خالد غزال
(كاتب وباحث- لبنتان)
يثير عنوان كتاب كارن روس «الثورة بلا قيادات» (سلسلة عالم المعرفة، ترجمة فاضل جتكر) أكثر من علامة استفهام، لكونه يتطرّق الى مسألة شائكة جداً في العلم السياسي. هل يمكن المجتمع أن يتغير والقوى الشعبية العادية أن تتولى السلطة خلافاً للتقاليد السائدة؟ من هذه الفرضية ينطلق الكاتب كارن روس في كتابه، إلا أنه يطرح السؤال بطريقة أخرى: كيف سيبادر الناس العاديون الى تولّي السلطة وتغيير السياسة في القرن الواحد والعشرين؟»
. هكذا يبدو السؤال الافتتاحي كأنه دعوة الى اعتماد صيغة جديدة للسياسة، بالنظر الى صيغٍ قديمة أخفقت إخفاقاً شنيعاً. فمن أزمة الديموقراطية في الغرب، الى ترسخ الحكم الاستبدادي في روسيا والصين، ومن ثمّ الفوضى والعنف والإرهاب في منطقة الشرق الأوسط، الى الحروب بين الأديان والمعتقدات، وغيرها… كلها حقائق تشي بفشل أساليب الحكم التي كانت قائمة وتدعو الى ابتكار الصيغ الجديدة.
تعود خلفية الكتاب كما يراها روس الى خيبته من الحكم الديموقراطي قي بلده، بريطانيا، وإن كانت تعدّ من الدول الديموقراطية العريقة في الغرب. فهو يشير الى الكذب الذي مارسته حكومته بشأن التهديد المزعوم الصادر عن العراق. لقد عاين الممارسات الحكومية وما جرى من تطويع السياسة لمصالح الشركات والكارتلات، سواء في اوروبا أم في اميركا، وكيف ان التكنولوجيا المتطورة تساعد الحكومات على تشديد الرقابة على الناس. كلّ شيء خاضع لهذه الرقابة، من أجهزة الإنترنت الى الهواتف الخلوية الى الفضائيات الرقمية، الى الحواسيب الشخصية، وهي رقابة لا تصبّ في دعم الديموقراطية، بمقدار ما تساهم في تعزيز قبضة القمع ضد الشعوب كافة. ان التحدي يتمثل في كيفية إعادة بناء الديموقراطية، على أسس جديدة عمادها حراك الشارع وإمساك الجمهور بمقاليد القيادة السياسية.
ولعلّ أبرز ما يستدعي هذه الدعوة، حتى لو بدت طوباوية أو فوضوية، هو واقع العالم اليوم في ظل هيمنة العولمة. لقد تمخضت العولمة عن ازدهار اقتصادي وإطلاق عمليات اقتصادية نوعية، لكنها في المقابل تسببت في موجات من الفقر والبؤس لملايين البشر، حتى في البلدان التي اعتبرت عريقة في إنتاج العولمة وممارستها. كما ان العولمة تتسبب في إلغاء فرص عمل كثيرة كانت في ما سبق آمنة ومضمونة. يترافق ذلك مع احتكار للسلطة نحو شيء من الديكتاتورية بات متجلياً في الأنظمة الديموقراطية.
طرف غالب
في الولايات المتحدة الأميركية نرى أن جماعات الضغط من الشركات متفوقة عددياً على المشرعين. وأحينا كثيرة، لا تُجترح التشريعات إلا لتمكين الأحزاب السياسية من تحصيل ريوع من مصالح الشركات. فالشركات الكبرى سخية مع جميع الأطراف، حرصاً منها على بقاء مصالحها محمية، بصرف النظر عن الطرف الغالب. فما زال المال هو الذي يفوز في الانتخابات، والأكيد ان هذه الشركات هي التي كانت وما زالت تساهم في الجزء الأكبر من هذه الأموال.
يقدم كتاب «الثورة بلا قيادات» أربع أفكار بسيطة. تتمثل الفكرة الأولى في أن تحرّك فرد واحد أو جماعة صغيرة في نظام مترابط بقوة، لن يؤثر في مجمل النظام بسرعة فائقة. اما الفكرة الثانية فتشير الى ان الأفعال لا الأقوال هي المقنعة. فالدراسات الحديثة تسلط الضوء الآن على ما قدمه المخرجون المسرحيون الناجحون في إبرازه دائماً. حتى وسائل التواصل الاجتماعي التي يمكنها تنظيم- وتثقيف- جماعات أكبر بطرق غير مسبوقة، يبقى تنظيمها عديم الفائدة والقيمة ما لم يجر توظيفه لخدمة هدف محدد وممارسة فعل معين.
اما الفكرة الثالثة فتتعلق بالترابط والنقاش، وهي فكرة تقوم على ان صنع القرار يكون أفضل حين يشمل الناس الأكثر تأثراً. ففي النماذج الغربية حيث تسود الديموقراطية التمثيلية، بات الشعب معتاداً على فكرة ان سياسيين، منتخبين من جانبه، يجب ان يتولوا التفاوض بين جملة من المصالح المتنافسة وصولاً الى عقد المساومات الضرورية. لكنّ تغيير هذه القاعدة نحو استيعاد شكل من أشكال الديموقراطية البدائية قد يكون لها تأثير فعلي. فمثلاً، اذا أقدم حشد كبير من الناس على اتخاذ القرارات بنفسه، فسرعان ما ستظهر نتائج لافتة ومثيرة: وجهات نظر الجميع مسموعة، والسياسات تأخذ جميع المصالح في الحسبان. اما الفكرة الرابعة فتصل الى من تؤول اليه الوكالة. لقد فقدت الشعوب الوكالة وعليها استعادتها. فاذا ما حصلت استعادة الوكالة، تكون الشعوب اقتربت من إدارة شؤونها بنفسها، حيث يمكن ان تحصل على الإنجاز والإشباع.
السؤال الصعب
كيف يمكن هذه الافكار ان تتجسد في الممارسة؟ إنه السؤال الصعب والتحدي الفعلي أمام الشعوب. لقد جرى إقناع الشعوب بعدم وجود نظام أفضل من النظام الراهن القائم على رأسمالية الربح والديموقراطية التمثيلية. وهو أمر لا يبدو فيه النظام محققاً للعدالة وللحرية، وليس محافظاً على قيم الديموقراطية. فالتقدم الاقتصادي لا يشكل بمفرده معياراً للهوية، كما ان الشكوك تحيط بجملة قيم سبق ان كرّسها الفلاسفة في عصور التنوير ولاحقاً عبر تشريعات حقوق الإنسان والمواطن.
لكنّ افتراضات الكاتب حول لا جدوى القيادة للثورات تحتاج الى نقاش. صحيح ان أفكاره أتت تعبيراً عن حال من اليأس أصابت وتصيب جميع الشعوب في العالم، بما يفقدها ثقتها بالأنظمة القائمة وبطبيعة القوى القيادية القائمة عليها. فالكاتب لا يعتبر ان افتراضاته قد خضعت للامتحان، واستعادة نماذج قديمة من «ديموقراطية بدائية» لا تساعد في إقناع جمهور تشرّب أفكاراً سياسية عنوانها ان البلاد لا تدار من دون قيادات فعلية. قد يكون النقاش المشروع، ليس وجود هذه القيادة او تلك، بل في شروط إنتاج القيادة في المجتمع وتكوينها.
ومع ذلك، يصعب على اي مجتمع ان تديره الحركة العفوية لشعوبه، كما يصعب عدم الأخذ في الاعتبار الشروط المعقدة في إدارة المجتمعات في ظل العولمة الزاحفة. يبقى ان الكتاب يقدم أفكاراً قد تحمل من الطوباوية أكثر بكثير من الواقعية.