ميشلين حبيب
(أديبة وإعلامية- لبنان)
هي ليست المرة الأولى التي يرفع فيها جوزف أبي ضاهر الصوت باسم العلم والمعرفة ويطالب و”يمسح الرماد الأسود الذي تساقط على وجه بلادنا ممن ظنوا أنفسهم وجهها”. في كتابه، “بيتر مدوّر من جونيه إلى جائزة نوبل”، مسح جوزف أبي ضاهر الرماد عن السير بيتر مدوّر العالِم الحائز على جائزة نوبل عام 1960 في الطب والفيزيولوجيا. مدوّر هو اللبناني الأوّل، والعربي الأوّل، والشرقي الأوّل (الشرق الأدنى) الذي نال هذه الجائزة الإنسانيّة الرفيعة، وشرف التقدير لاكتشافه مع بورنت (Sir Frank Macfarlane Burnet) “التحمّل المناعي المكتسب” (Acquired Immunological Tolerance).
بإضاءته على السير بيتر مدوّر (أول رجل من أصول شرقية ينال هذا اللقب الذي يمثّل واحدًا من أهم الألقاب في بريطانيا، وأعلاها شأنًا، تمنحه الملكة للشخصيات المهمة ذات التأثير العالمي في المجالات: العلمية، الأدبية، والفنية …) يكون أبي ضاهر قد أضاء ليس فقط على إنجازات عالِم فذّ وعبقري، وإنما أيضًا على مبدع أديب ومفكر وفيلسوف وعلى شخصية عالمية انطلقت من جذور لبنان لتفرش ظلّها على العالم والبشرية.
لبلدية جونيه، بشخص رئيسها السيد جوان حبيش، الشكر على دعم مبادرة الأستاذ جوزف أبي ضاهر الفريدة لترسيخ هذه الشخصية العبقرية العالمية اللبنانية الجذور التي خدمت الإنسانية من خلال مساهماتها وأبحاثها العلمية في المجتمع والذاكرة اللبنانية.
يقول أبي ضاهر عن كتابه ذات العنوان الذكي والشامل والمعبّر جدًا “بيتر مدوّر من جونيه إلى نوبل”، “هو ليس كتاب سيرة بل إضاءات عليها. وليست مادته تحليلية تقويمية تستلزم لعرضها إدراك عَالِم، أو باحث في العلوم، فيدخل إليها من باب المعرفة العلمية… هو مرآة تعكس ما عُرض أمامها، ولو عن بُعد، مع حذر في انتقاء الكلام واختياره، مدفوعًا بأمانة مراجعه التي توفّرت (بشكل بسيط)، بعد أكثر من ربع قرن على غياب “الاسم – العَلَم”، وانسحاب نتاجه المطبوع إلى أمكنة بدا الضوء عليها خافتًا”.
على الرغم من هذا التوافر البسيط للمراجع، استطاع جوزف أبي ضاهر بأسلوبه المترابط الذكي، وبدقته وحِرَفيته، أن يخرج بمرجع مهم. جوزف أبي ضاهر ليس عالمًا، لكن كتابه مشغول بطريقة علمية كان فيه وفيًا للمعلومات العلمية الصحيحة؛ هو أيضًا “مكتوب بحب” كما يقول، وهذا واضح جدًا إذ لا يمكننا إلّا أن نقرأه بحب بسبب أسلوب كاتبه ومجهوده والشخصية العظيمة التي يتكلم عنها.
جمع أبي ضاهر في هذا الكتاب بين الأسلوب المقتضب والمُكثّف بالمعلومات، وهذا ليس غريبًا على من أتقن السهل الممتنع إن كان في قلمه أو في ريشته. هو موجز لكنه وافٍ وشيّق.
دقة وغنى المراجع التي توفّرت في الكتاب من خلال الصور والوثائق والحواشي تدلّ على صبر ودقة وتمحص أديب ومؤلف وكاتب طيّع التاريخ وسحب منه معلومات ونصّها لتأتي في قالب مرجع مهم.
تضمّن الكتاب زيارة بيتر مدوّر إلى لبنان ولقاءاته والحوارات التي أجريت معه، وكل ذلك موثّق بصور من الصحف في ذلك الوقت، بالإضافة إلى مراجع أخرى استعان بها الكاتب. كما أنه استشهد بأقوال لبيتر مدوّر، ما يُعدّ لفتة ذكية من الكاتب جعلت نصه أقوى وأكثر تشويقًا ومصداقية، إذ أدخلنا إلى فكر هذا الرجل العظيم الذي كان يُعيز العبقرية إلى أنها “ثمرة جهاد شاق وتفكير عميق، وقدرة على استيعاب غير المعلوم”، ص. 41.
أسلوبه القصصي في الكتاب جميل جدًا. فرغم كونه كتاب إضاءة على ملامح سيرة، كما يشير الكاتب، لكنه لا يخلو من الأسلوب الأدبي حيث ندفع ناولون رحلة نتنقّل خلالها على باخرة جمال قلم جوزف أبي ضاهر عبر التاريخ لنعبّ ثقافة وأدبًا وجمالًا وقيمة.
وأنت تقرأه يُخيّل إليك أنك تشاهد فيلمًا وثائقيًا لا يحتاج إلّا إلى شاشة، مع مخرجه العبقري جوزف أبي ضاهر، الذي يحرّك كاميرته مضيئًا على الأحداث من مكان إلى آخر ومن بلد إلى آخر. تارة على مرفأ بيروت، وتارة في لندن، وأخرى في غادير عند كومة حجارة، وبعدها إلى عباب البحر …
يأمل أبي ضاهر أن يكون “بيتر مدوّر من جونيه إلى نوبل” “مدخلًا إلى الأشمل والأعمق والأكبر … فـ”بيتر نقولا اغناطيوس مدوّر” يستأهل التذكير به خدمة للبلد الذي يفاخر بأنه جذوة منه مضاءة أمام كل إنسان، وفي كل مكان من العالم”، ص. 101. وهو كذلك بامتياز. الكتاب كتلة تثقيف ومعلومات ومراجع مهمة جدًا. هو مدخل يفتح المجال لدراسات أعمق ويساعد كل من أراد البحث أكثر عن بيتر مدوّر أو عن شخصيات لبنانية وعالمية أخرى. حتى أن أبي ضاهر وفّر شرحًا عن ألفرد نوبل وجائزته. الى هذه الدرجة هو حريص ومحترف وواع على الثقافة والتثقيف والحِرفية في العمل.
قال العالم البريطاني السير كريستوفر بوث عن السير بيتر مدوّر في المجلة الطبية البريطانية: “علماء آخرون فازوا بجوائز نوبل، وثمة مفكرون وكتّاب آخرون مرموقون، وثمة موسوعيو الثقافة وفلاسفة آخرون، وثمة آخرون أيضًا أظهروا شجاعة في أوقات المحن. إلا أن رجلًا واحدًا فقط في عصري يجسّد بمثل هذه الروعة سجايا جميع هؤلاء الأفراد”.
لمن يحاول أن يزيّف التاريخ، ها هو التاريخ يأتي مهرولًا بقلم جوزف أبي ضاهر صارخًا في وجه الجميع، منتفضًا وهازًا النفوس لتستفيق، فارضًا نفسه بوقائعه وتواريخه، ومصادره ومراجعه، معطينا إياها قائلًا، تفضلوا هذا أنا وهؤلاء هم رجالاتي. وبعد عمر طويل نتمنى أن يعود التاريخ ليصرخ قائلًا عن جوزف أبي ضاهر، هذا مبدع آخر من بلادي، حفظ تاريخها وساهم في بناء ثقافتها، وإعلامها، وأدبها، وحفظ ذاكرتها ووقف شاهدًا على عظمة أرزها الطبيعي والبشري.