ميشيل مارتن وأمينة صوان
شيلينجزفورست -ألمانيا (رويترز)
قبل أكثر من عام نجت ميار ونوار البليش من تفجيرات سيارات ملغومة في دمشق. والآن تذهب الشقيقتان السوريتان وكلاهما في العشرينات من العمر إلى فصول لدراسة اللغة الألمانية بقطار يمر بحدائق أنيقة ومزارع في الروابي الهادئة في بافاريا بجنوب ألمانيا.
تعيش الفتاتان هناك منذ أكتوبر تشرين الأول عام 2015. وتبين قصتهما النقلة الحضارية التي يواجهها أمثالهما من المهاجرين ومدى صعوبة التوفيق بين طموحات الباحثين عن ملاذ وأهداف ألمانيا نفسها.
وصل حوالي نصف مليون سوري إلى ألمانيا خلال العامين الأخيرين ضمن موجة لم يسبق لها مثيل من اللاجئين تجاوز العدد الإجمالي فيها مليون شخص. وتقول الأجهزة الأمنية إن أغلب من تقدموا بطلبات لجوء كانوا من الرجال قلة منهم يميلون للعنف أو ممن يعتنقون أفكارا جهادية سرا.
ويشعر بعض الألمان أن من واجبهم الترحيب بالساعين إلى اللجوء. غير أن لجوء قلة منهم للعنف غذى مشاعر العداء تجاههم. وتقول وزارة الداخلية إن متوسط حوادث الاعتداء على بيوت طالبي اللجوء يتجاوز اعتداءين في اليوم الواحد.
وقد حصلت الشقيقتان السوريتان على موافقة للإقامة ثلاث سنوات وهما أكثر انفتاحا على الغرب من بعض اللاجئين السوريين. فهما ترتديان الجينز ولا ترتديان الحجاب. وفي العيد الماضي قضت الاثنتان أياما في صنع بطاقات ووزعتاها على الجميع في البلدة التي تعيشان فيها دليلا على الصداقة.
ورغم ذلك تقول ميار “معظم الناس … لا يفهمون حقا الخوف والوضع الذي تركناه خلفنا في سوريا.”
وتشدد الحكومة على أن ألمانيا بحاجة لاستيراد الأيدي العاملة. فقد ذكرت دراسة نشرها معهد كولونيا للأبحاث الاقتصادية عام 2016 أن عدد سكان ألمانيا في سن العمل سينخفض على الأرجح من دون الهجرة بنحو 500 ألف كل عام فيما بين الآن وعام 2035.
وتحتاج ألمانيا للعمال المهرة في الوظائف التقنية مثل هندسة السيارات والمعادن والسباكة وتطوير البرمجيات بالإضافة إلى الصحة والتمريض.
والمشكلة أن هذا المسار لا يلائم الفتاتين. فقد حصلتا -مثل واحد تقريبا من كل خمسة سوريين ممن وصلوا في الفترة الأخيرة إلى ألمانيا- على قسط وافر من التعليم وتأملان دخول الجامعة غير أن المسؤولين في النظام التعليمي يضغطون عليهما لاتباع مسار مهني.
وقالت ميار (21 عاما) “أسوأ ما في الموضوع أن … الناس … يعتبروننا لاجئين أغبياء لا فائدة فيهم ولن ينجزوا أي شيء.”
“الطبيعة الخلابة”
في سوريا كانت الشقيقتان طالبتين في جامعة دمشق. كانت ميار تدرس الأدب الانجليزي وكانت نوار واحدة من أفضل خمس طالبات في قسم التصميم الداخلي. وكانت والدتهما طالبة معهما في الجامعة وتدرس الأدب الفرنسي. أما والدهما منير البالغ من العمر 53 عاما فكان يعمل بالحكومة مدرسا للتصميم التقني.
في عام 2012 كان منير مارا بمحكمة في دمشق عندما انفجرت سيارة ملغومة. وأجريت له عمليات لاستخراج 27 شظية أغلبها من الزجاج الأمامي للسيارة من وجهه وصدره.
وفي العام التالي دمرت سيارة ملغومة أخرى شقة الأسرة بالطابق الرابع في إحدى البنايات.
غادرت الشقيقتان دمشق مع والدتهما وأشقائهما في أغسطس آب عام 2015. وتبعهم الأب والتأم شمل الأسرة في عيد الميلاد الماضي.
أسكنت الحكومة الأسرة في بلدة شيلينجزفورست الهادئة مع نحو 40 لاجئا آخرين يبلغ متوسط أعمارهم 41 عاما.
وأسرة البليش هي الأسرة السورية الوحيدة في البلدة التي يبلغ عدد سكانها 2275 نسمة.
تقع البلدة على ما يعرف بالطريق الرومانسي وهو من المقاصد السياحية المعروفة ويصفه موقع ترويجي بأنه “يجمع بين الثقافة والأنشطة الصحية والاستجمام والطبيعة الخلابة.”
ويقول مايكل ترزيبينسكي رئيس البلدية إنه يود بقاء بعض اللاجئين بصفة دائمة “فبينهم من يؤدون عملا عظيما وأفراد يريدون فعلا الاندماج الكامل في المجتمع.”
وفي مارس آذار الماضي رتب هورست دولينجر الذي يملك الشقة التي تقيم فيها الأسرة ليقضي منير فترة تدريبية في مكتب الهندسة المعمارية الذي يملكه. واستعان بواحد من العاملين معه للمساعدة في إتمام الإجراءات البيروقراطية. وهو يأمل أن يوظف منير في المستقبل. لكنه قال “هؤلاء الناس يحتاجون للوقوف على أقدامهم” أولا.
تطل شقة أسرة البليش على مرج عشبي وبيوت حديثة صفراء ووردية وزرقاء. وتحصل الأسرة على 1024 يورو (1080 دولارا) من الدولة كل شهر وقدمت لهم امرأة ألمانية بعض الأثاث وجهاز كمبيوتر محمول وجيتار.
وقد التقى جيرالد باير المتطوع الألماني بالأسرة للمرة الأولى في حفل عيد الميلاد عام 2015 حيث كان يرتدي زي سانتا كلوز. وقال إن الأسرة تتعلم اللغة الألمانية بسرعة.
وأضاف “هم أيضا في غاية الانفتاح والبشاشة ويتواصلون مع الآخرين وأعتقد أن هذه ميزة كبيرة.”
وعقب وصول منير حضر هو وزوجته فصولا لأداء التمارين الرياضية مع مجموعة من الناس الأكبر سنا. لكن الزوجة أصيبت بألم في الظهر وتوقفت عن الذهاب لهذه الفصول. وعندما أدرك منير أنه سيصبح الرجل الوحيد توقف أيضا عن الذهاب. وأنشأ صفحة على فيسبوك لتعزيز التفاهم بين السوريين والألمان.
اللغة الألمانية
بدأت الشقيقتان أخذ دروس في اللغة الألمانية بمدرسة تقنية في نوفمبر تشرين الثاني عام 2015 كما تلعبان الكرة الطائرة في ناد محلي.
وفي بعض الجوانب وجدت الشقيقتان أن التحرر في ألمانيا بلغ حدا مريعا.
في الطريق إلى المدرسة لاحظتا فتاة يبدو أنها لا تفتأ تغير لون شعرها من الأخضر إلى الأرجواني إلى الوردي ثم إلى الأزرق. ودهشتا لأنهما شاهدتا نساء يرتدين الشورت القصير أو يمشين وبطونهن مكشوفة.
قالت نوار (22 عاما) “الناس هنا ليس عندهم قيود ليس عندهم قواعد للملابس ويمكنك أن ترتدي ما تريد وأن تصبغ شعرك. وهذا يجعلنا نفكر فيما إذا كان هذا صالحا أم لا.”
في أحد الفصول عرض عليهم مدرس صورة للفنان كونشيتا فورست الذي يظهر بمظهر نسائي وملابس نسائية وسبق أن فاز في مسابقة يوروفيجن للغناء. وقالت ميار وقد اتسعت عيناها السوداوان دهشة “كان يرتدي فستانا لكن له لحية أيضا.”
أتقنت نوار حالات التذكير والتأنيث والجماد في اللغة الألمانية. وقالت “هو ليس امرأة وليس رجلا.” واستعرضت إتقانها للغة باستبعاد أدوات التعريف غير الملائمة له واختيار أداة التعريف التي تناسبه.
وكان رد فعل سوريين آخرين مختلفا تماما عن هذا التسامح. لكن ميار تعتقد أنها ستعتاد التعايش مع الحريات مثل المثلية الجنسية.
قالت ميار “في البداية عندما سمعت عنها خطر ببالي أن هذا جنون وغباء وأنه لا يوجد في العالم من يفعل ذلك. لكني فكرت وقلت لنفسي لا بأس. هم غريبون بعض الشيء. ربما بعد عام أقول هذا جيد. حسن.”
وقال هانز ايمرت المدرس المتقاعد في شيلينجزفورست إنه يتفهم رد فعل الشقيقتين. وهو معجب بصمودهما الأخلاقي ويعتقد أن كثيرين غيره من الألمان معجبون به أيضا.
قال إيمرت “بل أعتقد أن ذلك قد يوفر حافزا ايجابيا.” وأضاف أن أخلاق الأسرة تتضمن قيما “فقدناها للأسف.”
ولم يكن الجميع متفهمين. فعندما كانت الفتاتان توزعان بطاقات العيد حيت ميار امرأة تروي بعض النباتات. فقطبت المرأة جبينها واستدارت وطلبت من ميار الابتعاد وقالت إنها لا تريد التحدث معها.
وتشعر قلة بأن اللاجئين يحصلون على قدر من الاهتمام الألمان أولى به. قالت ريتا تانفسكي مدربة الكرة الطائرة للفتاتين إنها تعرف رجلا عاطلا قال “اللاجئون يحصلون على كل المساعدات فلديهم الوقت الذي يساعدهم في العثور على وظيفة أما أنا فلا أحصل على شيء.”
صعوبات في التعلم
الأولوية القصوى لدى أسرة البليش للتعليم. ويقول الأب إن له معارف في السويد لكنه جاء إلى ألمانيا على أمل أن تكون أفضل دراسيا لأولاده. وتريد ميار أن تعمل بتدريس اللغة الانجليزية أو بالدراسات الأمريكية على المستوى الجامعي.
غير أن ألمانيا تركز تركيزا شديدا بصفة عامة على التدريب المهني. فطبقا لبيانات وكالة الإحصاء الأوروبية (يوروستات) كان نحو 30 في المئة فقط من السكان في سن 30 إلى 34 عاما يحملون شهادات جامعية في عام 2015. وهذه النسبة من أقل النسب في أوروبا إذ أنها تبلغ في السويد 50 في المئة.
ولا توجد بيانات حول عدد اللاجئين الذين يدرسون في الجامعات الألمانية لكن إدارة التبادل الأكاديمي الألمانية تقدر أن ما يتراوح بين 30 ألفا و50 ألفا من اللاجئين الذين وصلوا عام 2015 وصلوا بمؤهلات تؤهلهم لدخول الجامعة.
وتعهدت وزارة التعليم الألمانية بتخصيص 100 مليون يورو حتى عام 2019 لمساعدة اللاجئين على الاستعداد للجامعة. وقالت متحدثة إن الإقبال شديد على تخصصات الطب وإدارة الأعمال والرياضيات وعلوم الكمبيوتر والعلوم الطبيعية والتكنولوجيا.
في المدرسة التقنية قال المدرسون للفتاتين ميار ونوار إن عليهما قضاء سنتين في تعلم اللغة الألمانية ثم ثلاث سنوات في تعلم مهارة أو مهنة. ودفعت بهما المدرسة لحضور معرض للوظائف في نورمبرج حيث شاهدتا من يعملون بالحياكة والطهي وإصلاح السيارات أو تعبيد الطرق. ولم يرق لهما أي من هذه الأعمال.
وقالت ميار في يونيو حزيران “أصاب بالصداع الآن كلما سمعت كلمات مهنة أو خطة للتدريب المهني. أريد الذهاب إلى الجامعة.”
يقول جوشين أوتمر الأستاذ المتخصص في تاريخ الهجرة بجامعة أوزنابروك إن ألمانيا شأنها شأن الدول الأوروبية الأخرى تركز دائما على الدور الذي يمكن للاجئين أن يلعبوه في سوق العمل. وهو يعتقد أن على الحكومة والجامعات أن تبذل جهدا أكبر لمساعدة من يريدون الدراسة.
في سبتمبر أيلول الماضي وجدت الشقيقتان أخيرا فصولا لتعليم اللغة الألمانية بجامعة قريبة. وبدأتا تشعران أنهما على الطريق السليم.
قال منير “ضاع منا الكثير في سوريا. ضاعت منا سوريا لكن لا نريد أن يضيع مستقبلهما.”
(الدولار يساوي 0.9487 يورو)