إيلي مارون خليل
(أديب وشاعر وقاص- لبنان)
قلتُ إنّ الأدبَ فنٌّ! وفنُّ التّسلية! وفنُّ التّسليةِ الجميلةِ المُفيدة! فماذا يعني!؟
أن يكونَ الأدبُ فنًّا، يعني أنّه تعبير. تعبيرٌ فنّيٌّ جميلٌ يحمل مضمونًا فكريًّا ذاتيًّا عميقًا مُتنوّعًا غنيًّا؛ وعاطفيًّا وِجدانيًّا صادقًا وعميقًا وقويًّا وغنيًّا، عن مُعاناة إنسانيّة خاصّة ـ عامّة، يؤثّر ويوحي. لكنّ هذا التّحديدَ يبقى عامًّا يمكن أن يُدرَجَ لأيّ فنّ. فالرّسم والنّحت والموسيقى والرّقص… لا يختلف تحديدُ أيٍّ منها عن تحديد الأدب. فما ينقص كلّ تحديدٍ لنميّزَ فنًّا من آخر؟
ألنّاقصُ هو طريقُ الأيصال. الوسيلة. أي: بمَ يوصل الفنّانُ تعبيرَه إلى المُتَلَقّي؟ فأيُّ فنٍّ هو تعبيرٌ فكريٌّ وعاطفيٌّ عن معاناة إنسانيّة يؤثّر ويوحي.
أُوضِحُ: إنّ الأدبَ فنّ التَّعبير، بالكلمة، عن… فالكلمةُ، إذًا، هي وسيلةُ الأديب. ووسيلة الرّسّام الظّلالُ والخطوطُ والألوانُ، ووسيلةُ النّحّاتِ الشّكلُ، ووسيلةُ الموسيقيّ النّغمُ والإيقاع، والرّاقصُ وسيلتُه الحركة. وكلٌّ من هذه الفنون، هو فنٌّ جميل. تعبيرٌ فنّيٌّ جميل. أي أنّ الفنّانَ: الأديب، الرّسّام، النّحّاتَ، الموسيقيّ، الرّاقصَ… يُقحِم قدرتَه الفطريّة، ما نُسَمّيه بالموهِبة، لصياغة تعبيرِه بأرقى ما يُمكنُه من فنّيّة جَماليّة، تجميليّة، تميّزُه من زميله في نوع الفنّ ذاتِه.
ما يميّز الموهبةَ كثير. من ذلك: الذّوقُ، الثّقافة، النّضوج، الخبرة… والمُهِمّ؟ ألّا تظهر “صناعة” الفنّان. إنّ الموهبةَ الأصيلةَ، تعرف أن “تعمل”، وتعرف كيف تُخفي “عملَها”، فيظهر الفنّ جميلًا من دون صَنعة! فالفنُّ الجميلُ هو الأصيلُ البعيدُ من أيّ تَكَلُّف، مَن يستطيع ممارِسُه إبقاءه عفويًّا، غاية في البساطة الّتي يتميز بإتقانها.
تبقى ناحية كونه تجربة خاصّة ـ عامّة في الآن نفسه. كيف يكون هذا؟ وتاليًا: هل من تناقض؟
ألتّجربة هي الباعث على التّعبير، لأنّها تؤثّر فتوحي. يمرّ الكاتبُ بظرفٍ، بحدثٍ، بتجربةٍ… يتأثّر، يُعاني، يستوحي، يعبِّر. يأتي تعبيرُه عن معاناته هو، لكنّه، في الوقت نفسِه، تعبيرٌ عن الجَماعة. يستطيع الفنّانُ الانتقالَ من الذّات إلى الجماعة. ألذّات الفرديّة ذاتٌ جماعيّة. ألحبّ حُبٌّ، وكذا الزّواجُ والطّلاقُ، والتّلاقي والفراقُ، والحياةُ والموتُ، والفرحُ والحزن، و… هي حالاتٌ يمرُّ بها النّاسُ جميعًا، وإنّما وحده، الفنّان، يحسّ بها إحساسًا مختلِفًا؛ أشدّ، أعمق، أقسى، أعتى، أعمّ… ما يجعلُه ينطلق من ذاته معمِّمًا معاناتَه، فيأتي أدبُه صادقًا، غنيًّا، مؤثّرًا، موحيًا… بما يمتلك من موهبة مميّزة، وقدرة فنّيّة، وذوق صَقيل، وثقافة شاملة، وخَيال خلّاق… فالأدب صورةُ الأديب، والفنُّ صورةُ الفنّان! ألواقع، كلُّه، يوحي إلى الفنّان الّذي ينطلق من ذاته الفرديّة ـ الجَماعيّة معًا، مُختارًا من واقعه ما يناسبُ تجربتَه وأحاسيسَه والغايات… وهذا لا تناقض فيه، فالخاصّ يُضيء على العامّ، والعامُّ يُكملُ الخاصَّ. ألفنّانُ جَماعةٌ في واحد.
هذا من حيث كون الأدب فنًّا جميلًا! فماذا عن كونه فنَّ التّسلية؟ وتاليًا: هل هذا ممكنٌ؟ وإلى أين من هذا كلِّه!؟
أزعمُ أنّ فنَّ التّسليةِ هو فنُّ الإمتاع. ألإمتاع بمفهومه النّفسيّ الرّاقي. إنّ الأديب، حين يتناول تجربتَه بالمعالَجة، إنّما يفعل انطلاقًا من رغبة مُلِحّة في أن يعبّرَ عن ذاته، عمّا يُعاني، عمّا “يرى” في تجربته، عن إحساسه، فكره، عاطفته، مستفيدًا من كلّ ما يعرف ويمتلك. وهو مُنكبٌّ على الكتابة، لا يكون يعقل ويفكّر، يكون يمارسُ هوايتَه! ألهوايةُ تسليةٌ لا مهنة. ألمهنةُ لكسب وسائل العيش، ألهوايةُ لقضاء الوقتِ بمتعةٍ تُسَلّي وتُفيد. كَسْبُ أَوَدِ العيش ليس تسلية! إنّه جِدّيةٌ وكَدٌّ واستمراريّةُ تفكيرٍ وتحليلٍ لإنتاج عملٍ ذي فائدة وغاية واضحتَين. ليس الفنُّ إنتاجيّة جِدّيّة، وإلّا كان أنتجَ ما أراد وخطّط له، بمنطق سليم.
إلى أين، من هذا كلِّه!؟
إلى لا مكان. إلى كلّ مكان.
يبقى الفنُّ يتأرجح بين الآراء والاتّجاهات والمذاهب والمدارس والغايات. ما يؤدّي إلى أيّ أمر، إلى أيّ اتّجاه، ما يُثري التّجربةَ الفنّيّة الّتي ستستمرّ تسليةً، بالنّسبة إلى المتلقّين، وفي أفضل الأحوال: “تسلية مُفيدة”!
(ألاثنين 27-6-2016)