لا وُجُودَ فِيها لِلأَحلامِ والأَمانِي والتَّطَلُّعاتِ المِثالِيَّةِ، إِلَّا في التَّأَمُّلِ البَعِيدِ الَّذي لا يُفضِي إِلى شَيءٍ يُذكَر؛ فَيَنصاعُ أَصحابُ هذا التَّأَمُّلِ إِلى الواقِعِ الَّذي لا يَكادُ يَخرُجُ عَنهُ أَحَد: “إِذا لَم يَكُن ما تُرِيدُ، فَأَرِدْ ما يَكُونُ” أَي الرِّضا بِالمُتَيَسِّرِ والمُقَدَّرِ تَحقِيقًا لِهَدَفٍ كَبِيرٍ هو السُّترَةُ وتَأمِينُ لُقمَةِ العَيشِ، والرَّتابَةُ الكَبِيرَةُ في تَقطِيعِ أَيَّامِ العُمرِ، وُصُولًا إِلى القَبْر.
هكذا عاشَ أَهلُ باسِم وأُسرَتُهُ مِن والِدَيهِ، وابنَتُهُ نَغَم وأُسرَتُها، وكذلك نَعِيم وأُسرَتُهُ، ومُعظَمُ أُسَرِ وحَيَواتِ الأَبطالِ الآخَرِين. ولا شَيءَ يُذكَرُ مِن المَصائِرِ الشَّاذَّةِ المُنْعَمِ عليها مِن المَقادِيرِ والحُظُوظِ المُؤَاتِيَة.
عُنوانُ الحَياة
وقد وُفِّقَ المُؤَلِّفُ بِوَسْمِ رِوايَتِهِ بِالأَقدارِ لِأَنَّها عُنوانُ الحُياةِ المُقَدَّرَةِ مِن لَدُنِ الخالِقِ الأَعظَم: لا تَبدِيلَ لِمَشِيئَةِ الأَقدارِ هذه.
وَلَم أَرَ تَدَخُّلًا يُذكَرُ مِن قِبَلِ المُؤَلِّفِ، بِتَحوِيلِ المَسارِ المَرسُومِ، لِأَنَّهُ اعتَمَدَ فيه على مَجرَياتٍ واقِعِيَّةٍ عاشَها المُؤَلِّفُ نَفسُهُ خِلالَ نِصْفِ قَرْنٍ، في بِيئَتِهِ وَوَطَنِه.
اتَّبَعَ المُؤَلِّفُ، بِكَثِيرٍ مِن الأَمانَةِ التَّارِيخِيَّةِ، الإِطارَ الواسِعَ مِن السَّرْدِ الحِكائِيِّ المُوغِلِ في الكَشْفِ عَن نَوازِعِ النَّفسِ وجَوانِبِ تَقَلُّباتِها وتَطَوُّراتِ مَصائِرِ أَبطالِها، بِسَبْكٍ أَدَبِيٍّ آسِرٍ في كَثِيرٍ مِن المَواضِعِ، على غِنًى في سَوْقِ الأَقوالِ المَأثُورَةِ، والأَبياتِ الشِّعرِيَّةِ المُنتَقاةِ بِعِنايَةٍ مِن عَدَدٍ لا بَأسَ بِه مِن شُعَراءِ العَرَبِيَّةِ، ما أَضفَى على الرِّوايَةِ، أَجواءَ صافِيَةَ الأَدِيمِ رَقِيَ فِيها المُؤَلِّفُ إِلى مَصافِّ مُعظَمِ كُتَّابِ القِصَّةِ والرِّوايَةِ الأَوائِلِ في لُبنانَ، أَمثالِ مِيخائِيل نُعَيمَة، وأَمِين الرَّيْحانِي، ومارُون عَبُّود، وكَرَم مِلحِم كَرَم، وخَلِيل تَقِيِّ الدِّين، وتَوفِيق يُوسُف عَوَّاد وغَيرِهِم مِمَّن أَثْرَوا الأَدَبَ بِلَوحاتِهِم الإِبداعِيَّةِ المُتَهادِيَةِ الجَرْسِ، المُوقِظَةِ لِخَوالِجِ النَّفسِ ورَهافَةِ القَلَمِ والوِجدانِ، وهي تقلِّبُ صَفَحاتِ الحَياةِ الرِّيفِيَّةِ والطَّبِيعِيَّةِ السَّاحِرَةِ، وخَفَقاتِ القَلبِ الظَّامِئَةِ لِرِيِّ لا يَتَحَقَّقُ إِلَّا بِتَمَوُّجاتِ الخَيالِ واعتِصارِ الخاطِر.
وِقْفاتٌ مع عَناصِرِ الإِبداعِ السَّردِيِّ
وأَعنِي بِها الصَّفَحاتِ والفِقْراتِ الَّتِي تَرَكَت في النَّفسِ حُضُورًا وارِفَ الجَمالِ، ومِنها:
– النَّوْرَج:
تَوَقَّفَ المُؤَلِّفُ لَحَظاتٍ عِندَ إِحدَى آلاتِ الفَلَّاحِينَ أَيَّامِ الحَصادِ، أَلَا وهي النَّوْرَجُ… وقد أَصبَحَ الآنَ ذِكرَى وأَطيافَ خَيال.. شَرَحَها المُؤَلِّفُ بِهذه السُّطُورِ: “إِنَّها الخَشَبَةُ الصُّلبَةُ العَرِيضَةُ الَّتِي يَجُرُّها ثَوْرٌ أَو حِصانٌ، والَّتي تَتَوَزَّعُ على صَفحَتِها السُّفْلَى قِطَعٌ صَوَّانِيَّةٌ مُسَنَّنَةٌ تُهَشِّمُ السَّنابِلَ تَحتَها، تَطحَنُها، وتَجعَلُها كَالعُصافَة (ص 45).
– كَلامٌ في ناطُورِ الضَّيعَة:
أَفرَدَ مُورِيس النَجَّار غَيرَ صَفحَةٍ لِمَعرَكَةِ النَّاسِ حِيالَ انتِخابِ النَّاطُورِ الَّذي يَتَوَلَّى السَّهَرَ والمُراقَبَةَ لِأَرزاقِ النَّاسِ وحُقُولِهِم وكُرُومِهِم.. وما كانَ يُرافِقُ ذلك مِن الزِّيارِتِ والاتِّصالاتِ والمُناوَراتِ لاستِدراجِ الأَهالِي تَأيِيدَ هذا المُرَشَّحِ أَو ذاك (ص 214 – 215).
– إِصابَةُ العَينِ ورَقْوَتُها:
مِن أَطرَفِ ما قَرَأتُ في حَياتِي – حِيالَ هذه المَسأَلَةِ – ما أَثبَتَهُ المُؤَلِّفُ مِن نَصِّ الدُّعاءِ الَّذي يُتلَى أَثناءَ القِيامِ بِالرُّقْيا لِإِصابَةِ العَيْنِ وما يُشبِهُها.. فَإِذا هو كَلامٌ مُؤَثِّرٌ ومُتَغَلغِلٌ في جَنَباتِ الضَّمِيرِ، تُلْعَنُ فِيهِ النَّفْسُ الشِّرِّيرَةُ الَّتي تَسطُو على الإِنسانِ الَّذي يُعانِي مِن ضَعْفٍ في الجَسَدِ وَوَهَنٍ في الوَعيِ والسُّلُوك؛ وكَثِيرًا ما قامَ بِه ويَقُومُ بَعضُ النَّاسِ لِإِبراءِ الحالاتِ الصِّحِّيَّةِ المُنحَرِفَة. صَفحَةٌ كامِلَةٌ لا بُدَّ مِن قِراءَتِها في مَتْنِ الرِّوايَة (ص 247).
– كَلامٌ مُؤَثِّرٌ على الطُّفُولَةِ وقِطافِ الثَّمَر:
وفِيهِ إِشاراتٌ فَوَّاحَةٌ بِالشَّجَنِ والحَنِينِ إِلى أَكْلِ القَمْحِ النَّاضِجِ في سُنْبُلِه:
“كنَّا نَتَرَقَّبُ نُضْجَ القمحِ لِنَحظَى بِقَصْعَةٍ مَلِيئَةٍ بِالحُبوبِ الذَّهَبِيَّةِ المَمزُوجَةِ بِالسُّكَّرِ، أو بالعَسَلِ لِمَن أَنعَمَ عليهِ الدَّهرُ بِاليُسْر.
… يَقِينًا، لَذَّتُه النَّادِرَةُ ليست نَكهَةَ القمحِ والسُّكَّرِ، بل هي شَمِيمُ الطُّفولَةِ الهاربةِ، والخاطِرِ السَّاكِنِ إلى أحلامِه ورُؤَاه” (ص 46).
وَقُلْ مِثْلَ ذلك، عن قِطافِ التِّينِ والزَّيتُونِ والعِنَبِ والرُّمَّانِ والتُّفَّاحِ، في إِشاراتٍ غايَةٍ في الإِثارَةِ الذَّاتِيَّة..
الأَقوالُ المَأثُورَةُ والأَشعار
ماذا أَقُولُ في الأَمثالِ الشَّعبِيَّةِ، والأَقوالِ الحِكَمِيَّةِ المَأثُورَةِ، والأَبياتِ الشِّعرِيَّةِ المُعَبِّرَة؟
لقد بَلَغَ مَجمُوعُها ما يَقرُبُ مِن أَربَعِينَ مَوضِعًا، ما بَينَ مَثَلٍ وحِكمَةٍ وبَيتٍ شِعرِيٍّ، أَذكُرُ مِنها بَيتَينِ مِن أَرَقِّ الحِكَمِ الوُجُودِيَّة:
“مَشَيناهَا خُطًّى كُتِبَتْ عَلَينا وَمَن كُتِبَتْ عَلَيهِ خُطًى مَشاها
وَمَن كانَت مَنِيَّتُهُ بِأَرضٍ فَلَيسَ يَمُوتُ في أَرضٍ سِواها” (ص 134).
وكذلك بَيتُ الشَّاعِرِ العَبَّاسِيِّ المُبدِعِ الشَّرِيف الرَّضِيّ، في لَحظَةِ تَذكارِهِ الحَبِيبَ، وهو في غَمْرَةِ حَنِينِه:
“وَتَلَفَّتَت عَينِي، فَمُذ خَفِيَت عَنِّي الطُّلُولُ تَلَفَّتَ القَلبُ” (ص/143)، وكَم رَدَّدَتْهُ كُتُبُ التُّراثِ الأَدَبِيِّ وتَناوَلَهُ الشُّرَّاحُ والدَّارِسُونَ القُدامَى بِالشَّرْحِ والتَّحلِيل!
ومِثْلُ ذلك قَوْلُ الشَّرِيفِ الرَّضِيِّ نَفسِهِ في خَلَجاتِ التَّذكارِ الوِجدانِيِّ لِعَبِيرِ الأَحِبَّة:
“تَضُوعُ أَروَاحُ نَجْدٍ مِن ثِيَابِهِمُ عِندَ النُّزُولِ لِقُربِ العَهدِ بِالدَّارِ” (ص 148).
ومِثْلُ ذلك ما رَواهُ المُؤَلِّفُ، في نُدْرَةِ الوَفاءِ، لَدَى البَشَرِ، لِلشَّاعِرِ المَملُوكِيِّ صَفِيِّ الدِّينِ الحلِّيّ:
“لمَّا رَأَيتُ بَنِي الزَّمانِ، وما بِهِم خِلٌّ وَفِيٌّ، لِلشَّدائِدِ أَصطَفِي
أَيقَنتُ أَنَّ المُستَحِيلَ ثَلاثَةٌ: ألغُولُ والعَنقاءُ والخِلُّ الوَفِي” (ص 171).
ومِثْلُ ذلك لِلشَّاعِرِ الأُمَوِيِّ الغَزِل: عُرْوَة بِنْ أُذَيْنَه، في وَصفِ لَهفَةِ القَلبِ لِلحَبِيب:
“وَيَبِيتُ بَينَ جَوَانِحِي حُبٌّ لَهَا لَو كَانَ تَحتَ فِرَاشِهَا لَأَقَلَّهَا” (ص 176).
الأَوصافُ الإِبداعِيَّة
أَمَّا الأَوصافُ الإِبداعِيَّةُ، فَأَذكُرُ بِاستِمتاعٍ عَمِيقٍ أَيْقَظَ فِيَّ رُوحًا شَدِيدَةَ الاعتِبارِ لِأَسرارِ الوُجُودِ وما وَرائِيَّاتِ الإِنسانِ..، ما ذَكَرَهُ المُؤَلِّفُ عَن أَصداءِ ذِكرَياتِ والِدَةِ نَعِيم الرَّاحِلَةِ، حِيالَ وابُورِ الكازِ الَّذي كانَ الوَسِيلَةَ الأَفعَلَ لِلوَقُودِ والإِشعال (ص 164).
ومِثْلُ ذلك كَلامُهُ على صُخُورِ “الهْجِيجِ” أَحَدِ الأَماكِنِ الخَلَّابَةِ في قَريَتِه:
“هذا “الشِّيرُ” الصَّخرِيُّ الشَّاهِقُ في المُنحَدَرِ الأَخضَرِ على تُخُومِ قَريَتِنا، يَسحَرُنِي ماؤُهُ يَتَدَهدَى على صُخُورٍ بِيْضٍ مُتَدَرِّجَةٍ، في خَرِيرٍ أَجمَلَ مِن أَحلَى السِّيمفُونِيَّاتِ، وتَأخُذُنِي مُنحَدَراتُ الشَّربِينِ على كَتِفِهِ اليُسرَى، المَغسُولَةُ بِالمَطَرِ طِيلَةَ الشِّتاءِ، إلى عالَمِ الخَيالِ اللَّطِيف” (ص 272- 273).
وأَقرَأُ أَصداءَ الأَمكِنَةِ الأَنِيسَةِ، في أَحضانِ الطُّفُولَةِ، وما تَبعَثُهُ في الخَيال.. مِن بَدِيعِ الوَهَجِ الذَّاتِيِّ، والحَنِينِ الجَمْرِيِّ إِلَيها (ص 278) أَو كَما قالَ، في مَوضِعٍ آخَر:
“هِيَ نَغَمٌ مِن الماضِي البَعِيدِ، عادَ إلى القَلبِ يُحَرِّكُ فِيهِ ما خَمَدَ، كَأَنسامٍ تَعبَثُ بِهُدُوءِ الخَمِيلَة!
هِيَ ذِكرَى خِلتُها خَبَت واندَثَرَت، فإذا هيَ في الحَنايا، تَفِدُ إلى الرُّوحِ كَهَبَّةِ رِيحٍ، تُدَغدِغُها بِصُوَرِ هُنَيهاتٍ، حَمِيمَةٍ، دَافِئَة!” (ص 289).
آخِرُ فِقْراتِ السَّرْدِ الإِبداعِيِّ، كَلِماتُ باسِم كامِل قُبَيْلَ رَحِيلِهِ الأَبَدِيِّ، خَتَمَ بِها قِصَّةَ حَياتِهِ الطَّوِيلَة:
“ما أَجمَلَ ما تَكُونُ الرَّاحَةُ، فَالرُّوحُ تَعِبَت مِن صِراعِ الأَفكارِ وَالهَواجِسِ، وَالمَفاصِلُ خارَت مِن طُولِ الطَّرِيقِ، وَتَقَلُّبِ الفُصُول. وَبَدَأَت تَتَقَلَّصُ حُدُودُ تَجوالِي وقد وَهَنَت قِوايَ الجَسَدِيَّةُ، وَبِتُّ لا أَرغَبُ في الخُرُوجِ مِن مَكتَبَتِي، وَغَدا قُوتِي اليَومِيُّ ذِكرَياتٍ، أَستَرجِعُ بها صُوَرًا وَلَّت، وأَحيا، في الخَيالِ، أُوَيقاتٍ نَأَت في الزَّمَنِ حتَّى غَدَت سَرابًا مُتَذَبذِبًا يَصعُبُ تَميِيزُهُ، يَلُوحُ في البَعِيدِ البَعِيد!” (ص 348).
شَيءٌ مِنَ الثَّراءِ اللُّغَوِيّ
لا جِدالَ في أَنَّ مُورِيس النَجَّار كاتِبٌ، وشاعِرٌ صَناعٌ، أَثبَتَ في رِوايَتِهِ هُنا، أَنَّهُ يَمتَلِكُ ناصِيَةَ التَّعبِيرِ والأَداءِ اللُّغَوِيِّ الأَدَبِيِّ بِطَلاقَةٍ وحُضُورٍ آسِرٍ، يُفِيدُ مِنهُ كُلُّ مَن يَتَعاطَى شَأنَ الكِتابَةِ الإِبداعِيَّةِ، بِما يَتَمَتَّعُ بِه مِن ثَقافَةٍ لُغَوِيَّةٍ أُسلُوبِيَّةٍ بَلاغِيَّةٍ أَضافَت إِلَيَّ – أَنا المُتَمَرِّسَ جِدًّا في فُنُونِ الكِتابَةِ والتَّألِيفِ – عَدًّا كَبِيرًا مِن المُفرَداتِ والتَّراكِيبِ كُنتُ أَظُنُّها مَغلُوطَةَ الشَّكلِ والتَّصرِيفِ فَإِذا هي سَلِيمَةٌ خالِيَةٌ مِن كُلِّ نَقْصٍ أَو خَطَأ؛ وَلَم يُقَلِّلْ مِن هذه الخَصِيصَةِ الحَمِيدَةِ وُقُوعُ المُؤَلِّفِ في بَعضِ أَغلاطِ التَّشكِيلِ والسِّياقاتِ الَّتي طَغَى عَلَيها ما يُسَمَّى بِالأَخطاءِ الشَّائِعَةِ، كَـ”طِيلَة” وصَوابُها “طَوال”، وفي “هكذا دَرْب” وصَوابُها: في “دَرْبٍ كَهذا”، وَ”صِدْفَة” وصَوابُها: “مُصادَفَة”، وَ”ناهِيكَ مِن” وصَوابُها “ناهِيكَ بِـ”، و”ثَبْتٌ” بِإِسكانِ الباءِ وصَوابُها “ثَبَتٌ” بِفَتحِها.. وَكَم نَقَعُ جَمِيعًا بِمِثْلِ هذه الأَخطاءِ الَّتي يَغلِبُ عَلَينا استِعمالُها المَورُوثُ، ويَأتِي مَن يُنَبِّهُنا إِلَيها ويُصَوِّبُها!
أَمَّا التَّشابِيهُ البَلِيغَةُ والكِناياتُ اللَّطِيفَةُ فَحَدِّثْ عَنها وَأَكْبِرْ صاحِبَها الَّذي قَلَّما نَقَعُ عَلَيها لَدَى الغالِبِيَّةِ مِن الكُتَّاب.. يُنظَرُ – على سَبِيلِ المِثالِ – (ص ص 133/ 145/ 149/ 159/ 201/ 287/ 288/ 325/ 331).. لَم أَذكُرْها لِضِيقِ المَجال.
أُستاذُ رِياضِيَّات
فَالمُؤَلِّفُ، مُورِيس النَجَّار، أُستاذُ رِياضِيَّاتٍ، ومع ذلك فَقَد شُغِلَ بِالأَدَبِ وفُنُونِهِ ووُجُوهِهِ الإِبداعِيَّةِ مِن شِعْرٍ وقَصَصٍ… أَكثَرَ بِكَثِيرٍ مِن انشِغالِهِ بِعُلُومِ الرِّياضِيَّات.. ما يَدعُو إِلى الإِعجابِ والإِشادَةِ، والدَّعوَةِ الحَثِيثَةِ أَن يَتَوَلَّى تَدرِيسَ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ وآدابِها، وهو ابْنُ بَجْدَتِها، وأَحَدُ سَدَنَتِها ومُرِيدِيها..
وَأَختِمُ بِآخِرِ ما دَوَّنتُهُ على ظَهْرِ الصَّفحَةِ الأَخِيرَةِ مِن الرِّوايَةِ وما أَكثَرَ ما دَوَّنتُ على هَوامِشِها وصَفَحاتِها!
ما أَروَعَكَ يا مُورِيس في هذا السِّفْرِ الرِّوائِيِّ الخالِبِ، الآسِرِ، وهذه الحِكاياتِ والأَحداثِ والمَشاهِدِ المُختَلِفَةِ الطَّعْمِ والشَّكْلِ والحَرارَة!…
كَم أَثَرْتَ فِيَّ مِن الحَنِينِ والإِعجاب!.. وكَم حَفَّزْتَنِي على الكِتابَةِ والتَّعلِيقِ بَينَ الحِينِ والآخَرِ، فَإِذا أَنا لَصِيقُ الكِتابِ، مُتَوَقِّدُ الذِّهْنِ، حاضِرُ البَدِيهَةِ، لا أَكادُ أَخلُو بِنَفسِي إِلَّا وأَذكُرُكَ في سِرِّي قائِلًا: أَما كانَ أَفضَلَ لَهُ ولَنا، لَو وَضَعَ، عِوَضًا عَن مَجمُوعاتِهِ الشِّعرِيَّةِ الأَرْبَعِ أَو الخَمْسِ، رِواياتٍ مِن هذا المُستَوى المُرِيعِ تَأثِيرًا وغِنائِيَّةً، وتَخلِيدًا لِأَلوانِ الحَياةِ هُنا وهُناكَ في حَنايا الذَّاتِ، ومَدارِجِ الزَّمانِ والمَكان؟!
مع تَقدِيرِي وإِعجابِي بِشاعِرِيَّتِكَ ورِقَّةِ قَصائِدِها ومَحمُولاتِها الغَزَلِيَّةِ الوِجدانِيَّةِ، لكِنَّنِي مع رِوايَتِكَ، قارِئٌ آخَرُ، ومُتَذَوِّقٌ مُنْشَدٌّ إِلى مُعظَمِ ما تَناوَلَهُ قَلَمُكَ الَّذي ضَنَّ كَثِيرًا بِالوُقُوفِ عِندَ المَشاهِدِ العاطِفِيَّةِ واحتِراقاتِ الأَفئِدَةِ في لَحَظاتِ اللُّقيَّاتِ الحَمِيمَةِ أَو سُعارِ الفِراقِ المُوجِعِ، وأَنتَ الشَّاعِرُ المُعانِي عَمِيقًا في صَمِيمِ تَجارِبِكَ وارتِحالاتِك!!